نص خطبة:الإرتقاء الروحي في شهر رمضان والتفوق الدراسي وسام الأبناء والبنات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف أن رسول الله (ص) قال: «من صلى عليّ صلى الله عليه وملائكته، ومن شاء فليُقلّ، ومن شاء فليُكثر»([2]).
إطلالة شهر الخير:
﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾([3]).
إنه تشريع سهل يسير مرن ليس فيه عنت، إنما نحن الذين وضعنا العنت على ظهورنا، ولبسناه جلباباً، وصرنا نقطع الأوقات تحت وطأته فيما لا يُغني ولا يُسمن ولا يقدم ولا يؤخر. فشهر رمضان ربيع القرآن، وجُنّة الإنسان، أي الترس الذي يتقي به الوقوع في المهالك.
وهنا سؤال مهم: هل نستطيع استرجاع ما حصل في شهر رمضان الماضي من خلال أرشيف الذاكرة؟ فهذه وقفة تأمل يرجع فيها أحدنا بالشريط إلى الوراء قليلاً، فقبل أحد عشر شهراً كان شهر رمضان يطرق أبوابنا، وها نحن اليوم نطرق أبوابه. فما الذي حصل؟ وما الذي جنيناه؟ وما الذي فرطنا به؟ كل ذلك مخزون في الذاكرة. فمن منا لا يسترجع الذاكرة فيما حَملتْ وحُمّلت في جهازه الصغير (الجوال)؟ فلعلّ رسالة مهمة أو مكالمة تركت أثراً وبصمةً في مسيرة حياته، سواء في مسار التقدم أم في مسار التراجع والنكوص. فنحن نُجري هذه العملية في أجهزتنا الذكية، فنحذف صوراً ورسائل ونحتفظ بأخرى، وكل ذلك في متناول أيدينا، فهنالك لوحة وأزرار وأنامل متحركة.
والذاكرة التي في أدمغتنا أقرب من هذا الجهاز، فهل حاولنا أن نسترجع ما فيها؟ بل هل بمقدورنا أن نسترجع؟
إن مشكلة الشعوب النامية أنها تخشى الاصطدام بالحقيقة، فيكون ما تتوقعه خلاف ما هو الواقع، لأنها فرطت بالكثير، فعندما تُصدَم بالواقع تكون في وضع لا تحسد عليه، بل يرثى له.
وهنالك سؤال آخر: هل كان رمضان الماضي حاضراً معنا طوال العام المنصرم، من خلال آثاره الروحية التي يفترض أنها ترتبت على ممارساتنا؟ فقد عمرت ليالي القدر بالأصوات العاليات والأرواح الطيبات، وتمازجت فيما بين الجميع أعلى الصلوات. فهل استمر هذا النهج معنا أم أننا أغلقنا الأبواب وشفّرنا الروح من خلال أرقام معينة تذهب وتجيء يزداد فيها الرصيد أو يقل أو يحافظ على حالة من التوازن في فترة معينة؟
والسؤال الثالث: ما الذي أعددناه اليوم ونحن نتطلع لهذا الشهر الفضيل الذي لا يفصلنا عنه إلا أيام يسيرة من أبعاد معنوية ومادية؟ نظرةٌ تحتاج إلى تأمل طويل. فمن منا لم يعدّ القوائم مع زوجته في بيته من احتياجات رمضان المادية ومأدبته اليومية؟ ومن منا لم يبذل جهداً، وربما حمّل نفسه ما لا تحتمل في تأمين ذلك؟
هذا في الجانب المادي، فماذا فعلنا في الجانب المعنوي؟ أبناؤنا وبناتنا ونساؤنا ربما وضعوا قوائم، وأدرجوا برنامجاً تلفزيونياً خاصاً لهم في ليالي رمضان، كأن يكون المسلسل الفلاني أو البرنامج الفلاني، فلا تجد في قوائمهم صلة رحم، ولا خطوات في بر الوالدين، ولا غلقاً لملفات معلَّقة مع الآخرين، ولا شيئاً من أعمال البر والخير. فهل هذا يمكن أن يعيش رمضان كما أراد الله تعالى؟
أما السؤال الرابع: فإذا كان رمضان ربيع القرآن كما ورد في الروايات الكثيرة، بغض النظر عن اعتباراتها السندية، أ فليس من الحري بنا أن نسأل أنفسنا: هل كان القرآن حاضراً معنا فيما مضى كي يسعد بنا في ربيعه، ويفتح الباب لنا كي ندخل أفواجاً، فنقلب الصفحات ونستنطق الآيات؟ وهل كان رفيق دربنا في تلك السنة الماضية؟ فكم مرة فتحنا القرآن عند صلاة الفجر؟ وكم مرة تعاهدناه عند صلاة الظهر؟ وكم مرة رجعنا إليه عند صلاة المغرب؟ وهل كان بين أيدينا ونحن نؤدي نافلة الليل؟ أم كنا في سفر عنه بعيد؟
وجاء رمضان بثوبه الجديد، ونسأل الله تعالى أن يبلغنا وجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها صيامه وقيامه، وتلاوة القرآن فيه، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والعفو عمن أساء.
جاء رمضان يحمل معه العديد من القضايا التي يطرحها بين أيدينا جميعاً، فنحن ضيوف الله فيه، وضيافة الله الكبرى على بساط الصوم، والصوم يحتاج إلى إعداد وأجندة، كي يخرج الشهر من بين أيدينا ونحن في أشد الشوق إليه. فعلى المريض أن يرتب أوراقه، فلا يلقي بنفسه في التهلكة، فمن كان يعاني مرضاً من الأمراض التي تثقل كاهل الصائم، فعليه أن يراجع الطبيب المختص، ليضع له خطة عمل. فالتعنّت وإكراه النفس على الصيام لا يُسقط الواجب. والدين يسر لا عسر فيه، فإن قال لك الطبيب المأمون: لا تَصُم، فيحرم عليك الصوم. وإن قال: يمكنك الصوم، فصياماً مقبولاً إن شاء الله تعالى.
ونحن فيه ضيوف القرآن الذي ينتظرنا أيضاً، تلاوةً وتدبراً وتفسيراً. وأشدُّ على أيادي الشباب الأحبة فأقول: هنيئاً لكم الجلسات التي تجتمعون فيها، ولا نحملها إلا على محامل الخير، ولا نقف في صف من يشكك فيها، ولكن أقول: ليكن للقرآن نصيب من جلساتنا، ولو بواحدة من السور القصار، نستنطقها ونتداول محتواها فيما بيننا. أو أن نستحضر رواية من الروايات التي تعالج بعض المشاكل في حياتنا، مما ورد عن محمد وآل محمد (ص).
ونحن ضيوف الدعاء والعبادة، فأنتم أيها المؤمنون والمؤمنات من الشباب وغيرهم، من يرسم هذه اللوحة الجميلة، وأنتم من يسافر بالدعاء من الأرض إلى السماء، وأنتم مظنة الإجابة للدعاء، وليس منا أحدٌ إلا وهو محتاج لمؤمن يرفع دعوته بين يدي الله سبحانه وتعالى. فقد تستجاب الدعوة على لسان المؤمن الآخر أفضل مما يكون عليه حالها بلسان الداعي نفسه. فتكون الإجابة بسبب التشبث بالمؤمن الذي سافر في سفر ملكوتي روحي عبادي. فهذه فرصة ثمينة للمناجاة والسفر في العوالم الملكوتية الغيبية من خلال مدرسة الدعاء عند أهل البيت (ع)، فهي مدرسة عظيمة لها طابع خاص ووهج مميز، لكنها لا تتأتّى إلا لمن يعيش أهل البيت (ع) في سلوكهم قولاً وعملاً. جعلنا الله وإياكم من أولئك.
ثم ضيافة أهل البيت (ع) من خلال المناسبات الخالدة، من قبيل وفيات العظماء، كالسيدة خديجة أم المؤمنين (ع) وأبي طالب (ع) وشهادة الإمام الأعظم المولى، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وغيرها من المناسبات التي لا بد أن نقف عندها، ونلج في حريم الضيافة من خلالها.
وكذلك مواليد الأطهار، كما في ذكرى ميلاد السبط الأول، الإمام الحسن المجتبى (ع). ذلك الإمام العظيم المظلوم، بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فهو مظلوم من الدرجة الأولى في حياته وجهاده وفكره وصبره وصلحه وشهادته وقبره وزيارته. مظلوم من محبيه ومناوئيه.
ففي هذه الليلة، ليلة ميلاد الإمام الحسن (ع) ستكون هناك مأدبة كالعادة إن شاء الله تعالى، وهي منكم وإليكم رجالاً ونساءً، والجميع في الخدمة والضيافة والاستضافة على حدٍّ سواء، فليس لدينا صغير ولا كبير، والجميع كبار في أعيننا.
الأخذ بأسباب النجاح:
وفي هذه الليلة نستضيف الأستاذ العزيز مهدي، وهو ماجستير إدارة أعمال من الجامعة السعودية بالتعاون مع جامعة كولارادو الأمريكية بمرتبة الشرف الأولى، وأمثال هؤلاء نرفع رؤوسنا بهم. وسيكون عنوان المحاضرة: ماذا ستفعل في مئة يوم؟
ومن هنا أقول لأبنائي وبناتي: اجعلوا الطموح عالياً، وارفعوا السقف في طموحاتكم، ولا تقبلوا بالأدنى. وكثيراً ما كنت أقول وأكرر: العلم سلاح في يد الأعزل.
ومن هنا أقدّم بطاقة تهنئة ومباركة لكل شابّ وشابة تجاوز مرحلة الامتحان النهائي، وحققوا الطموح لأنفسهم ولأهاليهم وللمجتمع، وأصبحوا لبنات صالحة لبناء الوطن والأمة. لهؤلاء أقول: ألف ألف مبروك، ونحو مستقبل أفضل.
كما أننا ندعو لمن لم تساعدهم الظروف في هذه الدورة على تجاوز الامتحان، وهم اليوم قلة قليلة والحمد لله، ونسب النجاح كبيرة وعالية قياساً مع الإخفاق الذي لا يكاد يذكر.
أقول: رفقاً بالأبناء في جانبين:
الأول ـ رسم معالم التوجه في التخصصات التي يرغبون فيهان لأنهم من يعنيهم الأمر أولاً وبالذات، فلا بد أن نرى أولاً ما هو الطموح الأول لديهم، كي نستطيع أن نقف معهم موقف المساعد المعين، وليس المكرِه الملزِم، لأن عواقب الإكراه وخيمة، وهي أساس الفشل. فمن أراد لولده التفوق والتقدم والإبداع فلينظر ماذا يرغب؟ وإلى أي شيء يميل؟ سواء في الجامعة أم ما بعدها. بل لا بد أن يرسم معالم حياته منذ اليوم، بل منذ أيام المتوسطة.
الثاني ـ ينبغي أن لا نعنّف من أخفقوا، فقد لا يكون من أخفق هو السبب الأول والأخير، فربما نكون نحن الآباء والأمهات شركاء، ولنسأل أنفسنا: هل قدمنا العون لهم كما ينبغي؟ وهل أن العون يُختزل في دريهمات أدفعها لابني أو بنتي ليستعينوا بها عند الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة؟ أو هو تأمين سيارة أو ما شابه ذلك؟ أم هو أبعد من ذلك؟
كما أهمس في أذن كل من أخفق من البنين أو البنات فأقول: إن كلامي مع الأهل وأولياء الأمور لا يعني أنني أساعد على الفشل والإخفاق، إنما أطالب أن يكون التوجيه منطقياً مدروساً يتماشى مع بُعد المرحلة وعمقها.
كما يجدر بنا أن نقدم بطاقة شكر للأسرة الواعية لأهمية العلم والتعليم وتفوق الأبناء في ذلك، وهذه الأُسر اليوم كثيرة ولله الحمد، إذ نجد اليوم الكثير من الأسر الجديدة التي تُشكَّل حديثاً، فيكون على رأس الأسرة أستاذ أو طبيب أو مهندس أو محامٍ أو غير ذلك، وهذا يدل على أن السقف قد ارتفع وسط المجتمع علمياً وثقافياً وفكرياً، بل حتى مادياً.
والأمر الآخر: أن نقدم بطاقة شكر للأبناء والبنات الذين باتوا يشعرون بأهمية العلم والتفوق فيه، والشعور بما يقوم به أولياء الأمور من دور في سبيل تقدمهم. وينبغي أيضاً أن لا ينتظر الأب والأم الشكر من أبنائهم وبناتهم فقط، بل عليهم أن يقدموا لهم الشكر أيضاً، لأنهم سافروا بأسمائهم ورفعوا من قيمتهم. فبقدر ما يفرح الإنسان بنجاحه، ستكون فرحته أكبر إذا ما رأى أن النجاح تجسد في واحد من أبنائه أو بناته، فكيف إذا كان الجميع يدفعون العجلة إلى الأمام ويرفعون الراية خفاقة عالية؟
وكذلك مدراء المدارس وأساتذة التربية والإشراف، في المراحل الثلاث، الابتدائية ـ وهي الأساس، فدور هؤلاء كبير جداً بل أكثر خطورة من دور أساتذة الجامعات ـ والمتوسطة والثانوية أيضاً. لهؤلاء جميعاً نقدم جزيل الشكر على ما يقومون به من رعاية تربوية وتعليمية.
والجهة الأخرى التي تستحق الشكر هي أبناء المجتمع بكل توجهاته، لما بات يحمله من وعي وثقافة عالية أسهمت في بناء وحدة تكاملية بين الجميع على أساس الشعور بالمسؤولية. وهذا واضح وبيّن، كما في سؤال البعض عن أحوال أبناء الآخرين الدراسية وبناتهم. فهذا السؤال يترك الكثير من الأثر الطيب في الآباء والأبناء والبنات. فلهذا المجتمع أجل الاحترام وأعظم التقدير.
وهنالك أمور لا بد أن نلتفت إليها في أيام العطلة، وهي محاولة استكشاف الموهبة الكامنة في النفس، فليس هناك من يفتقر لموهبة، ولكن الموهبة كالحجر الكريم، فربما يكون تحت الأرض فلا تشعر بقيمته، ولكن عندما تستخرجه من التراب ثم تدفعه للصانع ليجري عليه الصقل والتعديل، يكون في غاية الروعة.
فربما كان في داخلك شاعر أو ناقد أو حكيم أو فيلسوف أو طبيب حاذق، أو رجل أعمال ناجح، أو رياضي مبدع، وهكذا. فعليك أن تستكشف ذلك أولاً.
ثم بعد ذلك يأتي دور تكميل المهارات، فمن استكشف الموهبة، ثم صقلها، لا بد له من تكملة المهارات فيها، ولديه مئة يوم ن العطلة بإمكانه أن يتقدم فيها كثيراً.
والأمر الأخير الذي أود ذكره هنا هو أن يستغل الطالب هذه العطلة في المراجعات الرسمية، المتعلقة بالبنوك أو الرُّخص أو البطاقات أو غيرها من المعاملات الرسمية، وأن لا يؤجل ذلك ليكون بعد العطلة وأثناء الدوام، فإن أخذ الإجازة أثناء الدوام يؤثر كثيراً في المسيرة الدراسية، ليس في اليوم واليومين فحسب، إنما في الحصة الواحدة.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.