نص خطبة:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظاهرة الحداثة في وسط الأمة
ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): «من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة»([3]). فهو يتضمن مجموعة من المطالب، التي لو أردنا استعراضها تفكيكاً وتركيباً واستخلاصاً للنتائج، لطال بنا وبكم المقام.
فمساحة العامة من الناس، إذا تسيَّد وضعَها العقل، استقرت الأمور، وأخذت بمجاريها إلى ما هو مخطط له، وعلى العكس من ذلك لو تخلف هذا العامل، وهو العقل.
ويؤكد النبي الأعظم (ص) هذه الحقيقة وهو يقدم درساً لأصحابه وقتئذٍ، وللأمة عامة عندما تلغى الخصائص.
ففي الحديث الشريف أن بعض المسلمين ذكروا عند رسول الله محمد (ص) شخصاً وأثنوا عليه، إما بالعبادة أو العلم أو أنه صاحب أيادٍ بيضاء على المجتمع والأمة من حوله أو غيرها، فقال (ص): كيف عقل الرجل؟ فقالوا: يا رسول الله، نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟([4]) فقال (ص): إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر([5])، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات، وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.
فمن الأمثلة على تخلف العقل وتقدم العبادة أن الإنسان يجمع المال للزيارة، أو طلب العمرة، أو التردد على بيت من بيوت الله تعالى، وهي مستحبة بلا شك، ومن الأمور الممدوحة، ولكن في المقابل قد تتحول حياة الأسرة والبيت والزوجة إلى الشلل التام، وهذه عبادة بلا عقل، لأنه خلّف وراءه بيتاً تتقاذفه الأمواج، أو على الأقل هو عرضة لأن تتقاذفه يميناً وشمالاً. فهذه عبادة، لكنها على حساب الأهم، وهو حفظ البيت والإنفاق على الأهل، فإنفاقك على أهلك أولى وأهم من أن تُدير ظهرك لهم، وتُيمم شطر مقام من المقامات.
وقد يقال عند السؤال عن ذلك: إن العيال لهم الله، ولكن المقامات المقدسة والأضرحة لها الله أيضاً.
فالنبي (ص) يحذرنا من عدم التوازن في القراءة بناء على مدركات العقل.
وعن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «هبط جبرئيل على آدم (ع) فقال: يا آدم، إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث([6]) فاخترها ودع اثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل، وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين. فقال آدم: إني قد اخترت العقل([7]). فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل، إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان. قال: فشأنكما، وعرج»([8]).
إذن، مساحة العلماء ومساحة الناس، تشكلان المنطقة التي يتحرك فيها الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر كمنطقة ثانية لجدولة أعماله.
نظرة في العقل والحداثة:
إن أصحاب الفكر الحديث بدأ طابورهم يتوثب ويجتاح بعض المساحات على حساب أصحاب الفكر الذي يمكن أن نسميه (المحافظ) تلطيفاً للفظ، وإلا فربما هناك ما هو أكثر من ذلك. فإذا قلنا مثلاً: هذا فكر رجعي وذاك تقدمي، فقابلية التوازن مطروحة، ولكن إذا قلنا: هذا فكر محافظ، وذاك تقدمي أو حضاري أو حداثي أو علماني، فالمعادلة غير مستقيمة، لأن المرجِّح للقسم الأول هو الدين الذي يُحافَظ عليه، أما الثاني فلا شيء فيه يحافظ عليه. والذي شدّ الإنسان للدين في المرتبة الأولى هو العقل، الذي افتتحنا به الحديث في الروايات الشريفة.
لكن أصحاب المسار الحداثوي تحركوا وذهبوا بعيداً في كثير من المراحل.
وأناشد هنا الأحبة الشباب أن يقرأوا تاريخ حركة الحداثة في وسط الأمة، فلا يجوز أن نخبط خبط عشواء، ونقصي من نقصي من دائرة الإيمان على أساس من عدم وضوح الرؤية، فكل حركة أو قضية نريد أن نفتح أسرارها، ونقف على مكنونها، ونسبر أغوارها، فعلينا أن ندرس تاريخها، متى نشأت؟ ولماذا؟ ومن يقف وراءها؟ وأي المساحات رفضتها وأيها قبلتها؟ وهل لها قابلية الاستمرار بالدفع؟ وهل وصلت إلى حدِّها؟ وهل توقفت في يوم من الأيام وبعثت من جديد، أو أنها بضاعتنا ردت إلينا؟
إن حركة الفكر الحديث، زرعت بذورها مع إطلالة القرن السابع عشر الميلادي، على أساس من صراع عنيف بينها وبين المدرسة الكنسية. فمهد الحداثة ومساحتها كان في أوربا، وأريد منها التطوير والتحديث، وكان لها رموزها البينة ومن يقف وراءها. إلا أن الخلط يحدث عندما يرغب من يرغب من المسلمين أن يلتحق بسفينة الحداثة، على أن يناظر بين مسارين، بين ديانات عفا عليها الزمن، وهي المسيحية واليهودية، وديانة النبي محمد (ص).
فالذي يحصل في الخارج ـ مع شديد الأسف ـ هو القراءة على أساس من الحداثة في الوسط الإسلامي بناءً على المناشئ والمنتزعات من الفكر الأوربي.
ومن هنا نجد أن أكثر من ركب سفينة الحداثة لم يسبر غورها التاريخي، لذلك يتهادى في مشيه ولا يسير سيراً سجحاً، بل سيراً فيه الكثير من التخبط.
إن الفكر الأوربي عندما أراد أن يزرع بذرته، وضع يده على الدين، وجعل منه المشكلة والعقبة الكبرى التي تقف حائلاً دون تطور الأمة ورشدها، وعبر عن الدين أنه أفيون الشعوب، أي أنه مخدر يلغي هويات الناس، فعمد مفكروهم إلى التشكيك في قداسة الكنيسة وما تبتني عليه، ثم شككوا في نزاهة الأحبار والرهبان، ثم انطلقوا في التشكيك بمجموعة من القضايا، قسم منها ربما يساعد عليه إلى اليوم، الأسس المنطقية، حتى في جانب المنطق المادي المستخدم اليوم كأساس لدفع البشرية إلى مسافات متقدمة.
والجهة الثانية التي ركبوها أنهم قالوا: إننا إذا سرنا مع هذا الواقع الديني فليس بمقدورنا أن نندفع للمربع الثاني، ألا وهو نشر الديمقراطية في الوسط الأوربي.
لقد كان النبي الأعظم (ص) على علم تام أن للاقتصاد دوراً مهماً في دفع حركة الأمة للأفضل، لكنه كان بين واقعين: ما هو المراد وما هو كائن، فالواقع الكائن أن الاقتصاد في جزيرة العرب، وخصوصاً في مهد الرسالة، مكة المكرمة والمدينة المنورة، والحجاز في دائرة أوسع، كان يُبتني على أساس نظام الرق، والديانة الإسلامية ترى أن كل إنسان على وجه الأرض حرّ، والناس هم الذين استعبدوا الناس، ولم يأت ذلك في سفر من الديانات الماضية، ولا آية من آيات الكتاب المنزل، ولا رواية، أن هذا الإنسان صيرته السماء عبداً لغيره. حتى قول علي (ع) : أنا عبد من عبيد محمد، إنما هو من باب الاحترام، لا من باب المتسالم عليه والمعروف بين الناس وهو الرق.
فالمسار الديمقراطي الذي أراده الحداثوين روجوا له وبنوه على أساس من الحرية، وجعلوا العقل أساساً في تحريك هذا الجانب، فكان يقال: انظروا إلى الكنيسة ماذا تطرح، فهل تقبل عقولكم هذا؟
ومع الأسف الشديد نجد أن هذا الطرح بارز اليوم حتى في دائرتنا نحن المسلمين، فنرى أن المسلم يطرح على المسلم الآخر قضية ما، ثم يقول: هل هذا مما يقبله عقلك؟ فقد يقول من لا يؤدي فريضة الحج: أنا غير مقتنع بهذا، وهو أمر غير معقول. فكيف أخلع ثيابي وألبس الإحرام، وأذبح ذبيحة ثم أتركها. لكننا نسأل هؤلاء: هل قرأتم فلسفة الأحكام الشرعية بناء على معطيات المدرسة المحمدية؟
لقد سار الحداثويون مع العقل، وجعلوا الحرية الفكرية سيدة الموقف، وابتعدوا عن مساحات القضايا المسلّمة البديهية التي قياساتها معها، حتى استطاعوا أن يلغوا بعض العقول التي شاركتهم في وضع الحجر الأساس للمسار الحداثي، فالتفّوا على أنفسهم من جديد، فلا أصول ولا قواعد ولا شيء من ذلك بالمطلق، وقد ترتب على ذلك أمور كثيرة، ولا زلنا إلى يومنا هذا ندفع الضرائب.
فهؤلاء رأوا أنهم لا يصلون إلى الهدف والغاية من مشروعهم الحداثي إلا بالعمل على فصل الدين عن جوانب الحياة. وهكذا صاروا في كل قضية يدخلونها يرون أن رجل الدين لا شأن له بذلك، إنما شأنه (دعاء كميل) ليلة الجمعة والمسائل الشرعية، وتوجيه الناس في سيرهم وسلوكهم والتعلق بأهل البيت (ع) أما ساحة الحراك في ميدان الحياة فليست من شأنه.
وبقدر ما تتعقد الأمور بقدر ما يُقصى رجل الدين من المشهد، والغاية ليست الشخص بعينه، إنما هو واسطة في العروض كما يقال، فالغاية أولاً وبالذات هي إقصاء الدين، إما أن يُفصل أو يـُجرَّد أو يُسقط.
وقد تنبهت بعض المجتمعات لخطورة القادم، وأخذت احتياطاتها تجاه ما عبر عنه بالغزو الثقافي، وأنا أرى في هذا التعبير الكثير من المسامحة، فالمسألة ليست غزواً، إنما هي عبارة عن حرب مفتوحة على كافة الأصعدة في سبيل النيل من الدين الذي جاء به النبي الأكرم محمد (ص) أولاً، وعصرنة الفكر وإلغاء الماضي بالمطلق، وبدء صفحة جديدة، لمجاراة الغير من حولنا ثانياً، وكأن لا دين ولا نبي في الماضي، وكل ما نتبعه هو ما يمليه علينا العقل الذي بنيناه على أساس من الفكر المادي، وهو بدوره موروث أيضاً.
أقول هنا وبكل وضوح: إذا كان البعض لا يشرِّفه أن يضاف إلى موروث محمد وآل محمد، (فهنيئاً له!) فيمن يريد أن يضاف إليهم، من فلاسفة وأباطرة الفكر الغربي والشرقي. ولكن لا عقل عرفه الوجود أكمل وأرشد وأتم وأنور وأكثر قابلية على الحراك والتجديد، كما هو متمثل بعقل النبي محمد وآل محمد (ع). ولو عرف الناس محاسن كلامهم لاتبعوهم كما يقول الحديث الشريف.
فلا بد أن نقدم البضاعة السليمة البعيدة عن التزوير والتزويق، وأن نقدم ما وصل إلينا وما يمكن أن يصل عبر الطرق والقنوات التي رسموها لنا وأمرونا أن نسير على أساسها، وبناءً عليها لنصل إلى الهدف. فالإنسان أحياناً تأخذه البهرجة والشكل، لكن الملاك ليس الشكل، وقد حذرت من ذلك الآيات والروايات، وربما استعرضت شطراً منها في يوم ما، فالمهم هو الجوهر والأساس.
والفكر المادي يُقرأ تارة على أساس من المدرسة الغربية، وأخرى على أساس المدرسة الشرقية، فالمدرسة الغربية وصلت إلينا من خلال إنتاجها، حيث تُرجم من الكثير، وهناك تساؤلات كثيرة ومشروعة تطرح هنا عمن يقف وراء ذلك، وما هو الهدف، وما إلى ذلك. أما الفكر الشرقي فلم يصل إلينا بقدر ما وصل إلينا الفكر الغربي، فلم نقرأ الفكر الروسي أو الصيني مثلاً كما ينبغي.
من هنا فإنه لما وصل إلينا الفكر الأحادي الجانب، وأغمض الطرف عن فكر آخر في الجانب الآخر، فنحن في الواقع نعارض بين فكر وصل إلينا على أساس من أحادية الجهة، وفكر وصلنا على يد النبي محمد (ص) . لذا ترى أن أدبنا مشوَّه، وفيه مجموعة من الصور التي تميل للكفر والعياذ بالله، وقد لا يلتفت الشاعر أو الأديب أحياناً أن المقطوعة التي نظمها تقدم زاداً مسموماً لآحاد الأمة من حوله، وليس ذلك إلا على أساس أن ذلك الشاعر أو الأديب عاش حالة من الابهار بصانعي الأدب، وهناك علم يمتزج بالأدب فتحصل فلسفة معينة في قراءة الأشياء.
كما يراد أيضاً من ذلك، إشاعة مبادئ ومفاهيم الحرية الفكرية، وحرية التعبير العام، فما هو المراد من التعبير العام أو الحرية الفكرية؟
إن هؤلاء يريدون أن يقولوا: إن كل ما بين أيدينا من فكر قابل للنقاش والرد مطلقاً من الذرة حتى المجرة، بل حتى بارئ الذرة، مع أننا نرى أن روايات أهل البيت (ع) تحذرنا من الغوص في معرفة الذات الإلهية المقدسة. ونصوصهم كفيلة ببيان ذلك.
كما أراد الحداثيون أيضاً إرجاع الأمور جميعاً إلى المدركات الحسية فقط، فكل ما يرشد إليه العقل، وفي أي زاوية كان، لا يؤمنون به، وهذه من المفارقات الكبيرة العجيبة عند هؤلاء، فتارة يقولون: نريد أن يسود العقل ساحة الحياة، وتارة يرفضون كل شيء إلا ما تناله الحواس، فتكون المادة لديهم هي سيدة الموقف، فيُرتقى بها إلى أعلى المقامات.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فقط في حدود الخطيئة التي أغرقها علماء الأخلاق بالدرس والبحث وقدموها لنا، إنما هناك مجموعة من الخطايا تُرتكب، وهي ليست أقل فتكاً من هذه، بل هي أكثر وأكثر، من قبيل الصراع الذي نراه في الساحة العالمية، وهذا الكلام لا يعني أننا نلغي حق الإنسان في أن يفكر، لأن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاه العقل ليفكر، بل شجب القرآن الكريم مواقف أناس لا يُعملون عقولهم حتى في استنطاق النص، لكن لا بد من أسس نسير عليها لنصل إلى الهدف.
وقفة مع الحوزة العلمية:
بعد أن انتهينا في الحديث عن حوزة النجف الأشرف، ننتقل إلا حوزة قم المقدسة، عش آل محمد (ص) وسوف أتحدث في خطب لاحقة عن مدينة قم تاريخياً ومذهبياً، والحديث عن قم فيه من السحر الجمالي الشيء الكثير، ومن الواقعية والمصداقية أكثر من ذلك. فقد خُصّ أهلها بباب من ثمانية أبواب للجنة، وهو ما لم تختص به مدينة أخرى. فهي بسيدتها الجليلة وعلمائها ومدارسها ومكتباتها التي لا تحتضن مدينة أخرى مثيلاً لها اليوم من حيث القيمة.
فهذه المدينة المقدسة تعبر عن علم ومواقع وزمن وأدب وفلسفة وما إلى ذلك.
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وأيديكم إلى ما في الخير، والحمد لله رب العالمين.