نص خطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين رغبة الأمة واخفاق المؤسسة الدينية

نص خطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين رغبة الأمة واخفاق المؤسسة الدينية

عدد الزوار: 1974

2011-09-11

مشوارٌ طويل ونعود مرة أخرى لتلك المساحة المعبَّر عنها بمأدبة القرآن، وضيافة الرحمن، فمن المفترض أن يكون في ذلك الزاد القدرة والقابلية أن يؤمّن للإنسان طيلة هذه الفاصلة الزمنية ما يحتاج إليه، ولكن بسؤال بسيط نقول: من منا لم يعش مشروح الصدر وهو يرى أبناءه صبيحة كل يوم يؤدون صلاتهم في وقتها، وكم هو محزن أن لا يتقضى عنا أكثر من يومين ونحن نلمس المعادلة مقلوبة رأساً على عقب.

هنالك جنازة تُشيَّع، ألا وهي (صلاة الفجر)، وذلك مدعاة أن يراجع الإنسان الحسابات، ويركز في القراءة، ويتأمل في المحيط من حوله، وينظر ما الذي يجري؟ هل كانت صلاة الفجر لشبابنا وفتياتنا، وربما لبعض رجالنا ونسائنا، عبارة عن تلبية لواقع خارج عن الإرادة؟ أم أن المرء كان يتعاطاها على أن يأخذ منها نقلةً على أساس منها يرتب أوراقه في الآتي من الأيام؟

على كل ولي أمر أن يقرأ في بيته هذه المفردة البسيطة بكل حيادية وصدق، مع نفسه وأهل بيته، فهل من المرضي أن تكون المقاربة هكذا، بين ما كان وما نحن عليه، والفاصلة سويعات قليلة؟

إن شهر رمضان المبارك عبارة عن مساحة تهيئ العبد المؤمن أن يندفع في مساحات التغيير، ولا تغيير في ظل تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن لامس شحناً في هذا الاتجاه فقد ربحت تجارته، وقد ورد عن علي (ع) قوله في العيد: «إنما هو عيدٌ لمن قبل الله صيامه، وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد»([3])، وهذه معادلة تحتاج إلى فكّ، فمن هو الذي قبل الله صيامه وشكر قيامه؟

نسأل الله تعالى أن يكون الجميع من هذا الصنف، ولكن علينا في الوقت نفسه أن لا نعيش سقف المثالية، لأننا ما دمنا نعيش تلك الحالة، التي هي للوهم أقرب منها إلى الواقع، فلن نخطو خطوة واحدة في سبيل التصحيح.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون في مساحة الحراك ضد الفساد الاجتماعي، ولا أظن أن هناك صورة أجلى للفساد تضييع فرائض الله، وعلى رأسها وفي مقدمتها الصلاة.

مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ مقدس، على أساس منه أخذ الدين الإسلامي وضعه الطبيعي، ووصل إلى ما وصل إليه على يد النبي محمد (ص) وللنبي أسلوبه ومنهجه، الذي يتمثل في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ([4]). أما الإمام علي (ع) فله لون آخر في التعاطي مع هذا الفرع.

وليس بالضرورة أن يكون الأمر والنهي بالقول فقط، بل يكون في دائرة الفعل، وله أسبابه وشرائطه، وربما يكون للصمت موقف تؤدَّى على أساسه رسالة.

وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، لا بد أن يتخطاها الإنسان مرتبةً مرتبة حتى لا يحصل نقض الغرض، وهذه المراتب كما يلي:

1 ـ معرفة الفساد في الخارج: فالكثير من الناس يُنذر نفسه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكنه يتخطى هذه المرتبة، إما عن جهل أحياناً، أو تجاهل في أحيان أخرى، أو عن اندفاع ورغبة غير منضبطة في التغيير في أحيان غيرها.

وهذه المعرفة موقوفة على أصول كثيرة، منها التعرف على أصول المجتمع ومناهجه، بأن يتعرف الآمر أو الناهي أحوال المجتمع من حوله، فالناس يختلفون فيما بينهم، فهناك من عاش في ظروف، وتربى في وضع كان له انعكاس مباشر على سلوكه وتوجهاته. وهناك من لا يحظى بهذه الخاصية، فهو أشبه بالمقطوع من شجرة، وذلك على أساس موروث تلقاه. وهناك قسم ثالث لا يريد لنفسه أن يدخل في مساحة التغيير.

وهذا النسيج الاجتماعي في أضلاعه الثلاثة لا بد أن يُجمع عند من يرغب في إحداث حركة التغيير على أساس مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما لم يشخَّص ويحدد المعروف من المنكر، لا يمكن لهذا الفرع أن يعطي ثماره. فيكون المتصدي لذلك أشبه بالطبيب الذي يصف الدواء للمريض، ولم يطلع على مرضه، فهو يريد أن ينفعه، لكنه بالنتيجة يضره.

فالمعرفة بأحوال المجتمع أمر مهم. ومن هنا فإننا في كثير من الأحيان نحاول أن نقرأ مواقف بعض الأشخاص، فنجد أننا لا يمكن أن نصحح تلك المواقف إلا بناءً على التشخيص الواضح عند الآمر والناهي، مع غياب زاوية من زوايا الرؤية عندنا.

فمن باب المثال في هذا الصدد، ما كان من حال الخوارج مع أمير المؤمنين (ع) الذين لم يكن لهم خيار مع ولي الأمر والإمام المعصوم إذا ما أمر أو نهى أو قرر. ثم إن حالة الإيمان مراتب تشتد وتضعف، ومن قال إن الخوارج يتمتعون بإيمان مبني على أساس من الأصول والقواعد المسلّمة؟ إنهم كانوا للشبهة أقرب، لذا فإنهم تحركوا وضحَّوا بدمائهم، وعرضوا أعراضهم وأموالهم للضياع، بناءً على الرغبة في إحياء هذا الفرع، ولكن على أساس من الخطأ الواضح، فالرؤية لم تكن واضحة أمامهم، فنازلوا علياً (ع) وقاتلوه، فقاتلهم وكاد يستأصل شأفتهم، ولم يهرب من سيف علي (ع) ومقصلة الحق إلا نفر يسير، ولكنهم تكاثروا فيما بعد، ودونك الدنيا تجد فيها الكثير من أمثالهم.

وبناء على هذا الشاهد التاريخي، على الإنسان أن يحدد المرتبة التي هو فيها، فعلي (ع) اختار منهج الصمت في مرحلة من المراحل، ثم الحراك الفكري في مرحلة أخرى، ثم المنازلة بالسيف في مرحلة أخرى.

2 ـ بيان وجه الفساد لصاحب العمل المنكر: فالبعض منا يريد أن يصحح المسار دون أن يشرح للطرف المقابل حيثيات ذلك الفعل، فيوقع العقاب عليه مباشرة دون بيان. وهذا الأمر يحصل لدى الأنظمة الوضعية بشكل واضح، وربما يحصل في ممارسات بعض المتدينين أيضاً. فعندما جيء بأحدهم إلى الخليفة، وكان قد تعاطى الخمر، سأله الخليفة: ألم تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: ألم تقرأ آية الخمر؟ قال: بلى، لكنها لم تلامسني، أي أنه مر بها مرور الكرام، فقال الخليفة: خذوه وطوفوا به على بيوت الصحابة، فإن قالوا إنهم أقرأوه أقمنا عليه الحد، وإلا خلينا سبيله.

وهذا المنهج من تعريف المنكر بما هو منكر، يكون مغيباً عن الإنسان أحياناً من حيث تشريع الحرمة أو الوجوب، ولا بد أن تبين للطرف المقابل حيثيات ذلك التشريع، ثم تأتي المرحلة اللاحقة، وإلا فلا يمكن أن يقفز المسلم مباشرة إلى السقف، فلا بد لمن يرتكب المحظور، أو يتجاوز عن الواجب، أن يكون على معرفة تامة بهما.

والسبب في ذلك هو رفع الجهالة أولاً قبل الأمر والنهي، كي لا تكون هناك حجة يوم القيامة، بأن المنهي أو المأمور لم يبلغه البيان من حيث التكليف وجوباً وحرمة. وبناء على ذلك تكون مساحة الإرشاد والتوجيه والموعظة الحسنة التي مارسها النبي محمد (ص).

3 ـ مرحلة التعنيف اللفظي: فمن يريد أن يأمر أو ينهى يعمد أولاً إلى هذه الوسيلة، وهي العنف والشدة في الخطاب، مع من ارتكب المحظور ضمن الشروط السابقة، وعليه أن يقف في هذه الدائرة ولا يتعداها. ومن باب المثال، أن بعض الناس عندما يقف على إخفاقة من إخفاقات الشباب، يجعل منها قضية مجتمع، مع أنها قضية فرد، بل الأكثر من ذلك يريد أن يصل من خلال هذه الأحدوثة الصغيرة في حيثيتها إلى مساحة كبيرة، فيسأل عن صاحب تلك الإخفاقة: مع من يمشي؟ ومن يجالس؟ ثم يجعل من المحيط المذكور صاحب مشكلة، مع أنه أبعد ما يكون عنها، فليس بالضرورة أن من يمشي مع شخص ما يكون سلوكه عين سلوك الأول، وبالعكس، فلا علاقة ولا رابط بين هذا وذاك. نعم، قد يكون الطرف الآخر عاملاً مساعداً، لكن لا على نحو الشراكة في أداء الفعل، فينبغي أن تحدَّ الأمور بهذا الحد.

4 ـ الأساليب العملية في سبيل تدمير البؤر التي تولد المنكر في وسط المجتمع: وهذه من الأمور المهمة أيضاً، لكنها مترتبة على ما قبلها، وهي قد تحتاج أو لا تحتاج إلى إذن من جهة معينة، كما أنها خاضعة لحساب نسبة الفساد المترتب على التدخل، وتأثيره أو عدم تأثيره، وهل أنها تؤدي إلى درجة المزاحمة بين الموردين أو لا تؤدي، وكذلك حساب الضرر من حيث حصوله أو عدم حصوله لأحد الأطراف، وهكذا تدرس تلك الحيثيات بشكل دقيق.

5 ـ العقاب الجسدي بالضرب ونحوه: وقد تحدثنا في شهر رمضان عن الضرب وما يترتب عليه من ديات، فيما لو تسبب باحمرار أو اسوداد أو خدش أو كسر أو تلف عضو وما إلى ذلك، وهو منشور في الموقع.

ولعلمائنا الأعلام في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه المرحلة بحوث مطولة من حيث التقنين. فقسم منها يتعلق فيمن يمد يده في تصحيح المسار، وقد تقدم معنا في شهر رمضان أنه حتى الأب عندما يريد أن يمارس الضرب في عملية التقويم، فهناك دائرة لا يسوغ له أن يتعداها ويتخطاها، وهو موقوف على التدرج من جهة، والإذن من الحاكم الشرعي من جهة أخرى، وما يجري اليوم في بعض الزوايا من القرى والمدن من تشكيل مجموعات في سبيل تصحيح بعض السلوكيات، ثم يعمدون إلى حلق الرؤوس تشهيراً، أو الجلد تأديباً، كل ذلك لا مسوّغ له شرعاً، فمن أعطى هؤلاء الصلاحيات؟ ومن خولهم أن يقوموا بمثل هذه الأمور؟ ليس من حق الأب أن يمارس ذلك مع ولده، والحد في التأديب هو الضربة غير المؤثرة من حيث اللون، بحيث يشعر أن اليد لم تمتد إلا من أجل التقويم وليس التهشيم، وبعض الآباء مع شديد الأسف يتشفى بالضرب، بل قد يتشفى من الزوجة بضرب الأبناء، كما ورد في بعض التساؤلات والرسائل، وهذه مصيبة. نعم، على الأبناء أن لا يُلجئوا آباءهم إلى زوايا تستوجب منهم أن يقوموا بردة الفعل، وكلنا يعلم أن ردود الأفعال غير محسوبة النتائج، لأن القراءة فيها غير متكاملة، فهي ردة فعل وليست فعلاً، وردة الفعل خارجة عن الإرادة وغير مضبوطة، ومن هنا تكون العواقب المترتبة عليها سلبية في غالب الأحيان.

6 ـ استخدام العنف المباشر، من قبيل استخدام السلاح، فالبعض قد تصل به النوبة إلى استخدام السلاح، وهو أكثر الموارد تعقيداً، وما يترتب عليه من الخطر الشيء الكثير، وقد كان الخوارج في ذلك العصر، وما يعبر عنهم اليوم بأنصار القاعدة أو السلفية الأصولية، ممن يعيش تحت طائلة الإخفاقة في تشخيص معطيات المرحلة السادسة التي ذكرناها، لذا نجد أن الدماء تراق بلا حساب ولا رقيب في أكثر من موقع وموقع، وتنتهك الأعراض كذلك، وبالتالي حتى الثورات التي يراد لها أن تُصبغ بلون الشرف والكرامة، فيها من التجاوزات الشيء الكثير، وأولئك الذين يتحركون في بعض البلدان، وربما يصلون إلى السلطة، فإنهم يحملون من التاريخ الأسود الشيء الكثير، ولا بد أن يكون له انعكاس على المشهد، فبعضهم يحمل خريطة من التنقل في بؤر من هذا النوع.

فلا غرابة أن يقال: إن الخوارج لم تُطوَ صفحتهم بعد، وإنما لهم امتدادهم البين والواضح.

والمرحلة المذكورة إنما تكون في وجه من يتجاهر بالمفسدة، والذين يتجاهرون بالمفاسد يكون الوازع الديني لديهم منخفضاً أو مضمحلاً متلاشياً، والبعض من هؤلاء وبسبب حالة الاستغراق في الفساد، ربما ينكر مجموعة من الضوابط الدينية، بل قد يصل في مرحلة ما إلى إنكار الرسالة والعياذ بالله، كما حصل بالنسبة للعقيد (المقبور) وهو مقبور لا محالة، حياً كان أو ميتاً. فهو يقول: ما الفرق بيني وبين محمد؟ هو من الصحراء وأنا من الصحراء.

فإذا تجاهر الإنسان بالفسق، جاز شهر السلاح في وجهه، ولكن بإذن الحاكم الشرعي، وهذه هي ضوابط مدرسة محمد وآل محمد (ص).

7 ـ الثورة ضد الفساد من أجل التغيير، فالهدف هو رفع الفساد عن أوساط الأمة، والفساد يبدأ عادة في وسط محدود الدائرة، وربما في أفراد قلائل، ثم يُغذَّى، ثم تهيأ له الأسباب، وقد تكون السلطة القائمة، وبدافع الحفاظ على بقائها، تهيئ الأسباب لإشاعة الفساد في وسط الأمة، لأن الأمة متى ألهيت وأغرقت في هذا الجانب تخلت عن الثوابت، وعندما تتخلى تمسخ هويتها، فلا يقدم عندها ولا يؤخر إلا ما كان يجر نفعاً مباشراً لها.

وإليك عمر بن سعد شاهداً على ما نقول، تجد فيه خير دليل، فقد كان رجلاً كبيراً ذا شيبة وهيبة، من القائمين الليل التالين القرآن، ومن بيت معروف، وهو حجازي بامتياز، وصحابي إلى درجة لا بأس بها، وراوٍ للحديث، إلا أن المطاف انتهى به إلى شر نهاية. حيث وضع نفسه موضع التخيير الشخصي بين النفع المادي من جهة، والقرآن والسنة من جهة أخرى، فقدم النفع الدنيوي على كل شيء، فقتل ريحانة رسول الله (ص) وارتكب جريمة كبرى أسست للكثير من جرائم اليوم، حيث قتل فيها الطفل الرضيع والشاب اليافع والكهل، والشيخ الكبير، والمرأة، وأحرقت الخيام، وانتزعت الأقراط من آذان الصبايا، وارتكبت جرائم التجويع والتشريد والجلد، وهذا كله أسس لما نحن عليه اليوم، فكان ذلك هو الزرع وما نحن فيه حصاده، وما يجنيه جيل اليوم ممن انحرف عن المسار، إن هو إلا تركة ورثوها من آبائهم فيما زرعوا في الفصل الأول، في القرن المنعوت أنه خير القرون، ولا أدري كيف ينعت بذلك وقد كسر فيه ضلع الزهراء (ع)، واقتيد علي ملبباً بحمائل سيفه، وقتل فيه الإمام الحسن (ع) سماً، وقتل فيه الحسين (ع) بتلك الطريقة الفجة، وكان في ذلك القرن عشرة مبشرون بالجنة، لا تجد فيهم أحداً إلا سب الآخر ونازله بقتال، وفي النهاية لا تجد إلا عشرات القتلى، ففي معركة الجمل وحدها قتل عشرة آلاف مسلم، وهكذا في النهروان وصفين وما حدث في زمن الإمام الحسن (ع) من الغارات من قبل معاوية على أطراف العراق، وامتدت إلى أطراف الحجاز واليمن، ولو لم يصالح الإمام الحسن معاوية في تلك المرحلة الزمنية لجيء به كما جيء بعلي (ع) ليبايع، إلا أنه استبق الأحداث، وقرأ المشهد كما ينبغي، وغربل جنده، وانتهى إلى النتيجة المعروفة. وهذا مسار في الامتحان الإلهي خاص بالمعصومين.

8 ـ القتال والمنازلة من أجل إظهار كلمة الحق، وهي مرحلة مهمة، وشواهدها كثيرة، فمثلاً، عندما وقعت الحرب بين العراق وإيران إبان الثمانينات، اشتبه الأمر على بعض الناس، وقال: إن الطرفين مسلمون، فلم لا يجنحون للسلم؟ وهذا من موارد المرحلة الثامنة من مراحل التغيير في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن قد تجد أحياناً حتى من الطبقة العليا من لا يصل إلى قراءة الموضوع بهذه الكيفية.

مساحات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ومناطق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة، تبدأ بالبيت وتنتهي بالدولة، ففي البيت مشروع أسرة، وفي الدولة مشروع أمة. وكذلك قادة الأمة، الذين هم أبناء الأمة، وجزء من نسيج المجتمع، الذي يفرزهم على أساس ملكات يتمتعون بها. فقسم من هؤلاء يكتب له أن يجرى على يديه شيء من النصر والغلبة، والشواهد كثيرة، فمن ركّع دويلة إسرائيل في حرب الأيام الثلاثة والثلاثين، إنما هو فردٌ أكرمه الله تعالى بهذه الكرامة، وإلا فإن هذه الأمة ذات المليار ونصف المليار إنسان لم تغادر محلها منذ سنين، بل إنها غادرته، ولكن إلى الوراء، وليس للأمام.

فالمساحة تبدأ بالأسرة وتنتهي بالدولة كما قلنا، إلا أن هنالك مناطق بين هاتين البقعتين، منها المنطقة العلمية، فينبغي أن تكون هذه المنطقة في وسط الأمة بمنأى عن حالة التلوث، فكما يلوث الماء والهواء والغذاء يلوث الفكر أيضاً، لأن الفكر عبارة عن نتاج علمي غربله العلماء ثم طرحوه كما يطرح التاجر بضاعته، ومنها هذه البضاعة الدينية في يد رجال وعلماء الدين.

إن العلوم الشرعية يمكن أن يتصدى لها أناس على درجة عالية من التكامل، ويمكن أن لا يكونوا كذلك. ولو أردنا أن نستعرض بعض الشواهد في التاريخ لطال بنا المقام، فكم أثر العلماء وكم تأثروا ـ مع شديد الأسف ـ فقد أثروا في المشهد، وأخذوا بالأمة إلى مدارج الكمال في يوم ما، ولكن في الوقت نفسه أوقعها بعضهم في الحضيض. وهؤلاء محسوبون من العلماء أيضاً، فمن عاش مع النبي (ص) يفترض أنه نهل من نمير علمه الصافي، فهو عالم أيضاً، وكذلك من عاش في رحاب علي (ع) يفترض أن يكون عالماً، لكن العلم بما هو علم، وإن صبغ بلون الشرع، فلا يقدم ولا يؤخر ما لم يكن مقروناً بتقوى الله تعالى، فليس الهدف أن يكون الإنسان مجتهداً، وهذا ليس أمراً زائداً عن الحد الطبيعي كما قد يتصور البعض، إنما العمدة أن يستند ذلك للتقوى، أما إذا كانت الأمور تأخذ برجل الدين إلى مساحة بعيدة عن هذه، فإنك تراه يتخبط حتى في ترتيب أوراق حياته.

وربما كنت أتحدث في يوم ما عن مفردات تحسب في حدها العددي متناهية جداً في القلة، ولكن نخشى أن تكون ظاهرة. لقد كنت أحذّر قبل أكثر من خمس سنوات، ولا زلت أقول: إذا كان مبنى رجل الدين أن ينظّم حياته على هذا المسلك، فهو رجل الدين غير الأمين ولا المؤتمن على الأمة، كائناً من يكون. فتارة يكون الانحراف في الجانب الفكري، وتارةً في الجوانب الأخرى.

يقول أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) وهو إسحاق بن عمار: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «قال رسول الله محمد (ص): يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذموا المسلمين، ولا تَتبَّعوا عوراتهم، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته»([5]).

وكما كنت أقول سابقاً أكرر كلامي اليوم: إن رجل الدين ليس بزيِّه، ولا بتخشعه في صلاته، ولا بطول مكثه في التحصيل في الحوزات العلمية، إنما رجل الدين من يحمل المسؤولية والموقف.

لقد رأى الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) في حوزة قم المشرفة أن الفتق اتسع على الراتق، فشكل محكمة خاصة برجال الدين سماها محكمة الروحانيين.    

 فرجل الدين الذي يجعل من (الخيرة) سلّماً يتسلق على أساسه لضمائر الناس وأسرارهم، أو من يستخدم القراءات الملتوية المشفرة بشفرة السحر والتعويذ، غير مؤتمن على الأمة، ورجل الدين الذي يستخدم العُقَد، ليحل بعض القضايا، هو من أتباع إبليس، وليس من أتباع محمد وآل محمد (ص).

فإذا كان أحدنا يحذر ظالماً بعيداً، فعليه أن يحذر ظالماً قريباً في أوساطنا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم، وأن يهدينا لما فيه الصلاح والخير، إنه ولي ذلك. والحمد لله رب العالمين.    



([1]) طه: 25 ـ 28.

([2]) الكافي، الكليني2: 208. 

([3]) نهج البلاغة: 551.  

([4]) النحل: 125.  

([5]) الكافي، الكليني2: 354، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، الحديث الثاني. وفي الباب أيضاً عن الصادق (ع): قال رسول الله (ص): لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبع عثرات أخيه، تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته.