نص خطبة: الأخوة بين المسلمين سبيل العزة والكرامة
مناسبات علوية:
عن الإمام علي (ع) قال: «إنكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم، فسَعوهم بطلاقة الوجه، وحسن اللقاء، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم»([2]).
شهر فضيل بتنا نقف على آخر أيامه، لنستقبل عاماً هجرياً جديداً. وفي هذا الشهر الكثير من المناسبات العظمى، والنعم الكبرى. والبضاعات تعرض إما مادية أو معنوية، لكن ما يخطف القلوب والأبصار هو الأول، حال أنه متلاشٍ ومتقضٍّ ومنتهٍ بحالته إلى الفناء، على العكس من الثاني الذي له البقاء والأثر الدائم، الذي يصحب الإنسان في ظلمة قبره، ويستهدي طريقه في عالم الآخرة بناءً على ما تحصّل عليه من زاد متصف بصفته.
والمناسبات المشار إليها يجمعها قاسم مشترك، ألا وهو الإمام علي (ع) فلا نكاد نرى مناسبة في هذا الشهر إلا وهي في حدود علي (ع) ودائرته. فهنالك زواج النور من النور، فاطمة من علي. وهناك التصدق بالخاتم من كف علي (ع)، وهنالك إبلاغ سورة براءة للناس الذي كان على لسان علي (ع) وهناك مبيت المولى في فراش النبي الأعظم محمد (ص) وحادثة المباهلة، وعيد الغدير، عيد الله الأكبر في تنصيب علي (ع).
المحبة والأخوة في الله:
وحيث إن الكلام غطى المساحات الكبرى في المهرجانات التي أقيمت بمناسبة عيد الغدير، في مفردات الولاية، الإمامة، الخلافة، الوصاية، فإن مفردة المؤاخاة بين المسلمين تعني مفهوماً عظيماً جليلاً له آثاره وأبعاده.
ولو أن المسلمين حقاً اتخذوا من النبي (ص) قدوةً وأسوة لهم فيما يقول ويفعل، وبقيت حادثة المؤاخاة حيةً في أوساطهم، وجدّدوها في كل عامٍ على أقل التقادير، وأقاموا لها المهرجانات، وتم الوقوف على أبعادها، لوصلت الأمة الإسلامية بنفسها إلى مديات في منتهى البعد، لكنها تخلّت عن هذا المفهوم المقدس، كغيره من المفاهيم الأخرى التي شرعتها السماء وجسدها النبي الأعظم محمد (ص) قولاً وعملاً في وسط الأمة.
والإخوة لا تتأتى إلا بناءً على أصل المحبة، والمحبة تارةً تكون في الله سبحانه وتعالى، وتارةً تكون للمحبة من حيث هي، وثالثة تكون لمصلحة، أي أنها مقننة ومحدودة بحدٍّ.
والآيات والروايات في المحبة كثيرة جداً. ونحن من خلال المحبة يمكن أن نؤسس للأخوّة بين المسلمين، وقد وضع النبي الأعظم (ص) في مكة القواعد وثبتها تجسيداً لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ﴾([3])، وبنى عليها بنياناً. وقد ذكروا أن الآيات التي تتناول موضوع الأخوة تزيد على ستين آية، وقيل: إنها على تنوف على تسعين، وبالمجمل فإنها تصب في خانة هذا المفهوم المقدس الذي ينبغي أن نكون قريبين منه.
فعن النبي الأعظم (ص): «أكثروا من الإخوان، فإن ربكم حييٌّ كريم، يستحي أن يعذب عبده بين إخوانه يوم القيامة»([4]).
فالله تعالى يستحي أن يؤدب العبد أو يعذبه بين إخوانه، ويفضحه على جريرة، ويؤاخذه على خطيئة. فكم هو رحيم بنا!
ويقول (ص): «نظر المؤمن في وجه أخيه حباً له عبادة»([5]).
وعن الإمام الرضا (ع): «ومن تبسم في وجه أخيه المؤمن كتب الله له حسنة، ومن كتب الله له حسنة لم يعذبه»([6]).
فهناك من لديه أموال ولا يحب أن يتصدق، لكن الابتسامة لا تكلفه شيئاً، بل الأمر بالعكس، إذ إن تقطيب الوجه هو الذي يكلّف.
إن أشرف إنسان على وجه الأرض كان يبتسم، ويضحك حتى تبدو نواجذه، فكان يبدي الابتسامة على محياه لتنطبع على وجوه من حوله.
فالابتسامة مفتاح القلوب، إلا أننا نرى أن الكثير منا يبخل بها، بل تجد أحياناً من هو صاحب حاجة أتاك بحاجته، لكنه عبوس قمطرير. وهناك من يدخل منزله، فلا تطيب نفسه في نشر الابتسامة في بيته، وقد يرى أن ذلك مبرَّر، إلا أن مشاكل الحياة لا تنتهي، ولا ينبغي اصطحابها إلى البيت، إنما ينبغي تركها خارج المنزل، كما أن مشاكل البيت لا ينبغي تصديرها إلى الخارج.
إن الابتسامة لا تكلف شيئاً، لا سيما إذا ادركنا أن قلب المرأة يُشترى بالابتسامة، إذا أدركت أنها ابتسامة بريئة وليست للاصطياد، وهي تدرك ذلك بذكاء كبير.
إننا نتخذ العديد من الأصدقاء، ويحتاج بعضنا بعضاً، إلا أن الجميع يحتاج إلى الله تعالى، فلا أحد منا بمنأىً عن الأفراح والأتراح، وكما أننا نحتاج الابتسامة في مناسبات الفرح، كذلك نحتاج المواساة في النوازل والأحزان. بل إن الصديق بحاجة إلى صديقه أكثر في الشدة والحزن والنازلة.
والكرب والمشاكل والأخطار التي تقع على الإنسان، إنما ينهض بها أصحاب الهمم، الذين يعطون للصداقة والأخوة قيمتها. كما أن هنالك ثواباً عظيماً يترتب على ذلك، له آثار واضحة في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن علاقة الصديق بصديقه تشتد وتقوى، على العكس مما لو تخلى الصديق عن صديقه في النائبة، إذ تنقطع العلاقة فيما بينهما أو تضعف كثيراً.
وأما في الآخرة فلا شك أن هنالك ثواباً عظيماً. يقول الإمام الصادق (ع): «من نفّس عن مؤمن كربةً، نفّس الله عنه كُرَبَ الآخرة، وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقاه شربة ماء سقاه الله من الرحيق المختوم»([7]).
فلننظر إن كان هذا الأمر حاضراً في أوساطنا أم لا. إننا نجد أن الكثير منا يدور مدار المصلحة في ذلك.
والقرآن الكريم وضع ميزاناً للأخوّة بين النصرة والخذلان، وقد آخى النبي (ص) في المدينة بين المهاجرين والأنصار، فوصل الأمر بالمسلمين والإسلام أن يبلغ بقاع الأرض شرقاً وغرباً.
فمما يؤثر عن الأخوة بين أصحاب النبي (ص) أن أحدهم دار في إحدى المعارك على الجرحى بشربة ماء فلم يشبها أحد منهم، وكلٌّ كان يؤثر الجريح الآخر، حتى ماتوا جميعاً ولم يشربوا منها شيئاً. وهذا من أرقى مراتب الأخوة، والمثل الأعلى فيها.
حقوق المؤمن:
إن أكثر ما نعانيه اليوم أننا نسمع الغيبة فلا ننصر المغتاب، مع أنه صديق مقرّب، أو على الأقل أن نقوم بالتكليف الشرعي بغض النظر عن كونه صديقاً أو لا، فالواجب الشرعي يقتضي نصرة المغتاب. كل ذلك لحفظ العلاقات والمصالح.
يقول النبي (ص): «من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره الله في الدنيا والآخرة. ومن اغتيب عنده أخوه المؤمن فلم ينصره، ولم يعنه، ولم يدفع عنه، وهو يقدر على نصرته وعونه، إلا خفضه الله في الدنيا والآخرة»([8]).
وأصل المشكلة ليس في عدد الأصدقاء، إنما في الأسس التي تُبنى عليها العلاقة، وهل أنها تبنى على الصدق أو على المجاملة؟ على المكسب أو الإيثار؟ فهذا كله دخيل في استمراريتها أو انقطاعها.
يقول أحد الشعراء:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي وشرّقني على ظمأ بريقي
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي مخافة أن أعيش بلا صديقِ
فلو أن كل مشكلة صغيرة أو كبيرة تؤدي إلى القطيعة بين الأصدقاء لما بقيت الدنيا على حال. فلا بد من تجاوز الصغائر، والتسامي على ما ينقل من هنا أو هناك عن الأصدقاء.
يقول الصدّيق الأعظم، والفاروق الأكبر، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «لا يكون الصديق صديقاً، حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته وبعد وفاته»([9]).
ويترتب على الأخوّة أيضاً محاضر ومجالس، وهي إما أن تتصف بالخير والصلاح، أو بالشر والفساد ـ والعياذ بالله ـ ومن يعيش الإسلام والولاء يأبى إلا أن يكون من أبناء الصنف الأول، من دعاة الخير والرحمة والبركة، ومن لا يقبل بقيم الإسلام ومبادئ الولاء لا شك أنه يذهب بعيداً، فلا تكون مجالسه تمثل الخير والصلاح، وهذا أمر عام ومعروف.
وفي المجالس فوائد عظيمة جداً، ففي حديث عن النبي الأعظم (ص) يقول فيه: «ما جلس قوم يذكرون الله، إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا، فقد بُدلت سيئاتكم حسنات، وغُفر لكم جميعاً. وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله، إلا قعد معهم عدة من الملائكة»([10]).
ومن الأجواء التي كانت رائجة بين الناس في الأزمنة القديمة ـ على فقرهم وعسر حالهم، واختلال أمنهم ـ التزاور فيما بينهم، أما اليوم فأصبحت الزيارات خاضعة للمصالح والمنافع.
ففي التزاور تفتح الكثير من الملفات المهمة، ويتبادل المتزاورون أطراف الأحاديث، ويحصل التعاون فيما بينهم على قضاء الحوائج ودفع المشاكل.
يقول الرسول الأعظم (ص): من زار أخاً في الله([11])، أو عاد مريضاً، نادى منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، تبوأت من الجنة منزلك([12]).
وفي الحديث الشريف أيضاً: «من زار أخاه في بيته، قال الله تعالى له: أنت ضيفي وزائري عليَّ قراك، وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه»([13]).
ويقول الإمام محمد الباقر (ع) لأحد أصحابه: «أيُدخل أحدُكم يده في كُمِّ صاحبه فيأخذ حاجته من الدنانير؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذن بإخوان»([14]).
ويقول الإمام الصادق (ع): «اتقوا الله وكونوا إخوة بررة، متحابين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»([15]).
لقد ذكرت أكثر من مرة ونبّهت الشباب إلى أن جلسات الاستراحة مهمة وضرورية، ولكن لم لا نجعل منها جلسات مصغرة في مناسباتنا الدينية؟ وهذا أمر يسير يمكننا أن نقوم به. ففي مناسبة الغدير مثلاً، نجعل من الاستراحة ذاتها مناسبة نذكر فيها شيئاً مما يتعلق بالغدير. أو على الأقل نذكر أن في هذا اليوم مناسبةً ما من مناسباتنا، ونصلي فيها على النبي وآله، وهذا أقل ما يمكن أن نقوم به. وبهذا نعزز أواصر العلاقات ونبنيها على أسس متينة، وأهم ما في ذلك أن يكون المؤمن لأخيه كالمرآة.
ففي الحديث الشريف الذي يرويه الإمام الكاظم عن آبائه عن جده الرسول الأعظم (ص): «المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، ينصحه إذا غاب عنه، ويميط عنه ما يكره إذا شهد، ويوسع له في المجلس([16]).
إننا اليوم في مسيس الحاجة لنعود للإمام علي (ع) وأن نأخذ من حياته قبسة، لا أن نكتفي بالاحتفالات والمهرجانات، فلا ننكر أن في ذلك ثواباً وأجراً عظيماً، إلا أن أئمتنا (ع) يريدون تحصين المجتمعات، بأن نستفيد من نمير علمهم وعطائهم، فهم روافد الفكر الأصيل، وهم قامات لا يعرف منزلتها إلا الله سبحانه وتعالى، ففيهم برأ الله الوجود، ولولاهم لم تكن جنة ولا نار، وقولهم حكمة، ورأيهم سداد.
على أعتاب محرم:
وقبل أن أنهي كلامي، أود الإشارة إلى أن العام الهجري الماضي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة، ونحن على أبواب عام هجري جديد، وشهر محرم الحرام على الأبواب، وسوف أتكلم بهذه المناسبة كلاماً طويلاً يخص هذا الشهر، إلا أنني أشير باختصار إلى أن أئمة أهل البيت (ع) يؤكدون أن يكون أتباع مدرسة أهل البيت (ع) زيناً لهم، بالأخلاق والهدوء والمحبة، وأن نتعاطى الشعيرة كما أرادوها هم، وأن نأخذ منها الهدي، فالحسين مصباح الهدى، ولا بد لنا أن نستضيء بهذا المصباح لنركب في السفينة، وهي سفينة النجاة.
نعم، يمكن للموالي أن يقيم الشعيرة كما يشاء، ولكن على أن يكون الهدوء سيد الموقف، ونشر روح المحبة والأخوة والتسامح والصدق، وهو ما يريده لنا الإمام الحسين (ع) إذا أردنا أن نعيش الحسين (ع) بعمق، ولا نكتفي بالقشور.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.