نص خطبة:الأحساء حاضرة العلم والأدب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَکُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾([2]).
وقفة مع تاريخ الأحساء:
الأحساء: اسم له أثره قبل الإسلام وبعده، أما قبل الإسلام فهي ملتقى الديانات السماوية، فما من ديانة إلا ولها من يدين بها في هذه الأرض آنذاك، والمعروف أن الديانات لها رصيدها العلمي والثقافي والفكري والفني والسلوكي والاجتماعي والاقتصادي وما إلى ذلك. ومن الطبيعي أيضاً أن يكون لذلك الانعكاس المباشر على أبناء تلك المناطق التي تعيش أمثال هذه الأجواء من الانفتاح والقبول للآخر.
والأمر الثاني: أنها عصب الحياة التجارية، وقد سبق أن نوهت أن الأحساء تمثل أحد الأضلاع الثلاثة للمكون الأساسي للحراك التجاري في جزيرة العرب.
والأمر الثالث: أن هذه المنطقة كانت بمثابة سلّة غذاء الجزيرة العربية، فما من حاضرة في هذه الجزيرة الطيبة بأهلها، إلا وكانت تستقي الكثير من احتياجاتها من منتج هذه المنطقة.
وهذه الأمور إذا ما اجتمعت تهيّئ أرضية خاصة للفرد الأحسائي، فإذا أحسن استغلالها ووظفها في الاتجاه الصحيح فلا بد أن تنتج على يديه وأن يصل من خلال ذلك إلى الغاية المرسومة.
كان هذا كله بعد الإسلام. أما بعد أن أقرّ أبناء هذه المنطقة لله بالربوبية ولمحمد بالرسالة، فثمة نقلة نوعية لها خصوصياتها، بمعنى أنها أكملت الناقص في المكون. فهي صفحة الإسلام الناصعة حيث القبول السلمي للدين الإسلامي الحنيف، وهو ما أعطاها التميّز والتقدم على غيرها من المناطق التي لم تدخل إلا بحرب، أو إذا دخلت سلماً بادئ ذي بدء فسرعان ما تُحدث الكثير من الخلل كما هو الحال في بعض المناطق، والتاريخ كفيل في أن يأخذ بأيديكم إلى مفاصله ونقاطه.
والنبي (ص) أكرم أبناء هذه المنطقة، وعظم واقعهم وقربهم منه، وأعطاهم دفعاً خاصاً لاستشراف المستقبل.
في الحديث عن ابن عباس أن وفد عبد القيس لما قدم على رسول الله محمد (ص) قال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال (ص): مرحباً بالوفد غير الخزايا ولا الندامى([3]).
وقد كانت هذه قراءة لمستقبل منطقة في عيون أشخاص محدودين مثلوا بين يديه ليمثلوا المكون الكبير من حاضرة الكويت إلى سلطنة عمان.
أبرز مميزات الأحساء:
وعاد الوفد إلى دياره وتجذرت معارف وآداب، حيث الأرضية الصالحة المستصحبة، والبيئة المطاوعة على أساس من أبعاد كثيرة، أهمها:
أولاً ـ السلم الأهلي:
وهو ما تؤكده طيبة الإنسان الأحسائي في نفسه وأهله وقومه. وهذه الأرضية من السلم واللطافة والوداعة تكسب الإنسان في نفسه حالة من الارتياح بحيث يمضي في اتجاه تفتيق جميع الملكات المكتنزة، والقوى المدخرة في داخله، لتتجسد في الخارج إلى لوحات فنية، قسم منها يعنى بالجانب العلمي المعرفي المركز، وقسم آخر بالآداب، وما يعنى بسلوك الإنسان وجماليات الكون. وهكذا الأمور مسارات.
إن التقدم الاقتصادي في المنطقة كما أشرنا، أعطى هذا المكون حالة من الاستقرار في أفراده، وفي الأطراف الوافدة عليه، وشاهد اليوم خير شاهد على المدعى.
ومن نتائج السلم الأهلي وما يترتب عليه:
1 ـ العيش الطيب:
الأمر الأول من ركائز الأمن والسلم والاستقرار في المجتمعات عامة، وخصوصاً الأحساء، كلوحة فنية نبرزها ونقدمها لسائر المناطق من حولنا في الأرض كلها، وليس في جهة دون أخرى، هو العيش الطيب. فقد كان الإنسان الأحسائي في ثرائه ورفاهه ورخائه، ذلك المضياف، الذي إذا ما عصفت به عاصفة لا تستطيع أن تجعله يستبدل ثوبه في الكرم، ويبقى متشبثاً بهذه الصفة.
وكرم الإنسان المنعكس على سلوكه الخارجي، والذي يترجم من خلال عدة مفردات، يعطي الإنسان الوافد المتولد من تراب هذه الأرض الطيبة استجلاب تلك الخصائص، إما بالوراثة إن تولد منها، أو بالمجاورة إذا ما عاش بين أهليها. وتعتبر الأحساء المنطقة الوحيدة التي إذا ما قصدها من أراد الاستقرار بين أهلها لا يخرج منها إلا بالسمعة الطيبة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ما هو مذكور في الرافد الأول.
2 ـ السكون النفسي:
والأمر الآخر هو السكون النفسي: فإذا ما استقر الإنسان في عيشه استقرت نفسيته، ومن المعلوم أن الحواضر العامرة تعكس هذا الأمر والظل على مكون الإنسان.
3 ـ المنافسة الشريفة:
ففي الماضي والحاضر وربما فيما هو مستشرف، وخروج فترات معينة أو مواقف محددة لا يعني أبداً أن يمثل مسوغاً لإلغاء المكوِّن بأكمله، وإنما علينا أن نضع أيدينا على المسميات بأسمائها، وأن نشخص الأفراد بأعيانهم، ولا نتجاوز من ذلك على شمول المكون بحيث نُحدث حالة من الخلل في النسيج الاجتماعي لا قدر الله ذلك.
فالمنافسة الشريفة مطلب شريف أصّلت له الشريعة ودفعت باتجاهه وحرّكت المؤمنين في سبيل الوصول إلى ما هو الأفضل. ولولا المنافسة بين الناس وهذه الحركة من التسابق في تحصيل الأفضل لما تقدمت البشرية ووصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
ثانياً ـ الانفتاح على الأطراف والتلاحم الفكري والتجاري:
لقد كان لهذا الأمر بعده الأساس في علو كعب هذه المنطقة في الكثير من المفاصل الزمنية. وفي الحديث الشريف عن النبي الأعظم محمد (ص) كما في كنز العمال: «من استقبل العلماء فقد استقبلني، ومن زار العلماء فقد زارني، ومن جالس العلماء فقد جالسني، ومن جالسني فكأنما جالس ربي»([4]).
انظروا إلى القيمة الكبيرة للعالم، وما يحظى به من الخصوصية عند الله تعالى وعند نبيه الأعظم محمد (ص). وقد يظن البعض أن مفهوم العالم ينحصر في علوم الشريعة، وهذا ما هو معروف، ولكن ليس لهذا الوجه أو لقصر النص عليه ما يساعد على ذلك. بل للحديث السراية والشمول، وخير من يقدم لنا ذلك مولى المتقين أمير المؤمنين علي (ع) حيث يقول:
العلوم أربعة: «الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنحو للسان، والنجوم لمعرفة الأزمان»([5]).
فالفقه يتولى شأنه علماء الفقه، كعلماء الحوزات والأزهر والحرمين وأمثالهم، فهؤلاء يتكفلون بالجانب الديني، وما له بعد ومساس بعقيدة الإنسان وعبادته، كل بحسب المذهب الذي ينتمي إليه.
والطب للأبدان: فهؤلاء الأطباء يبذلون الكثير من الجهود، ويصلون ليلهم بنهارهم في سبيل أن يؤمّنوا للأجسام سلامتها، والعقل السليم في الجسم السليم كما هو معروف. فلا نستطيع إذن أن نحافظ على مكوّن عالم يؤمّن لنا النجاح في الجانب الديني ما لم نعمد إلى المرحلة الأولى المتقدمة عليه، وهي ما يؤمّن سلامة الأبدان.
ثم النحو للسان: وهي قواعد اللغة العربية بأنواعها، فهذا العلم يصون اللسان، وزينة الكلام هي التحكم في قواعد النحو، بحيث يكون الكلام الصادر من الإنسان وفق الضوابط التي وضعوها.
ومن الطبيعي أن ننبه لأمر مهم، وهو أن هنالك مدرستين: الكوفية والبصرية، ولكل منهما أنصارها، فإذا ما وجدتم في كتاب أو سمعتم من أحدٍ ما هو خارج عن الجرس الموسيقي عندي وعندك، بناء على سليقة تكونت من خلال تكرّرٍ وتردد على قواعد نحوية، فلها مخارجها. فالنحو زينة اللسان، والإنسان يخفق، وقد تكون هذه الإخفاقة خطيرة جداً، وسبق أن نبهت على الكثير منها.
فمثلاً: يقرأ أحدُهم يوم العاشر من المحرم فيقول: قتلَ الشمرَ حسينٌ، فيكون المقتول قاتلاً، وبالعكس. وهكذا في سائر الميادين.
والنجوم لمعرفة الأزمان: وهذا يدل على أن هذا الدين (الإسلام) دين شمولي في معارفه، وإن حاول البعض أن يقصره على هذا الجانب، ألا وهو الجانب الحوزوي. فالجانب الحوزوي ركنٌ واحد من هذه الأركان الأربعة التي ذكرها المولى علي (ع).
لذلك على أبناء الأمة الإسلامية عامة، أن يلتفتوا لهذا النص، الذي يدفع أبناء الأمة في اتجاهات متعددة، وأهداف متعددة، إلا أن الغاية المستهدفة في نهاية المطاف واحدة، ألا وهي الارتقاء بهذا الدين الحنيف، وتقديم ما أصّله في الكتاب المنزل، والسنة الطاهرة الصادرة عن النبي (ص) والآل، إلى ما هو المراد تأسيساً.
التقدم العلمي في الأحساء:
وللتقدم العلمي في الأحساء بصمات وآثار كثيرة ربما تستعصي على الاستقصاء أحياناً. وقد أمّن هذا الجانب مجموعة من الأمور، منها:
1 ـ ثقافة الوفد المرسل إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية، في زمن النبي الأعظم (ص) في صدر الإسلام الأول، فهذا الوفد م يكن وفداً عادياً، إنما كان وفداً منتقى ومصطفى، بحيث مثل أمام الرسول (ص) فحمد فيهم تلك الخصال التي تكشف عما كانوا عليه هم كأفراد، وعمن يتحدثون عنه من وراء أظهرهم، ألا وهم أبناء المنطقة التي جاؤوا من خلالها.
لذا نقول اليوم لأصحاب الجاه والمقام والتقدم والاختلاط والذهاب والإياب من وجهائنا: خذوا من سيرة هؤلاء ما يساعدكم على تخطي الكثير من المراحل، والتقدم بالمجتمع أيضاً إلى مربعات لم يحلم بها قبل فترات.
وأدعو الشباب أن يقرأوا هذه الحادثة التاريخية، وهو وصول وفد بني عبد القيس من ربيعة إلى النبي (ص) ليطلعوا على مشاهد عجيبة من الأدب والأخلاق وأدب الحوار مع النبي (ص).
2 ـ رغبة أهل الأحساء لما يعود به الوفد: فقد ذهب الوفد لإعلان إسلام المنطقة كاملةً دون الحاجة إلى إراقة قطرة دم، بعد أن يقرأوا ما كان عليه النبي (ص) من مبادئ يقدمها للأمة. وهنا تكمن الحكمة في أبناء هذه المنطقة، والقراءة الصحيحة التي لم يلتفت لها الكثير من أبناء المناطق بحيث دخلوا في حروب مع النبي (ص) ومن جاء بعده ممن تولى الأمور.
فالرغبة والتطلع من أهل الأحساء لما سيعود به الوفد يكشف الرغبة الجادة فيما هو المقام المعنوي لأولئك الذين ذهبوا وما سيعودون به، وهو الأمر الأهم في هذه الصورة.
الإصلاح الزراعي في الأحساء:
من الأمور التي عُنيت بها الأحساء الإصلاح الزراعي، لأنه أهم الروافد في تلك المرحلة في تأمين العيش الكريم. لذا عندما يقال عن الأحساء: إنها بلد الزراعة أو الحراثة، فهي صفة يعتز بها الأحسائي، ولا يرى فيها شيئاً، بل العكس من ذلك، أن الاقتصاد في يوم من الأيام في الكون بكامله كان قائماً على هذا الجانب، فالبلد المتصحّر ليس له ما يؤمّن له إلا قطع الطريق ليأكل ويعيش، أو يعيش على سفك الدم، أما الأحساء الواحة الحاضرة ذات القدم الراسخة على صماخ التاريخ فكانت تتعاطى هذا اللون من الاقتصاد الراقي بحيث يقصدها أهل المشرق والمغرب، ناهيك عن جزيرة العرب.
فكان للاستصلاح الزراعي أثره، وقنوات الريّ شاهد على ذلك، وهي منذ قرون ضاربة في القدم، وحتى الهندسة الحديثة تقدم البصمة الواضحة البينة على أن الهندسة الزراعية في تسيير شبكة المياه قبل قرون، كانت تعني حالة من التقدم على جميع الأطراف من حولها. وهذا النمو والرشد الزراعي يؤمّن المادة، وإذا أمنها استقرت البيوت، وعاشت الناس الرفاه وتقدمت العلوم وتطورت الآداب والفنون وغيرها.
ومعطيات الطبيعة لها أحكامها، فنحن في نهاية المطاف في صحراء، إلا أن أهل المنطقة آنذاك ذللوا الصعاب، وكانوا يتحكمون في مياهها، بحيث إنهم لا يشعرون بنقص عندما تعتري المنطقة حالة من الجفاف، وهذه تعني فيما تعنيه تقدم الذهنية الهندسية أو ذهنية الإنسان الأحسائي هندسياً فيما يتعامل به مع الظروف الصعبة للطبيعة والجغرافيا والمناخ.
3 ـ النقلة العلمية والرغبة في تحصيل المعارف قديماً وحديثاً: وهذه واحدة من سمات هذه المنطقة. لذلك سافر أعلامٌ من أبناء هذه المنطقة بالعموم، بعيداً عن التقسيم الطائفي إلى شيعي أو سني، وهو ما أعنيه في كلامي كله.
ويدل على الحراك العلمي السفرات الطويلة لكثير من أبناء الأحساء من الفريقين إلى شرق الأرض ،كالهند والصين وبلاد فارس، وإلى غربها، كروما وما هو أبعد من ذلك. ونحن مع شديد الأسف لا نقرأ شخصيات أعلامنا السابقين وما كانوا عليه من أسفار، ورجوعهم أيضاً من الأسفار العلمية التي بذلوا الكثير في سبيل تأمينها وتحصيلها. وبطبيعة الحال تتشكل حول الأعلام أُسر، ويكون للرجل الكبير بصمة في تكوين ذلك المكون. ومن هنا تواجدت مجموعة من نُظُم الأسر في داخل هذه المنطقة، قسم منها عنى بالجانب السياسي فارتقى في مناصب الإمرة وما إلى ذلك، وقسم منها مال إلى جانب الأدب وذهب به بعيداً، وخلف وراءه موروثاً ضخماً، وقسم آخر عنى بالعلوم الدينية عند الفريقين بطبيعة الحال، سواء على مستوى التدريس أم تربية الطلاب أم التأليف. وهذا في مجال الرجال والنساء، وقد ذكرت قبل ست سنوات تقريباً أن من غير الصحيح التصور أن المرأة الأحسائية صارت اليوم فقط تدرس وتحصل على شهادة جامعية من الماجستير والدكتوراه وما فوقها، إنما كانت من القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، وهناك نساء مجتهدات وراويات أحاديث وناقلات علوم ومعلمات عند الفريقين. بل هناك قضاة وأعلام ومؤلفون تعلموا وتخرجوا على أيدي سيدات من هذه المنطقة.
فلا بد أن نقرأ تأريخنا، لأن من يقرأ التأريخ يصبح لديه عمق، فإذا تكلم تكلم من منطلق القوة لا من الضعف، لأنه يمسك بالدليل والمستمسك الذي يلقيه في أي لحظة من اللحظات إذا ما أراد ذلك.
وهذا الأمر ساعد على الحراك العمراني وهو واضح وبين.
رحيل السيد طاهر العلي السلمان:
في حديث شريف عن الرسول الأعظم (ص): « موت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد وهو نجم طمس وموت قبيلة أيسر لي من موت عالم»([6]).
ورغم ضعف سند هذا الحديث إلا أنه يمكن أن يرتب عليه الآثار جراء الشواهد الأخرى، التي تساعده. من قبيل قول النبي الأعظم محمد (ص): « موت العالم ثلمة في الاسلام لا تسد ما اختلف الليل والنهار»([7]).
وباللفظ نفسه عن ابن مسعود، وما روي عن علي (ع) بعد ذلك: « وإذا مات العالم انثلم بموته في الإسلام ثلمة ، لا تسد إلى يوم القيامة»([8]).
ومثله قول النبي (ص): « ولا يذهب عالم من هذه الأمة إلا كان ثغرة في الاسلام لا تسد إلى يوم القيامة»([9]). وهو قريب منه معنىً، وإن اختلف في التركيب اللفظي.
هنالك أعلامٌ غابوا، وأعلامٌ حضروا، وأعلام سيغيبون، وأعلام سيحضرون، وهذا هو حال الدنيا، ما لم تنته إلى النقطة الأخيرة بأمر ربها.
وهنالك أعلام غابوا فخلدهم الدهر، وآخرون غابوا ودرسوا، وعفا عليهم الدهر، كل ذلك وليد ما يقدم الإنسان من علم نافع، أو أدب رفيع، أو حكمة عالية. هذه الآثار التي يخلفها الإنسان وراءه، أما ما يخلفه الإنسان من المال والعقار وغيره فسرعان ما تزول، وليست لديها القدرة أن تضيف لحياة الإنسان يوماً، وهذا لا يعني أن يلغي الإنسان طموحه في مشروع الحياة، وهو حقٌّ مستحق، ولكن عليه أن يرفق ذلك بالباقيات الصالحات، ليؤمّن شاهداً له على خيرٍ قدمه.
ومن الأعلام الذين وضعوا البصمة على صفحات التاريخ العلمي من أبناء هذه المنطقة، وهي بصمة راسخة لا يمكن أن تمحى مع مرور الأيام، العلامة ابن أبي جمهور الأحسائي، هذا الرجل الحكيم المتألّه العارف المربي صاحب الموسوعة الكبرى في أكثر من اتجاه.
والعلم الآخر شيخ المتألهين أحمد بن زين الدين رضوان الله عليه، المعروف بالأوحد، ومن من أهل القراءة والمتابعة لا يعرف من هو الشيخ الأوحد رضوان الله على روحه الطاهرة؟
والعلم الآخر أيضاً الشيخ أحمد به فهد الحلي رحمه الله، ذلك الرجل العظيم، ومع شديد الأسف أنه أضيع اسماً ومرقداً وموروثاً، فعلى من تُلقي باللائمة؟ لا تسل يا زيد عن هذا وذاك.
وأما في الشعر والأدب فدونك طرفة بن العبد صاحب المعلقة الخالدة المشهورة المليئة بروح الحكمة والمعرفة.
وأما العوائل فهي كثيرة جداً، ويطول المقام بعرضها وسردها، بعضها طواها الزمن وعفا عليها، كما هو حال الأفراد، لأنها لم تستتبع سلسلة الأعلام فيها، وإنما وقفت عند علم أو علمين ثم غاب الجمل بما حمل، والبعض الآخر لا يزال شاخصاً، من خلال أبنائه العلماء الذي يتعاقبون جيلاً بعد جيل، ولهم بصماتهم، وعطاءاتهم، وإشراقاتهم وإسقاطاتهم على أبناء مجتمعهم من حولهم، وعلى ما هو أوسع وأبعد من ذلك.
ومن هذه الأسر أسرة السادة آل سلمان، وهم أعرف من أن يعرفوا، أسرة جليلة شريفة تعود في نسبها إلى النبي الأعظم (ص) ولي شرف الانتماء إليها بحمد الله تعالى.
فمنها تخرج من تصدى للشأن المرجعي في المنطقة، من قبيل الجد السيد هاشم الأحمد السلمان، حيث تصدى رحمه الله لشأن المرجعية. والخال السيد ناصر الأحمد السلمان، المعروف بالسيد ناصر المقدس، وهو ممن تصدى للمرجعية.
ومنهم جماعة أخرى كان لهم ملف الريادة في القضاء الجعفري، وكانت بصمتهم واضحة وقوية ومؤثرة ومحل تقدير من الجهات الرسمية وعموم الناس، وفي مقدمتهم العم السيد حسين العلي الكبير رضوان الله عليه. وكذلك نجله الرجل القديس المنقطع إلى الله سبحانه وتعالى، رغم التصدي لأخطر المواقع وأكثرها حساسيةً، وهو القضاء. ألا وهو العم السيد محمد السيد حسين.
وهنالك أسماء كثيرة علمية لها قيمتها وبصمتها، ومنهم الآيتان السيد محمد ناصر الكبير، ونجله السيد محمد بن السيد محمد علي، والد السيد عدنان الناصر، مَنّ الله عليه بالعافية. وهذان العلمان من الآيات، الجد والحفيد.
وكذلك أبناء العلامة الحجة السيد هاشم الكبير، العلي السلمان، وأبناؤه كالنجوم.
ومنهم آية الله السيد أحمد الطاهر آل سلمان، وهو رجل عظيم وجليل وإن كان مجهول القدر مع شديد الأسف.
أما الرموز الأحياء من أبناء هذه السرة اليوم، فهم من الكثرة بمكان، وبمقدورهم أن يؤمّنوا تقدم هذه الأسرة، وأن يحققوا لها المقام المتقدم في مكون هذا المجتمع. ومن هؤلاء الذين لهم بصمتهم كثيرون، وإن لم يكونوا بمقام من تقدم. فممن نعاصره علمان كبيران: العلامة ابن الخال السيد علي الناصر الدمام حفظه الله تعالى وكفاه شر الأشرار، والعلامة الحجة السيد محمد علي آل سلمان، هذا الرجل المؤمن المنصهر في الإمام الحسين (ع).
وأما الفقيد الكبير آية الله العلامة السيد طاهر العلي السلمان، الذي ودع الدنيا في اليوم الماضي، والصلاة والتشييع في الساعة الثانية إلى الثانية والنصف عند المقبرة في الشعبة.
هذا الرجل العظيم ربما لم يختلط ولم يحتك به الكثير من الناس، فما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟ هذه مسؤوليتنا نحن بأن نقرأها ونستجليها ونأخذ منها الدروس والعبر لنستوضح الأمر.
1 ـ فالبعد العلمي: له رضوان الله عليه يتجلى في بصمته الواضحة في النجف، وكثير من الأعلام الذين هم في المنطقة تتلمذوا على يديه، ومنهم العلامتان اللذان تطرقت لاسميهما، والكثير من الفضلاء.
2 ـ البعد الأخلاقي: وسماحة السيد كان على درجة عالية من الخلق الرفيع، يتمثل فيه سلوك آبائه من محمد وآل محمد، حيث البساطة والسماحة والوداعة والحب للآخر، ففي قلبه حب غير طبيعي للآخر، وأرجو أن لا تغيب هذه الروح من المحبة للآخر عن هذا الموروث الذي يقسم بين أبنائه وأبناء مجتمعه، وأن يعم الخوف الحب والخوف على نسيج المجتمع.
3 ـ رمزيته ومكانته: وهي تتمحور في مرحلتين: الأولى بداية النزول للأحساء، وهذه يلفها الكثير من الابتعاد عن المشهد، فعند نزوله إلى الأحساء بعد حزم الأمتعة من النجف، نأى بنفسه بل أغلق داره على نفسه، إلا من خلال المسجد الذي يقيم فيه الصلاة، وأوكل شؤون الوكالة لأخيه المقدس السيد ناصر السلمان رحمة الله عليه، لكنه كان بمنأى عن الشأن الاجتماعي.
والمرحلة الثانية: وهي الفصل ما قبل الأخير من حياته، فقد تحرك في بعض المواطن والقرى والقصبات، من قبيل الرميلة، فارتبط بها وأعطاها الكثير. وكذلك المنيزلة والمنصورة، بالإضافة إلى مسجده الجنوبي الذي كان يقيم الصلاة فيه.
وفي نهاية المطاف، نحن نودع إنساناً عزيزاً تخلق بأخلاق أهل البيت (ع) وخلف وراءه بصمة المحبة والود والحنان والحرص على المجتمع ولحمته، فهل نتحمل المسؤولية كما ينبغي؟ أسأل الله سبحانه وتعالى ذلك، كما أسأله تعالى أن يعرّف بينه وبين أجداده الطاهرين في جنان الخلد.
والحمد لله رب العالمين.