نص خطبة: استنطاق معاني القرآن السبيل لسعادة الإنسان (2)
قال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول الله (ص) فاسأليها عني أنّي من شيعتكم أم ليس من شيعتكم؟ فسألتها فقالت: «قولي له: إنْ كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه، فأنت من شيعتنا، وإلا فلا. فرجعت فأخبرته فقال يا ويلي، ومن ينفك من الذنوب والخطايا؟ فأنا إذاً خالدٌ في النار، فإنَّ من ليس من شيعتهم فهو خالد في النار. فرجعت المرأة فقالت لفاطمة ما قال زوجها، فقالت فاطمة: قولي له: ليس هكذا، شيعتنا من خيار أهل الجنة»([2]).
7 ـ التفكر والتدبر:
بالعودة إلى ما كان الكلام فيه من مدرسة القرآن الكريم في النهج التربوي، في مقام تحصيل العلم والمعرفة، نصل إلى التفكر والتدبر. يقول تعالى في سورة الروم: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُون﴾([3]).
للتفكر منهجان:
1 ـ المنهج الإلهي.
2 ـ المنهج المادي.
فالمنهج الإلهي صحب الإنسان منذ يومه الأول، حيث آدم أبو البشر، هبط إلى الأرض ومعه صحف التكليف، على خلافٍ بين العلماء والباحثين، أن آدم (ع) هل تتوّج بتاج النبوة أو لا؟ فالمشهور بين علماء المسلمين عامة، والإمامية على المشهور أيضاً، أو ما يكاد يكون إجماعاً، أنه نبي، وأنه من قبل الله تعالى، وقد هبط ليحمل معه الرسالة، ولكل فريق منهما أدلته التي طرحها، إلا أن معظم الأدلة تنساق لصالح من يقول بالنبوة على حساب من لا يقول بها، لأن الأدلة مع غير القائل بها، لا ترتقي لما أسسه العلماء عامة من الفريقين، وتبقى المسألة في حدود من يتقدم بها أو يتأخر، ولكن مما لا شك فيه أن هنالك صحف تكليف كانت موجودة معه، وتعنيه أولاً وبالذات، وهي شريكة حياته، وعلى أساس منها تفرعت كثير من المسائل، وأخذت المسارات تتسع بتكثر أبناء البشر.
أما المسار الآخر فهو المسار المادي، وذلك عندما جمح أحد الأطراف على حساب الآخر، ألا وهو الأخ للأخ من ذرية آدم، حتى انتهى المطاف بجريمة من أبشع الجرائم، التي عاشتها البشرية في مسيرتها، لأن استئصال ذلك الرجل أتى فيما لا يقل عن سدس سكان الكرة الأرضية آنذاك، حيث لم يكن إلا آدم وحواء وابناهما وزوجتاهما. أي أن سدس العالم فَنِي بسبب تسلط ذلك الوازع المادي الصرف الذي نأى بنفسه عن مكتسبات المشروع الإلهي الذي أراد أبو البشر أن يؤسس له على وجه الأرض.
فالصراع بين المدرستين المادية والإلهية بُذرت بذوره منذ ذلك اليوم، وسقي بالدم، ومن الطبيعي عندما يترعرع الإنسان على هذا اللون من التفكير والإقصاء، فلا شك أن المطاف ينتهي به إلى هذه النتيجة السوداوية المظلمة، ألا وهي التصفية الجسدية، لا باعتبار الشخص فحسب، إنما باعتبار ما يحمله من فكر، ويتنقل به في وسط الأمة، لذلك عندما تستعرض أصحاب الفكر والرأي والتنظير، والمحاولين للتقدم بالأمم إلى مساحات متقدمة، فإن نهاياتهم في الأعم الأغلب تكون مأساوية، إما بالقتل والتصفية، وإما بالإقصاء والمحاربة وقطع جميع الشرايين التي يمكن أن تمد ذلك القطب بحالة من الحياة والحركية في وسط الأمة، وهذا محسوس وملموس وواضح.
ولكل من هذين المسارين، إلى يومنا هذا، أنصاره وأعوانه ومريدوه، وقد يكون الاتجاه في أحدهما أحياناً على أساس من الهوى والرغبة، وأحياناً أخرى على أساس الدليل والبرهان. وبين هاتين المساحتين تبقى مساحة فارغة، يتصارع فيها أصحاب هذين القطبين، وقد لا يصل أيّ منهم إلى مبتغاه، لكن الآثار تبقى باقية، لذا يؤسَّس من جديد، وتُحرَّك العجلة من جديد أيضاً.
ومما لا شك فيه كذلك أن للمادي عناصر يتحرك على أساسها، وللإلهي مناهج وأصول يمشي بناء على معطياتها، والمفارقة تكمن في أن الجانب الثاني يتمتع بخاصية غير موجودة في الأول، ألا وهي العصمة، لأن منابع التفكير والتأصيل عند هذه الجماعة مرتبطة بالسماء، لذا نقول إنها منتَج إلهي، على العكس مما هي عليه في الطرف الآخر المادي.
وربما يقول قائل: هل تعطى هذه مساحة كبيرة ودائرة واسعة بحيث تشمل جميع من يدعي الانتماء لهذا أو ذاك، أو أن هنالك قيوداً وشروطاً لا بد من توفرها لينطبق العنوان على المعنون؟ مما لا شك فيه أن الثاني هو الصحيح. نعم، هنالك نخبة استخلصت، وجماعة تم انتقاؤها واصطفاؤها واصطناعها على يد الرب، وهم الأنبياء والرسل، وفي مقدمتهم محمد وآل محمد (ص).
وعلماء الأمة هم حماة الشريعة في زمن الغيبة، وهؤلاء لا يتحركون على أساس من دليل قطعي، إنما يتحركون في المعظم على أساس من الأدلة التي هي من القضايا التي تحمل قياساتٍ على أساس ظني، إلا أنها محرزة الحجية من قبل الشارع المقدس، فيما يعبر عنه الأصوليين بمتمم الجعل.
فالمراجع والمجتهدون وأرباب البحث الخارج، كما يُنعتون في أوساطنا، أجهدوا أنفسهم فوصلوا إلى مجموعة من القواعد والأصول التي يستنبطون على أساسها الأحكام الشرعية، سواء على الجانب العبادي أم المعاملي، لكنها تختم في النهاية بقولهم: والله أعلم، فالله أعلم بكل شيء، ولكن عندما يقف المرء بين يدي الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ويأخذ منه، فإن ذلك يختلف عما هو عليه إذا ما وقف أمام أي رمز نأخذ منه ونعيش فيه روح القداسة والعلم والسيادة والريادة والتقدم.
لذلك ربانا أهل البيت (ع) أن لا نقدس الذوات إلا بناء على ما تستحق من القداسة، فالمقدس هو المنتَج من تلك الذات، فإن كان يرتقي إلى درجة القداسة قدسناه، وإلا وضعنا بيننا وبينه فوارق وحواجز وابتعدنا بقدر ما يمكن أن نبتعد.
فبقدر ما يكون المنتج مقدساً بقدر ما نتلقفه ونتلقاه، وبقدر ما يكون خلاف ذلك بقدر ما نضع عليه العلامات الكثيرة.
ومن هنا فإن مدرسة أهل البيت (ع) تسد الكثير من الخروقات المحتملة عبر مسيرة البشرية بعد غيبة المعصوم (ع) فلا نستغرب أن تكبو بفقيه أو مجتهد أو أيٍّ كان من هذه الطبقات فرسُه، كما حصل لهذا الشيخ الذي واجه الأمة بما واجهها به، فعلينا أن لا نعيش حالة من الاستغراب والصدمة.
فالملاك في قيمة الإنسان تقدماً أو تأخراً ليس بالعلم المجرد، إنما بالعلم المصقول بأصول محمد وآل محمد (ص).
كما أننا في المقابل لا يمكن أن نلغي ما للجانب المادي في التفكير من أثر، وإثراء للمشهد العلمي في دائرة الإنسان وحراكه، لذا فإننا لا نلغي التجربة.
وهنالك إشكالية ربما تكون في ذهن الكثير ممن يعيشون لوناً من التنوير على أساس من الجانب المادي الصرف، إذ يتصورون أن مبدأ التجربة عند الجماعة المتألهة هو مشهد مغلق الأبواب، ويرون أن من يقترب منه إنما يقترب من المنكر، وهذا تصور خاطئ، فالإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) من أبرز الأئمة في الفكر الإنساني البشري العام الذين أصلوا لجانب التجربة واستخلاص النتائج، ولك أن تراجع ما كان عليه جابر بن حيان مثلاً، وهو من تلاميذه وتلاميذ أبيه، الذي أسس لمدرسة قائمة على أساس من البحث العلمي التجريبي، وقد انعكس هذا المشروع على تثبيت الكثير من الفروع التي فُرِّعت على أساس من أصول مغلقة على الكثير من العلماء ناهيك عن السواد الأعظم من أبناء الأمة.
فمدرسة أهل البيت (ع) تأخذ بهذا الجانب (التجريبي) وتجعل منه عنصراً هاماً وشريكاً في إيقاد ذهنية الإنسان الذي يريد أن يقطع الطريق عبر المسلك الإلهي ليخلص إلى نتيجة، وهذا هو مسار أهل البيت (ع). والإشكالية إنما تكمن في جانب آخر، وهو أن الناس يتعاملون في الكثير من الأحيان وفق قاعدة: رمتني بدائها وانسلت، فالكثير من أصحاب المدرسة المادية الذين يستمدون فكرهم من الغرب، وأحياناً من الشرق (الكونفوشيوسية) يعيشون الإشكالية على أساس مما ذكرنا، فيظنون أن لديهم اطلاعاً أوسع وأشمل وأكثر بعداً مما عليه أصحاب المسار الإلهي، وهم علماء الدين، وهذا غير صحيح.
فاليوم في الأوساط العلمية في الحوزة الكبرى (قم المقدسة)، والحوزة الأصيلة (النجف الأشرف) عمالقة فكر يحملون مزاوجة بين فكرين، فكر سار في مساره الإنسان بطابعه المادي، وآخر سار في مساره اللاهوتي، واستطاعوا أن يجمعوا وينتجوا، وليس هذا وليد اليوم، فمنذ بدايات السبعينات من القرن الماضي الميلادي، وضع علماؤنا أيديهم على عناصر البحث والاستخلاص، وخير شاهد على ذلك من عشنا ذكرى شهادته الشهيد المظلوم الخالد، السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، فمن منا يستطيع أن يقول: إنه لم يجمع بين مسارين، ثم من أين تخرج؟ ألم يتخرج من دائرة حوزة عُرفت بحالتها التي كانت عليها منذ ألف عام؟ لكن القمر عندما يلوح في السماء والسماء مظلمة من حوله، فإنه يزداد تلألؤاً، فلا ينقص من قيمته القمرية أن الظلام يحوطه، بل إن جلاءه وكماله وبهاءه وصفاءه ونورانيته إنما تتم على فرض وجود الظلمة.
فنحن مدعوون جميعاً للتفكر والتدبر، وأن نعيش قريبين من المنبع الأصيل، وهو القرآن الكريم، المنزل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).
8 ـ المقايسة والمشاكلة في المنتج:
ونعني بذلك ما يتصف بأشخاص يتحركون في الخارج، أو فيما يرجع إلى نتاج يضاف إلى أولئك، تحركوا أم غابوا. فهنالك دعوة صريحة واضحة بينة من القرآن الكريم من قبل الله سبحانه وتعالى لكل فرد يدَّعي الانتماء إلى الإسلام، والاعتقاد بنبوة النبي (ص) والأخذ من منهل القرآن الكريم والسنة المطهرة عنهم (ع) بأن ينتهجوا طريق العلم، كما في سورة الرعد: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِيْ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ﴾([4]).
فهناك من هو عالم، له وزنه وقيمته واقتداره في مساحته العلمية، وآخر لا يفرق بين واجب ومحرم، ولا بين فرع وأصل، ولا بين قاعدة ومسألة، فالفرق بين هؤلاء هؤلاء. ولو أننا فعّلنا جانب المقايسة والمشاكلة بين الأشياء والمنتجات في الخارج لحصلنا على نتيجة مُرضية نشق الطريق من خلالها على بينة من الأمر، نحو صراط مستقيم، أما لو عشنا الأمور على خبط عشواء، فلن تكون النتيجة إيجابية بالضرورة.
يقول تعالى أيضاً في سورة السجدة: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنَاً كَمَنْ كَانَ فَاسِقَاً لا يَسْتَوُوْنَ﴾([5]). فهنالك مؤمن ذو هديٍ وتقىً وصلاح وطاعة وعبادة وعمل وجهاد وتضحية من أجل الأمة من حوله، وآخر فاسق، لا علاقة له بالمسجد ولا صداقة له مع القرآن، ولا محبة له مع الناس، ولا هذا ولا ذاك، فكيف يستوي هذا مع ذاك؟
والأسوأ من ذلك أن يكون هذا الأخير يروج للفحشاء والمنكر، ويسعى لهدم البيوت والمجتمع، فتكون الكارثة أعم وأشمل وأخطر.
فالمشاكلة والمقايسة مهمة جداً، حتى في النتائج الواصلة إلينا من خلال بحث من تقدمونا، فعلينا أن لا نسلِّم تسليماً، إنما علينا أن نتنظر تنظيراً، وأن لا نعطي لأنفسنا مساحة لنقايس بين الشيء وضده، لنقرأ الأمور التي انتهت بهذا لينتقي ما انتقى، وانتهت بذلك لينتقي غيره. فهؤلاء من أتباع ديانة واحدة ومسلك ومشرب واحد وربما تقليد واحد، فلماذا وقع ما وقع من المفارقة؟ لا شك أن هنالك منهجاً وطريقاً وأسلوباً وأصولاً اتبعها هذا، وأخرى اتبعها ذاك.
فباب حسن الظن هو المالك، وعلينا أن لا نسيء الظن بادئ ذي بدء، وأن نتتبع المفارقة بين الأمرين، على نحو الضدية أو غيرها، ثم نأتي بحكم نطرحه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
فالإشكالية اليوم، أننا نستنتج أموراً، حسبنا أنها تصل إلى الطرف المقابل، ولكن ليس هذا نهاية المطاف، فإذا أردنا أن نقدم منتَجاً، أو نخلص إلى نتيجة فعلينا أن نثق ونعتقد أننا مطالبون بها بين يدي القدرة، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولا بد أن يكون القلب السليم في الدنيا، لأن الغرس يكون فيها، والمطلوب أن يكون فيها سليماً، وقد يكون أو لا يكون، أما في القيامة فهنالك عَرض للقلب السليم، أي أن الحكم سيكون عليه هناك إن كان سليماً في نواياه في الدنيا أو لم يكن.
9 ـ الأسوة الحسنة:
وهي رافد مهم في الحياة. فمتى متى تصور الإنسان أنه بنفسه، ولنفسه، وليس وراء الأحساء مدينة، فعليه أن يقرأ الفاتحة على روحه صباحاً ومساءً، فالقدوة مهمة، وهنالك قدوة قهرية نعيشها في البيت، ولا بد أن تترك بصمتها علينا، وهي الأب والأم والإخوة الكبار، فهؤلاء قدوتنا، وأقوالهم وأفعالهم تنطبع على شخصياتنا، وتنعكس في الشارع، وتترك أثرها على مسيرتنا حتى نلج إلى قبورنا، فمهما تثقفنا وتعلمنا وتقدمنا، فإن البصمة ستبقى موجودة، لذا فإن الأصيل يضاف إلى ما هو إليه، وكذلك الدخيل يضاف إلى مثله، فالأصالة أمر مهم، وهي تعني بصمة الأم والأب، حتى أننا نجد في أدبيات المدرسة الإمامية ما يجسد ذلك، فهذا الشاعر يقول:
لا عـذب الله أمي إنها شربت حـب الوصـي وغـذتنيه باللبن
وكان لي والد يهوى أبا حسنٍ فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
فلم يكن ذلك الغذاء هو اللبن، إنما هو حب محمد وآل محمد (ص) المتمثل في الجوهر، وهو علي (ع).
ثم ترتقي معنا القدرة حتى تصل إلى أسماها وأعلاها شرفاً، ألا وهو النبي محمد (ص) قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾([6]). فالنبي (ص) هو أعلى سقف وهرم في القدوة، في أقواله وأفعاله وصمته الإمضائي.
كما أن القرآن الكريم يقدم لنا نموذجاً آخر في القدوة له انعكاساته الكثيرة أيضاً. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيْ إِبْرَاهِيْمَ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ﴾([7]). فالأسوة ممتدة مع الأنبياء جميعاً. ومن هنا فإن لدينا رصيداً كبيراً جداً في هذا المجال.
موانع الاستفادة من القرآن الكريم:
ولكن مع ذلك كله، هنالك معوقات كثيرة في أن نستفيد من هذا المنهل العذب الكبير، والمورد الصافي، وهو القرآن الكريم، ومن تلك العوائق التي تمنعنا أن نقترب ونستنطق ونتدبر ونتأمل ونستنتج ونستخلص ونصل إلى ما نريد أن نصل إليه، عدم السير على هدي القرآن الكريم، فبيوتنا مملوءة بالمصاحف، وحقائب أطفالنا محشوة، ولكن كم للقرآن من حركة في زوايا بيوتنا ومستقر قلوبنا؟ هل مثل القرآن الكريم بالفعل منهجاً ودستوراً للفرد والأمة في هذه الحياة؟ لو كان الأمر كذلك لما وقعت الأمة في ما هي فيه من المستنقع المرّ. فمن كان يتصور أن الأمور سوف تصل إلى ما وصلت إليه؟ حتى أولئك الذين اجتمعوا على الشر، أصبح الواحد منهم يقتل الآخر! كل حمل القرآن ويقرؤه.
فعدم السير على هدي القرآن يمثل عائقاً أمام الاستفادة منه كما ينبغي، يقول تعالى: ﴿وَلا تَكُوْنُوْا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ ~ مِنَ الَّذِيْنَ فَرَّقُوْا دِيْنَهُمْ وَكَانُوْا شِيَعَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْنَ﴾([8]). وهذا ما نراه اليوم، ففي البداية كنا نسمع الرافضة وأهل السنة والجماعة، لكننا اليوم نرى أن دعوات أخرى. فالشيعة أكثر من ثلاث وسبعين فرقة، والسنة أكبر من هذا العدد بعشر مرات، أي أنهم أكثر من سبعمئة وثلاثين. هذا هو حال الأمة اليوم، وكأن قضاياهم التي ينبغي أن يجتمعوا عليها انتهت كلها، ولم يبق إلا اجتماعهم على تحطيم أنفسهم، بأن يدمر أحدهم الآخر.
وهنالك أمر آخر يعيقنا عن الاستفادة من القرآن الكريم، وهو تعطيل الرافد الأصيل للقرآن الكريم، وهو السنة المطهرة الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة. ففي بيوتنا كتب كثيرة تعنى بسيرتهم، ومسلكهم التربوي، ولكن ما فائدة تلك الكتب والأسفار دون تجسيد؟ حتى الزهراء (ع) التي ينبغي أن نجتمع عليها في منهجها التربوي والتعليمي والسلوكي والأخلاقي والعملي والفكري والتنظيري وجهادها بشكل عام، إلا أننا إلى يومنا هذا لم نجتمع على ذلك. ودونك ما تعرضه الفضائيات، سوف تجد أنها لا تستعرض الجانب التربوي لدى الزهراء (ع) في بيتها، ولا حياة الخلوة التي تعيشها مع ربها، ولا نهجها في العبادة، ولا تأصيلها للثوابت كي تسير الأمة على الهدي، العام منها والخاص. كل هذا لم يحصل، سوى أننا اختصرنا المشهد في الحادثة المرة، نعم، إنها حادثة مرة ومأساوية، وهي أشبه ما تكون بنواة ذرة تَشع عندما تُسحق، إلا أننا حرمنا أنفسنا من ذلك الإشعاع الذي ينبغي أن يترتب عليها.
إن الزهراء (ع) عندما قدّمت للأمة هذا المشهد، وضحّت من أجل أن تصل الرسالة عبر هذا المسار، فذلك لتحتفظ الأمة بمعطياته، إلا أن فضائياتنا ومجالسنا نراها مسلطة على جانب واحد وحيد، وهو جانب المأساة المرة، وهي كذلك، والحدث أكبر من أن يتحمله الإنسان، ولكن هناك أمر لا ينبغي أن نهمل جانبه إذا أردنا أن تكون البنت سوية، نرفع بها رؤوسها. فلنقدم الزهراء (ع) زاداً في فكرها وعطائها.
كما أن السنة النبوية عُطلت ومنعت من التدوين، فلُطمت الأمة لطمة أخرى على خدها الآخر، فكانت هناك لطمة لوجه الزهراء (ع) والأخرى للسنة المطهرة، وترتب على ذلك ما لا يعلمه إلا الله من الآثار المأساوية، فكل ما يصيب الأمة اليوم إنما هو من ذلك اليوم، لأن الحرمة انتهكت واستبيحت، في بيت أذن الله أن يُرفع، وكانت الاستباحة في جانبيها المادي والمعنوي، وكانت واضحة بينة ثقيلة مرّة. حتى أن الإمام الصادق (ع) كان إذا أراد أن يصف الحدث يستغرق في البكاء، لأن المشهد في غاية الصعوبة والمرارة.
وفي الختام هذه مقطوعة شعرية أرجو أن ترفع لمقام السيدة الزهراء (ع):
عظم الله أجورنا وأجوركم في البضعة الطاهرة، وتقبل الله منا ومنكم ومن سائر عشاق الزهراء (ع) ما تقدم في الليالي الماضية وهذه الليلة، ونسأل الله تعالى أن تلطف بنا في هذه الدار وأن تشفع لنا في الدار الثانية.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.