نص خطبة: استنطاق معاني القرآن السبيل لسعادة الإنسان (1)
مدرسة الكتاب الكريم:
جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسيره لقوله تعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِيْ السَّمَاءِ﴾([2]) قال: «رسول الله أصلها، وأمير المؤمنين فرعها والأئمة من ذريتهما أغصانها، وعلم الأئمة ثمرتها، وشيعتهم المؤمنون ورقها»([3]).
لكي يتشرف الإنسان، ويثبت ذلك الشرف، عليه أن يعيش قريباً ممن شرف به، فمن يتشرف بمحمد وآل محمد (ع) عليه أن يعيش حقيقتهم وأدوارهم في الحياة.
والقرآن الكريم يفتح أمامنا الكثير من الطرق، ويوسع الآفاق أمامنا، في سبيل أن نتعرف على الأشياء من حولنا، فهو مدرسة زاخرة بهذه العناصر.
ولعل قائلاً يقول: إن الأمة تقرأ هذه العناصر، فلمَ لا نجد لها أثراً واضحاً وبيِّناً في الأوساط الخارجية. والجواب أن القراءة التي نتردد فيها لا تتعدى التراقي، فهي قراءة مكررة تأتي على نحو القراءة السردية، بعيدة عن حالة العمق والتركيز، لذا فإننا نقرأ ولا نستنطق، وإذا ما إذا ما استنطقنا لم نتجاوز المساحة التي نحن فيها، فتبقى الصورة معلقة، بل ومشوشة في الكثير من نواحيها.
والقرآن الكريم مدرسة قدّمت الكثير لمن أراد أن يعيش التعليم على أساس من التربية من خلال مواضع كثيرة فيه، وتدرج فيها بما يتماشى وعقل الإنسان المسلم المؤمن، الذي يريد أن يستكشف ويستنطق الكثير، لذا تعامل معه على نحو السعي التدريجي، لا النحو الدفعي الذي ربما لا يستقر الكثير منه.
من هنا جعل من التمثيل وضرب الأمثلة ظاهرة واضحة بينة في الكتاب الكريم، القرآن المجيد. وكم هي كثيرة تلك الأمثلة التي ربما قرأناها في الكثير، ولكن هل استطعنا أن نقترب مما هو المكتنز في تلك الأمثال. فالأمثال في الوسط العربي كانت موجودة قبل نزول القرآن الكريم، بل أوساط الأمم قاطبة، لكنهم يتقدمون ويتأخرون أو يتقدمون بحسب ما تعطيه تلك الأمثلة من مظهرة، فبعضهم يأتي به كشاهد أو معين، ولا يتخطى أكثر من ذلك، بمعنى أنه لا يتعمق في أسبابه ومعطياته.
1 ـ أسلوب المثل:
والقرآن الكريم يقدم لنا التمثيل كما في سورة البقرة، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوْضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾([4]). وفي هذا دفعٌ للأمة أن تستنطق الشيء ولو كان متناهياً في الصغر والحقارة، فربما تقض البعوضة مضاجعنا، وتربك مواقفنا نهاراً، وربما تودي بحياة البعض من الناس، ولكن ماذا سبرت الأمة من غور هذا الكائن المخلوق؟ ثم لماذا انتقاه القرآن من بين الملايين من الأمثلة التي ربما تكون قريبة منه شكلاً بل حتى مضموناً، وربما شاطرته أو تقدمت عليه؟
لا شك أن نظرة الله تعالى هي الأدق، لأنه حكيم الحكماء، وسعي الإنسان الطبيعي أن يستنطق ويستظهر معطيات تلك الحكمة.
ثم يتقدم القرآن قليلاً، كما في سورة الحشر فيقول: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ يَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾([5])، فهذا الضرب كان من واقع الأمة الذي تعيشه. فبالرجوع إلى كتب التراث الأدبي والقصصي للأمة العربية في جزيرة العرب، نجد الكثير من تلك الأمثلة، وهي قوالب حكمة، فالمثل لا يصدر من الممثِّل الذي ضربه وأوجده كحالة في وسط الأمة، إلا بعد أن يخوض التجارب، ويصطدم بالواقع، ويغربل منه ما يمكن أن يتعارض أو يتّسق مع ذلك المثل، لذا تجد للمثل حياةً وديمومةً وبقاءً وقدرة على التقلب في أكثر من مجال ومجال.
وفي مرحلة التمثيل يتساوى الناس جميعاً، فمن ذا الذي لا يفهم المثل؟ ولو كان في أدنى درجات العلم والمعرفة والفكر والثقافة، فللمثل سريان في الأمة، كما هو حال الهواء والماء، فلا تجد أضعف الشعوب وأفقرها ثقافةً مندوحةً أمامها إلا وتتحرك على أساس من مدرسة المثل، لأن طابع المثل طابع وجداني وشعبي، فيتمازج الوجدان مع الشعبية، ويأخذ سرياناً في الأمة وثباتاً واستقراراً.
ففي أفريقيا تجد كتباً وضعت في الأمثال الأفريقية، وكذا في شرق القارة الآسيوية قبل النهوض الصناعي في الفترات والعقود المتأخرة، إذ تجد للمثل مدرسةً وحضوراً وقيمة وكينونة.
ونحن في الأحساء الحبيبة العزيزة، لنا ميراثنا القوي في المثال الأحسائي، والأخ الفاضل الأستاذ محمد الرمضان، وهو أحد القامات التاريخية والثقافية، وضع كتاباً قيماً جمع من خلاله الأمثال الأحسائية، وحاول أن يوجد حالة من الانتزاع التقاربي مع الأمثلة العربية الأصيلة، وجاء بشرح وشواهد، وحاول أن يعالج بعض الثغرات التي ربما تطرأ في بعض المحطات المعينة من النقل التمثيلي.
2 ـ توجيه النظر والملاحظة الدقيقة:
أما الجهة الثانية في ضرب الأمثال، فهي النظرة والملاحظة الدقيقة لما يجري من حولنا، وهذا علم مكتسب، فالمجالس مدارس، ومتى ما استحضر الإنسان كينونته، وعمَّق النظر ودقق في الملاحظة، فسوف يصل إلى انتزاع الكثير من المعارف. لذلك يقول الناس في أمثالهم: من كان أكبر منك بيوم، فهو أعقل منك بسنة، ولكن ليس ذلك اليوم كالأيام التي نقضيها ولا نستفيد منها شيئاً، إنما هي الأيام التي تُصرَّف وتُقطع وتقضَّى ساعاتها من خلال اكتساب المعلومة واصطياد المعرفة والحكمة أينما كانت، لذا يرقى الإنسان ويرشد.
من هنا نجد أن القرآن الكريم يدعونا إلى النظر والملاحظة الدقيقة في الأشياء، وإن كانت في الظاهر دقيقة وواضحة وجلية، لكن هنالك مظاهر في منتهى الوضوح، لكننا لا نلتفت لها لأنها كذلك، فالقرآن الكريم يدعونا لملاحظة حتى هذا الأمر الواضح، وهو ما يكسبنا حالة من التروي عندما نريد أن نقرأ الأمور وننتزعها ونرتب الآثار عليها.
يقول تعالى في هذا الشأن: ﴿أَفَلا يَنْظُرُوْنَ إلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ~ وَإلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ~ وَإِلى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ~ وإلى الأرض كيف سطحت﴾([6]). وانظر هنا للميزان التعبيري البلاغي، في التناسب بين المحمول والمحمول عليه، بحيث لو أنك نقلت المفردة من موضع إلى آخر لما استسيغ النص، ولما أدى الغرض المطلوب منه، فلا يستقيم المعنى مثلاً إذا قيل: وإلى السماء كيف نصبت، وكذلك في الباقي، فلا يستقيم المعنى إلا بالتناسق بين المحمول والموضوع، لذا تجد الحس البلاغي والجرس الموسيقي حاضراً، وكذلك الدقة العلمية واستدعاء المتلقي للمثل.
فمن المظاهر الواضحة السهلة البينة في هذا المثل العجيب، أن حركة السير عند الإبل فيها من الميزة ما لا ليس في غيرها، وهي أن جميع الحيوانات تتسابق في حركة الأرجل، في طرد ديناميكي في منتهى الغرابة، من قبيل الجواد، الذي يقول فيه الشاعر:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبرٍ معاً كجلمود صخرٍ حطه السيل من عَلِ
فهل يصلح هذا الحيوان لركوب المرأة الوديعة مثلاً؟ لا شك أنه لا يصلح، لذا يُتخذ للسباق والحرب، أما الإبل فعلى العكس مما هو ذو أربع قوائم، لكن لا تتحرك اليد من اليمين إلا بحركة الرجل اليمنى! فكأنها حركة القطار، لذا يكون الراكب فوقها مستقراً وفي وضع طبيعي، وليس في ركوب الإبل من صعوبة إلا في حركتي النهوض والبروك. فكم من الناس يلتفت إلى هذه الميزة؟ مع أن الإبل أمامها تمشي وتتحرك.
أما عن الجبال، فإن الجيولوجيين يقولون: إن الجبل أشبه ما يكون بالضرس، له ظاهره، وفي العمق أسراره.
أما الأرض، فلنا أن نتصور لو أنها لم تكن ممهدة لنا، ماذا يحصل لحياتنا؟
3 ـ تنزيل المعقول منزلة المحسوس:
وهنالك جانب آخر في ضرب المثل، وهو تنزيل المعقولات بمثابة المحسوسات، وهو نهج قرآني فيه من الجمال والروعة، بقدر ما فيه من العمق والدقة.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِيْ السَّمَاءِ ~ تُؤْتِيْ أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾([7]). فالكلمة ليست أمراً محسوساً، كما في كلمة (الله) أو (محمد) أو (الإسلام)، فلكي يقرب لنا القرآن الكريم هذا المعنى المعقول، الذي تتحرك في مساحاته العقول بما أوتيت من العناصر القادرة على دفع الإنسان في التفكير والتعمق والنظر، تأتي الحالة التقريبية لها على أساس من المحسوس، لأن المحسوس لا يختلف فيه اثنان، وكل مادِّيٍّ فهو محسوس، فالأمور المجردة، كالشجاعة والكرم والنخوة والصبر والاستقامة والتضحية والفداء والإباء ليست أموراً ماديةً ندركها بالحواس، إنما هي أمور مجردة، وكذا الحال في الروح التي بين جنباتها، إنما هي أمر مجرد، وليست كالجسد، فالجسد كائن مادي محسوس تقترن به الروح وهي جوهر مجرد معنوي.
من هنا فإن القرآن الكريم ركز على هذا الجانب، وهو تقريب المعلومة المجردة من خلال القالب المادي. والسر في ذلك أن مفهوم وحدة الصانع، لم يكن مألوفاً في جزيرة العرب قبل الإسلام بهذه المثابة.
فلو أن القرآن الكريم قال لهم آنذاك: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ~ اللهُ الصَّمَدُ ~ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكْنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ﴾([8])، لوقف العربي حائراً أمام هذه المعاني، بما أوتي من عناصر الدرك البلاغي، فما معنى الصمد، الذي لم يولد ولم يولد؟ ثم ليس له كفؤ ولا نظير؟ فهذه القوالب تحمل معاني ومفاهيم في منتهى الدقة والعناية التي لا يصل إليها عقل الإنسان العربي ذلك اليوم، وحتى يومنا هذا. فالبشرية بأجمعها لم تستطع اختراق هذا المفهوم، إنما اقتربت من مساحته في أحسن التقادير.
وكذا يقول تعالى في المثل السابق: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيْثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيْثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾([9]).
فهذه الآيات الشريفة من سورة إبراهيم، تعطينا الكثير من المساحات التي نسقط هذا المفهوم عليها على نحو المصاديق المتكثرة في الخارج، لأن المقابلة ستكون بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والنور والظلمة، والعطاء والمنع، والعدل والظلم، وغير ذلك من المساحات، لذا نجد في القرآن الكريم أن الشجرة الملعونة تنطبق على جماعة معلومة، أما الشجرة الطيبة فهم محمد وآل محمد (ص).
4 ـ طلب العلم:
ثم لا يكتفي القرآن الكريم بهذا الحد، إنما يأخذ بأيدينا إلى مسافات بعيدة جداً، لا يجد الإنسان فيها عذراً في أن لا يندفع في سبيل الوصول إليها. ومن هنا تجد أن النبي الأعظم (ص) أوصانا بطلب العلم ولو في الصين، تعبيراً عن شدة البعد، يوم كانت الصين في ذلك اليوم أبعد المناطق عن العالم الإسلامي.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الروم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَيَنْظُرُوْا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوْا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارَاً فِيْ الأَرْضِ﴾([10]). فلو كان الملاك هو القوة والسلطنة، فإن أصحابها ذهبوا أدراج الرياح، كما سيذهب غيرهم، وكما هو الحال اليوم في الدول العظمى التي تريد أن تتفرد بقرار الشعوب المسحوقة على وجه الأرض. وهذه دعوة للطبقة المسحوقة، والمستضعفين من الناس. أما الظلمة فلهم قوالبهم الخاصة، والآيات التي ترشد إلى معطيات حركتهم، منذ زمن البشرية الأولى أيام نبينا آدم (ع) إلى الأزمنة الآتية في اللاحق من الأيام، وخير دليل على ذلك الفراعنة.
فقد استطاع الفراعنة أن يجثموا على صدور الناس قروناً طويلة، حيث استعبدوهم في سبيل ما يدلل على عظمتهم في يوم من الأيام. فلم تُعطَ أي دولة عظمى من دول العالم اليوم، ما أُعطي الفراعنة من عناصر البقاء في القرون القادمة، ولكن في نهاية الأمر غرق فرعون وانتهت سلالاتهم، ولم يبق منها سوى (مومياء) تُكتشف هنا وأخرى هناك، لتقام الدنيا ولا تقعد لهذا الاكتشاف. وحق لهم ذلك، لأن العلم تقدم بهم، وأصبحوا في زمانهم عظماء، والعظيم جدير بالاهتمام، سواء كان عظيماً في جانبه المادي أم المعنوي، فالفراعنة كانوا حكاماً ظلمة في الأعم الأغلب، لكنهم بنوا لهم مجداً، وأعطوا لأنفسهم امتداداً تاريخياً.
أما في الجانب المعنوي، فدونك العظماء الذين كتبوا أمجادهم بدمائهم الطاهرة كمحمد وآل محمد (ص). فقد ظُلموا كثيراً، إلا أن شمعتهم بقيت تضيء الطريق، وأحرقت خيامهم، وقتلت أطفالهم، ونهبت أمتعتهم، وهدمت دورهم، وسيرت رؤوسهم، ولكن، أين يزيد؟ وأين معاوية؟ ومن سار في ركابهما؟ ودونك كربلاء وعاشوراء، ودونك طفلاً رضيعاً يكتب مجد الأمة من نحره الطاهر. فللجانب المعنوي خلوده وبقاؤه واستقامته وعظمته.
5 ـ استحظار التجارب الماضية:
ومن السير في الأرض، والنظر في أخبار الماضين، نستفيد الكثير من تجاربهم، ونحن في مسيس الحاجة إلى ذلك، بأن نبحث عن الدروس التي قدمها من تقدمنا لنستفيد منها، لأن إحدى نكبات الأمة إدارة الظهر لماضيها المجيد وإشراقاته، أو لما فيه من الالتواءات، فربما يكون الدرس في جانبه السلبي أقوى وأكثر قدرة على العطاء والتربية من الجانب الإيجابي.
فمن باب المثال، أن المجتمع الذي يطغى فيه جانب العدل، وهو جانب إيجابي، يعني أنه مجتمع نظيف الوعاء، أما إذا ساد فيه الظلم، وتلوث الوعاء فلا يعبر عما فيه من الخطورة إلا الجانب السلبي، الذي يكون في النظر إليه وتفحصه عبرة. فيقال للمعتبِر: انظر إلى أولئك الظلمة، ألم تُمدّ لهم الأرض مداً؟ ألم يسترقّ لهم العباد من مشارق الأرض ومغاربها؟ فقد قتلوا ونكَّلوا بغيرهم، إلا أن صفحتهم انتهت، وأصبحت ممالكهم خاوية على عروشها.
قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾([11]).
فقد مر على تلك القرية التي كانت يوماً ما عامرة حاضرة تمثل عاصمة للدولة في بقعة من البقاع، إلا أن النبي (ع) مر عليها في حال جديدة، فحصلت لديه حالة من التأمل والتفكير، بأن الله تعالى كيف يحيي هذه بعد موتها؟ فأماته الله تعالى مائة عام ثم بعثه، وهذه المدة كفيلة أن ينطوي فيها مدنٌ وتندثر دول.
بل إن القرآن الكريم لم يقف عند هذا الحد في الموعظة، إنما لفت نظره إلى كيفية إحياء حماره، وإلى طعامه ولا شرابه الذي لم يفسد. وهذا من آيات الله تعالى في خلقه.
ومن آياته المشابهة في الإماتة والإحياء في الدنيا، قصة أصحاب الكهف، الذي ليثوا في كهفهم ثلاثمئة وتسع سنين مع كلبهم، الذي بقي باسطاً ذراعيه تلك المدة الزمنية كلها.
فهذا من بديع صنع الله تعالى. وفي سفرتي الأخيرة للعراق قمت بزيارة للفاو، التي تبعد عن مركز البصرة 130 كم، وكان معي أحد المسؤولين عن الدراسات في تتبع واقع العراق المعاصر، وما جرى له على يد الطاغية، عليه من الله ما يستحق. وكانت الأرض جرداء، فصحراء النفوذ أكثر منها نباتاً وعشباً، لا سيما في هذا الموسم الربيعي الرائع، ونسبة الملوحة عالية جداً، فلا يمكن أن يعيش فيها نبت مهما كانت مقاومته.
يقول لي هذا الدارس: هل تدري كم عدد النخيل الذي كان هنا حسب إحصائيات وزارة الزراعة؟ قلت: لا، قال: كان هنا 24 مليون نخلة، تغطي هذا البساط. ومن هنا كان العراق يسمى أرض السواد!.
6 ـ القصص القرآني:
ثم هنالك السرد القصصي في القرآن الكريم، فهو منهج قرآني في تربية المسلمين ليأخذوا بالعلوم والمعارف من حولهم.
يقول تعالى في هذا الصدد: ﴿فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُوْنَ﴾([12]). أي اذكر لهم قصصاً عن أحوال اليهود أو النصارى أو الأقوام السالفة أو غير ذلك، ولا ننسى أن ثقافة أهل الكتاب كانت موجودة في مكة، أما في المدينة فهي ثقافة متأصلة.
فالمنهج القصصي وسيلة مهمة في إيصال المفهوم، وها نحن نرى أنك عندما تريد أن توصل معلومة إلى طفل في الابتدائية مثلاً، وكان فيه شيء من الدقة والغموض، فلا يمكن أن تطرح له النظريات الواحدة تلو الأخرى، لأنك بذلك تغلق المفهوم أمامه، وتسد أبواب المعرفة، لذا تلجأ إلى أسهل وأقرب الطرق وهي التمثيل والتصوير على أساس من القالب القصصي.
من هنا نجد اليوم في عالم الأدب أن القصة القصيرة باتت تزاحم الشعر مزاحمة عجيبة غريبة، فالصورة القصصية تستحضر مفهوماً من خلال بضع كلمات، ثم تُسقط ذلك المفهوم على مصداق بعينه.
يقول تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ﴾([13])، وهذا ما نجده في القرآن الكريم من أنواع القصص، فلا تكاد تجد مجالاً إلا وفيه قصة، تشتمل على عبرة عظيمة.
ففي سورة يوسف، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾([14]), ففي هذا المقطع يمكن أن يقف المرء مع قوله تعالى: ﴿لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ لينتفع به في حياته.
أيها الأحبة الأعزاء: إن هذا الزمن أشد الأزمنة عسراً وحرجاً وصعوبةً على أبناء الأمة مما سبق، وقد يأتي الأصعب، فوسائل الاتصال الاجتماعي اليوم باتت نقمة أكثر من كونها نعمة، فهناك المواعيد التي تحصل فيها المحاذير، والكثير منا في سُبات. وقد أشرت في الخطبة السابقة، وأنبه مرة أخرى على ذلك، وأؤكد في هذه الخطبة، أن هناك دراسات وأرقاماً مخيفة مرعبة مذهلة، لا بد أن نلتفت إليها، فلا يقولنَّ أحد: أنا واثق من ابني أو بنتي، فلم يعد هنالك مجال لهذا الكلام، فالولد اليوم في عمر الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، يمكن أن يدخل أباه من هذا الباب ليخرجه من الباب الآخر، وهو جالس في محله!. وكذلك البنت، يمكن أن تلتوي على أمها بأكثر من لون ولون، ففي السابق كان من الشاذ والنادر أن تطلَّق البنت قبل الدخول بها، وإن حصل ذلك فإن الناس يدخلون في إرباك عجيب، حتى من لم تكن لهم علاقة من قريب أو بعيد بالزوج أو الزوجة. أما اليوم فدونك القوائم التي يحصل فيها الطلاق والتسريح والبذل والخلع، حتى صار الخلع اليوم يزاحم الطلاق!.
أليس هذا دافعاً للجميع أن ينتبهوا لأنفسهم؟ وهل يقف الدين عند حدود الصلاة؟ أو عند اللطم وضرب الرؤوس؟ أو حضور الحسينيات والزيارة؟ وهل ينفع ذلك وحده دون أن نتنبه لأبنائنا وتربيتهم؟ ما فائدة الأب الذي يضرب على رأسه وهو لا يدري أين ذهبت ومتى تأتي؟ وما هو الجدوى من دموع تفيض على الحسين (ع) لكن صاحبها أكثر إجراماً من يزيد بن معاوية؟
وكذلك الحال في الأمهات، فالبعض منهن تترك زوجها وجميع واجباتها المنزلية والأسرية والاجتماعية، لتذهب من حسينية إلى أخرى، وهذه عمّرت جانباً وهدمت جوانب كثيرة.
ويشتد الأمر خطورة عندما يذهب البعض للزيارة، لأن الفرصة ستكون سانحة، لا سيما في الفنادق التي لم تعد اليوم تدقق كثيراً في الوثائق كما هو الحال بالأمس، فيكفي أن يأتي المسافر ومعه بطاقة العائلة، إلا أنه يمكن أن تكون المرأة التي معه ليست بزوجته. وهذا ما يحصل في مختلف أماكن الزيارة سواء في المدينة المنورة أم كربلاء أم النجف أم مشهد أم غيرها.
قد يتصور البعض أنه يقدس المعصوم، إلا أنه في الحقيقة يغرز في صدره خنجراً أو سهماً، أو يغمد سيفاً.
فكيف تزاحم حالات الخلع الطلاق اليوم؟ أهذا هو المنطق والعقل والدين؟ وكيف يسوغ لمن يملك المال أن يسترق الشاب المؤمن البسيط ويرتهنه، بأن يطلب منه أن يكون كما تريد المرأة أو أن يعطى مبلغاً من المال ليتخلى عنها؟ ذلك الشاب الذي بذل جل عمره في تحقيق حلم الأسرة، وأجهد نفسه ليعيش الاستقرار، ويمهد لمجتمعه، ويحافظ على وطنه.
فإن دام الحال على ما هو عليه فسوف نرى المشاهد في الشوارع، ولولا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم بدورها لرأيتم العجب العجاب. ولولا أن الجهة الرسمية تقوم ببعض الأمور التي تحدث الصدمة والردع لرأيتم عالماً آخر، ومن أراد الدليل أعطيته الشواهد من البلدان المجاورة لنا.
أيها الغيور على شرفك: كن حذراً يقظاً شريفاً كريماً، تعرف حدود الشرف والكرامة في أهلك.
فعلينا أن لا ننتظر الأمور حتى تسوء أكثر، وأن نمارس مسؤولياتنا في أن نكون حريصين على ذلك، ونسأله تعالى أن يوفقنا لذلك.
وبما أننا لا زلنا في ذكرى الزهراء (ع) فعلينا أن نسأل أنفسنا: ماذا عرفنا عن الزهراء (ع) وماذا تعلمنا منها؟ هل يكفي أن نعرف الهجوم على دارها فقط؟ فهذا أمر عظيم، لا نقلل من شأنه، وقد ترتب عليه ما ترتب فيما بعد، وقد لطمها الرجل، وجرى ما جرى عليها، مما تهتز له أركان العرش قبل قلوب البشر، ولكن هذا يدعونا أن لا نهمل الجوانب الأخرى ذات الأهمية الكبيرة. فالزهراء (ع) عفة وشرف وشجاعة وصبر وعلم ووعي وتربية ومدرسة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فكم تعلمنا منها؟ وماذا أخذنا؟
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.