نص خطبة: استخدام التقية يحفظ وحدة الأمة

نص خطبة: استخدام التقية يحفظ وحدة الأمة

عدد الزوار: 204

2015-01-20

القائد الحكيم:

قال الإمام الصادق (ع): «سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم بعدي بمثل حديثي»([2]).

امتزجت الذكرى بمولدين عظيمين، ميلاد النبي الأعظم (ص)، وقد سُلطت الأضواء على ذكرى مولده، وميلاد حفيده، وإمام مذهبنا الصادق من آل محمد (ص). وهو الوجه الآخر من الذكرى الذي لم يسلط الضوء عليه كما ينبغي.

فالإمام الصادق (ع) يردِّد مقولة جده علي بن أبي طالب (ع) «سلوني قبل أن تفقدوني».

كلنا يعلم أن الإمام الصادق (ع) أبحر بمدرسة أهل البيت (ع) في جميع الآفاق، وانفتح على جميع الطرق والمذاهب والنِّحَل، واستوعب جميع الأفراد من حوله، حتى أولئك الذين شذَّ بهم المسار، لكنه الصادق الأمين، وذلكم الفرع من الأصل، فهو جعفر بن محمدٍ، ابن النبي محمد (ص).

استغل الإمام الصادق (ع) تلك المرحلة التي عاشها، وأخذ بجميع الأسباب الممكنة التي على أساسها يقوم بعتق مدرسة أ هل البيت (ع) من طائلة ما طالها فيما تقدم، وكتب له النجاح الكبير، رغم أن الظرف لا كما يتصور البعض أنه كان هادئاً مريحاً، فلم يكن الطريق معبداً بالورود، إنما كانت الأشواك مغروسة في كل جوانبه، لكن الإمام الصادق (ع) بعظمته وقراءته النافذة استطاع أن يجتاز جميع العقبات التي أريد لها أن تحدَّ من مسيرته.

التقية من دعائم الإيمان: 

لذلك نجد أن الروايات التي وردت في التقية صدرت في معظمها منه، ولو كان الظرف كما يتصور بعض كتّاب التاريخ، والمتحدثين على أعواد المنابر، وكان في حالة من الدعة المطلقة، لما احتاج الإمام (ع) ولا شيعته أن يسألوا فيجيب، ويفرّق الأسئلة في أكثر من اتجاه واتجاه.

فهناك الكثير من الأحاديث التي وردت عنه في موضوع التقية، وهي قضية مهمة ومفصلية في الكثير من الأحايين في مسارات حياتنا، والبعض ربما يأخذه الشعور بالعزة، أو تنتابه حالة من الغرور والنشوة، أو ربما تكون قراءته خاطئة بناءً على ما أراد أن يبني مواقفه عليه، فيخرج من حدود التقية في زمن الغيبة. وقد تترتب حينئذٍ نتائج ربما تكون متطابقة أو متنافرة، أو تحمل بصمة الخسارة الكبرى، ولمن أراد فليرجع قليلاً إلى التاريخ في زمن الصادق (ع) إلى يومنا هذا ونحن نعيش الغيبة الكبرى للخلف الباقي من آل محمد (عج).

يقول (ع): «اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له»([3]). فلا يغترنّ أحدنا بما يحقق من بعض التمظهر أو المكاسب خارجاً، وإنما تبقى هذه الحقيقة ثابتة تتماشى معه.

ويقول (ع): «لم تبقَ الأرض إلا وفيها منّا عالمٌ يعرف الحق من الباطل([4])، قال: إنما جُعلت التقية ليُحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية([5]). وأيمُ الله، لو دُعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل([6])، إنما نتّقي، ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم، ولو قد قام القائم، ما احتاج إلى مساءلتكم عن ذلك، ولأقام في كثير منكم من أهل النفاق حد الله»([7]).

فالرواية صريحة الدلالة، واضحة الألفاظ، لا تحتاج للمزيد من التأمل. فهؤلاء الذين يتجاسرون على الرموز، ويعرّضون الطائفة للمخاطر والمهالك، هل يسيرون على نهج جعفر بن محمد؟

معالم الدولة العباسية:

عاش الإمام الصادق (ع) معظم عمره في ظل الدولة العباسية، وهي دولة ظاهرها أنيق، وباطنها عميق، وفيها من الآليات ما لم يكن يتسنى للأمويين من قبلهم، لذلك استأصلوا بعض خصومهم بهدوء، وغيبوا آخرين في حالة أكثر هدوءاً، ورسموا معالم مشروعهم، ووصلوا به إلى حيث أرادوا، فدمروا الدين، وأتوه من قواعده، ولكن في لباس مخملي.

فقد أظهروا الحب والولاء حتى عقدوا ولاية العهد للإمام الرضا (ع) ولكنه مارسوا أبشع ألوان العذاب والنكال بمن ينتمي لنهج آل محمد (ع).

فلا نجد للأمويين اليوم سجوناً لآل علي وشيعته في الشام، لكن سجون العباسيين تملأ الأرض، لا سيما في العراق وإيران، وقد بنيت الأسطوانات على أجساد العلويين، وأغلقت السراديب على أتباع علي وفاطمة (ع)، لكنها بهدوء، حيث يُسيَّر البعض إلى أماكن بعيدة، ثم تطمس معالمهم هناك. أو يستدعي الخليفة من يستدعي، ثم لا تجد له عيناً ولا أثراً.

داود العباسي والي المدينة:                  

لقد قام العباسيون بنصب الولاة، بعد خلع الولاة المنصوبين من الدولة التي تقدمتهم، ورسموا لهم خصوصية المناطق على أساس الحب والولاء، ووضعوا يدهم على المدينة المنورة، إذ وجدوا فيها القلب النابض لمسيرة الهدي المحمدي الأصيل، متمثلة بجعفر بن محمد (ع) فنصبوا عليها والياً من الشجرة العباسية، عُرف بشدته وغلظته وابتعاده عن دوائر الرحمة مطلقاً. لم تسلم من سيفه حتى رقاب النساء، وهو داود بن علي العباسي، عمّ الخليفة. ويكفي أن يكون في هذا الموقع بناء على تلك المواصفات، حيث إن المهمة الموكلة إليه لا يمكن أن ينهض بها إلا من يتصف بهذه الصفة.

ولما تسلم الوالي الجديد مهامه في المدينة، سار على نهج الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي يقول مخاطباً أهل الكوفة:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا   متى أضع العمامة تعرفوني

فكان داود العباسي نسخة طبق الأصل من الحجاج بن يوسف. والغريب أن معظم الطغاة من هذا القبيل، كانت مقدمات حياتهم على خلاف ما انتهوا إليه، فقد كان الحجاج معلماً للقرآن، ويؤم الجماعة في ثقيف، لكنه لما وصل إلى الولاية في الكوفة ودّع كتاب الله، ولم يعمل بشيء منه، وارتكب ما ارتكب من الجرائم.  

وهكذا كان داود العباسي، فإنه لما وصل المدينة، وصار الآمر الناهي فيها بحكم الولاية، خطب في الناس قائلا: أيها الناس، أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال؟ هيهات منكم، وكيف بكم، والسوط بكفي والسيف مشهر([8]).

محاربة الإمام الصادق (ع):

من أول الأعمال التي قام بها داود العباسي أنه تسبب في قتل أحد أبرز المقربين من الإمام الصادق (ع) ممن كان ينشر علوم أهل البيت ويجهر بها، ومنها اعتقاله المعلّى بن خنيس (رحمه الله) وطلبه منه أن يكشف عن أسماء شيعة جعفر بن محمد (ع) الذين يترددون عليه، فلم يفصح له عن شيء مما أراد.

يقول أبو بصير: لما ولي داود المدينة، دعا المعلى بن خنيس وسأله عن شيعة أبي عبد الله فكتمه، فقال: أتكتمني؟ أما إنك إن كتمتني قتلتك، فقال المعلى بن خنيس: بالقتل تهددني؟ والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإن أنت قتلتني لتسعدني ولتشقين([9]). وهكذا قتله داود بن علي العباسي وصلبه.

هؤلاء هم العلماء الأمناء على الأمة، الذين أوصلوا إلينا العقيدة، يرخصون دماءهم في سبيل معتقدهم.

الإمام الصادق (ع) في الكوفة:

وبعد هذه الحادثة التي وقعت في المدينة نشر الإمام (ع) روايات التقية، وصار يؤكدها في أكثر من موطن، ثم قرر الانتقال إلى الكوفة بقرار منه، وليس بإشخاص من الخلافة.

فالكوفة تربة تحب أهل البيت (ع) ويحبونها، لكن واقعها صعب، لأن من تولى زمام الأمور فيها في القرون المنصرمة لم يكونوا على هوىً واحد مع أهل الكوفة، منذ أن مُصِّرت إلى يومنا هذا، إنما كان الهوى مختلفاً، لذا تجد أن الكوفة تعطي أكثر من إشارة في أكثر من اتجاه.

فللمجتمع الكوفي مواصفات خاصة، أهمها:

1 ـ الولاء العاطفي: فلأهلها ولاء عاطفي عجيب، والنتيجة المترتبة عليه هو التضحية بكل غالٍ ونفيس دون حسيب أو رقيب. لذلك تجد أن أكثر الدماء التي أريقت وسقت هذه الشجرة كانت من أولئك البسطاء. كما تجد أن ممارسة الطقوس تكثر في تلك الأودية والمناطق، لأن البعد العاطفي يسيطر على الكثير من مساحات العقل والتفكير.  

2 ـ المزاج المتقلب: وضريبته أخطر من الأول بكثير، وهي عبارة عن تحول المجتمع إلى مربعات الجريمة، لذلك قتل أمير المؤمنين (ع) بسيوف أهل الكوفة، وقتل الإمام الحسن (ع) وهو في المدينة بناء على مخطط في الكوفة، لأن جعدة بنت الأشعث كانت كوفية من أهل كندة، وكان الأشاعثة من أمراء الكوفة، وممن لهم القرار في جميع مفاصلها. كما أن طعنة الساباط([10]) كانت كوفية، وكذلك معركة كربلاء التي اشترك فيها الكوفيون بشكل واضح.

فالمزاج المتقلب يؤدي بالمجتمع إلى الجريمة. وانظر إلى الحر بين يزيد الرياحي مثلاً، إذ خرج في ألف، واعترض طريق الحسين (ع) وقد دعاه ابن بنت رسول الله (ص) فلم يستجب، ولو ناجزه الحسين (ع) القتال لقاتله، وربما قُتل الحسين (ع) بسيف الحر!. وهو الذي أجبر الركب الحسيني على المسير إلى كربلاء. لكنه يتوب، ويعود إلى دائرة الحق، ويستشهد بين يدي الإمام الحسين (ع) فيما بعد. وقد كان على رأس ألف من الجند، وبإمكانه أن يحدث انقلاباً قبل ذلك. هذا هو المزاج الكوفي في قراءة تاريخية، وإلا فإن الحر حصل على السعادة الأبدية بتلك التوبة والشهادة.

وقفة مع التقية:

وبما أننا طرقنا موضوع التقية، أود الإشارة إلى أمر مهم، وهو أننا في هذه الأيام نذهب إلى المدينة المنورة وغيرها، والمساجد في الطريق كثيرة، وقد أصبحت معنونة بعناوين معينة مع شديد الأسف، مع أنها مساجد الله، ولسوء ثقافة الكثير من أتباع المذاهب أصبحت تُصنف على أساس أن هذا مسجد شيعي، وذلك مسجد سني، مع أنها بيوت الله، ليست للشيعة ولا للسنة.

نعم، شئنا أم أبينا فهذه حقيقة على الأرض، ولكن انظر إلى ما يحصل داخل تلك المساجد من التصرفات المتنافية تماماً مع دعوة الإمام الصادق (ع). فتجد في حملة فيها 200 راكب مثلاً، شخصين أو ثلاثة يسيئون التصرف، فينعكس على الجميع. ثم تجد بعد ذلك سيلاً من التساؤلات على كل صغيرة وكبيرة، وننسى أن المتسبب هم هؤلاء المسيئون.

وهناك من يدخل إلى الحرم النبوي بملابس النوم، أو الملابس الرياضية، أو المنقوشة بصور أو كلمات لا يعرف معناها من يرتديها، والله تعالى يقول: ﴿خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ([11])، وهذا مسجد أشرف الخلق محمد (ص) الذي نقف عنده قائلين: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنك تسمع الكلام، وترد السلام. فهل يصح أن ندخله بهذه الهيئة التي لا تتناسب مع أبسط الأماكن؟

إن هذه مسؤولية أولياء الأمور بالدرجة الأولى قبل الأولاد غير المنضبطين، ومسؤولية الأقارب من الأعمام والأخوال.      

  رأيت في أحد الأيام أحد الداخلين للمسجد النبوي وعلى صدره صورة الثائر الشيوعي جيفارا، فسألته إن كان يعرف صاحب الصورة فلم يعرفه. فهل يتناسب هذا مع رسول الله (ص) وذلك المقام المطهر؟

يقول الإمام الصادق: «دخلتُ على أبي العباس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمتَ صمنا، وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام ائتني بالمائدة، فأكلتُ معه وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه، أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يُعبد الله»([12]).

انظر إلى نعت الإمام الصادق (ع) لهذا الطاغية بكونه (إماماً) وهو إمام ضلال حقاً. وانظر إلى إفطاره مع أنه يعلم أن ذلك اليوم كان من شهر رمضان، كل ذلك تقيةً وحفظاً للنفس والجماعة وحماية للشريعة، لأن محمداً وآل محمد (ع) هم الروابط بين الله والعباد.

كتمان السر:

ويقول (ع): «إن المذيع ليس كقاتلنا بسيفه، بل هو أعظم وِزراً، بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً ... إنه من روى علينا حديثاً فهو ممن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأً»([13]).

فليسمع هؤلاء الذين يسبّون ويشتمون، ويرفعون ويضعون، في القنوات التي ابتلينا بها، إذ لم يسلم منهم أحد، لا من السنة ولا من الشيعة، لا من العلماء ولا من غيرهم.

«رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس كمن يذيع أسرارنا»([14]).

اقرأ هذه الأحاديث وانظر ما الذي حدث في التاسع من ربيع الأول، وانتظر النتائج فيما بعد.

إن الإمام يقسمنا إلى أقسام فيقول: «افترق‏ الناس‏ فينا على ثلاث فرق:

فرقةٌ أحبُّونا انتظارَ قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا وحفظوا كلامنا، وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار([15]).

وفرقةٌ أحبونا وسمعوا كلامنا، ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا، فيملأ الله بطونهم ناراً، يسلط عليهم الجوع والعطش([16]).

وفرقةٌ أحبونا، وحفظوا قولنا، وأطاعوا أمرنا([17])، ولم يخالفوا فعلنا، فأولئك منا ونحن منهم»([18]).

فليس سلمان الفارسي وحده من أهل البيت (ع) إنما كل من أطاعهم ولم يخالف أمرهم.

إننا في فترة زمنية حرجة جداً، وينبغي على النشء أن لا يتأثر بهذه الأبواق المأثومة المأجورة، المستغَلة من حيث لا تشعر، ومع شديد الأسف أن البعض ظهرت عليه علامات التناغم معهم. وتلك الأفكار إذا ما غرست في أوساطنا في هذا المجتمع المتدين الواعي، باستغلال بعض الثغرات، فسوف تكون الكارثة كبيرة.

لقد بلغ الحال ببعض هؤلاء الذين ينعقون في تلك القنوات أن ينعت أحد المجتهدين بنعت قاسٍ، وهو من نسل فاطمة (ع). ثم نسمع آخر يقول في خطبة الجمعة وهو يثنّي على على هذا النعت، فيرمي ذلك المجتهد بالارتداد عن دين الله، والعياذ بالله.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.