نص خطبة: إطلالة على سيرة الإمام زين العابدين (ع)

نص خطبة: إطلالة على سيرة الإمام زين العابدين (ع)

عدد الزوار: 1208

2012-12-20

في ذكرى شهادة الإمام زين العابدين (ع):

كان حبر الأمة عبد الله بن عباس إذا رأى الإمام السجاد (ع) قام منحنياً تعظيماً له، ورفع صوته قائلاً: مرحباً بالحبيب ابن الحبيب ([2]) .

عظم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى شهادة الكوكب الرابع من كوكبة الإمامة الحقة على أهل الأرض قاطبة، وهو الإمام السجاد بن الإمام الحسين بن علي بن فاطمة بنت النبي محمد (ص).

والإمام زين العابدين (ع) مفردة سمت وارتقت حتى أعيت من رنا إليها، لأنها تعني الكمال بكل إشراقه، كيف لا؟ وهو الذي لم يستطع ألدّ الخصوم لأهل بيت النبوة، وهو يزيد بن معاوية، أن يتجاوز حدوده، حيث قال وقد أُكره على أن يصعد الإمام السجاد (ع) تلك الأعواد، ليقول كلمات فيهن لله رضا، ولعامة الناس أجر وثواب وصلاح، قال: إنه من أهل بيت زُقوا العلم زَقّاً، وإنه لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

كان القيد في يديه، والغل في رجليه، لم يزل قد خرج توّاً من طاحونة الطف بكل تفاصيلها، ينوء بحمل ثقيل، نساءٌ أيامى، أطفال يتامى، لكن الطاغية يخشاه، وهو الذي يعيش عنفوان السلطنة، ونشوة انتصار كاذب، فما الذي يخشاه من إنسانٍ أعزل مقيد اليدين، مغلول القدمين، والجامعة على ظهره، والدماء تسيلُ من ساقيه؟ إنه لا يخشى سوى كونٍ لاهوتي تجسّد في ذاتٍ ناسوتية، هي شخص الإمام السجاد، ابن بنت النبي محمد (ص) لأن السماء بعظمتها تتجسد في هذا المظهر، ليكون حاكياً عما تريد السماء، فلا غرابة أن يخشاه من بيده القوة والقدرة والسلطنة والقرار بإراقة الدماء، فترتعد فرائصه من جمل لما يقلها بعد، ثم يتعداها إلى ما وراء ذاته، وهي فضيحته وفضيحة آل أبي سفيان.

إن فضيحتهم مدوية، لكن التاريخ لمعها، وحق للملمعين أن يلمعوا، كيف لا؟ والحسابات تبدأ بصفر وتنتهي بما لا يتناهي، والحبل على الجرار، والتاريخ يعيد نفسه، فما أشبه اليوم بالبارحة!

هذه الحادثة ينقلها الأوزاعي عن يزيد بن معاوية، وقد تناقلتها كتب التأريح والتراجم، وتلقته بقبول حسن.

أما عبد الملك بن مروان ـ وهو أحد أبناء المنظومة الأموية المروانية المعلومة ـ فإنه يقول للإمام السجاد (ع): إنك لذو فضل عظيم على أهلك وأهل عصرك.

أما الذهبي في سير أعلام النبلاء، فقد سطّر ما سطّر، ولمع ما استطاع أن يلمّع، وجرّح من استطاع أن يجرّح، لكنه عندما وصل إلى هذا الطود العظيم والكوكب النير، وجد أنه لا يملك إلا أن يقول ما يمليه عليه الواقع، لا لأنه لم يتماشَ مع من تقدم، في اعتبارها قضية، إنما تعاطاها على أنها ليست قضية أصلاً.

يقول الذهبي عن علي بن الحسين (ع): وكان له جلالة عجيبة، وحق له والله ذلك، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى، لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله ([3]).

هذه صفاتٌ لو فتشت عنها في من تقدمه واعتقده الذهبي، أو من تأخر عنه واعتقده أيضاً، فهل تجد مصداقاً لما سطّر إلا فيمن سطّر؟

أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو الرجل الكبير عند قومه، عالمٌ باحثٌ متتبع كبير، بما تحمل الكلمة من معنى، وعندما أعبر أنه كبير فلا أخشى شيئاً، لأنه استطاع أن يثبت وجوده، بغض النظر عما يعتقد وإلام يهدف، لكنه يملك قلماً رصيناً، وموروثاً كبيراً، ثم احتوته جماعة لا تقل عن هذا وذاك، ومع شديد الأسف، أن هذا الرجل الكبير في نفسه وأتباعه،لم ينصف من جماعته أيضاً، ولكم أن تقرأوا بعض الدراسات ممن يسيرون على طريقة العامة، وهناك فرقٌ شاسعٌ بين العامة من جهة، والأصولية من العامة من جهة أخرى، فنحنُ نلتقي مع العامة في قواسم كثيرة، أما الأصولية منهم فنختلف معهم في أمور أكثر مما نتفق بها مع العامة.

في حديثه عن الإمام زين العابدين يقول ابن تيمية في منهاج السنة، وهو من أهم الآثار التي خلفها، وعليه بنيت معالم مدرسته الفكرية التي لها أتباع في الشرق والغرب: أما علي بن الحسين فمن كُبّار التابعين وساداتهم علماً وديناً... وله من الخشوع وصدقة السر وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف([4]).

ولكن لنا أن نسأل (شيخ الإسلام): إذا كان الأمر كذلك، فلمَ هذا الجفاء له ولأهل بيته؟ ولماذا يكون غيره أولى بالاتباع؟

 هذه الشهادات صدرت من أناسٍ ليسوا على وفاق ووئام مع الإمام لالسجاد (ع). لكنه يبقى مع كل ذلك مظلوماً مصادَر الحق بامتياز، من كلا الفريقين، فنحن لا نعرف من الإمام زين العابدين سوى الإنسان الذي خرج من طاحونة الطف لم يسجل من شيء سوى خطاب في الكوفة وآخر في الشام، ثم طويت صفحته كأي صحفي من الصحفيين. هذا كل ما نقدمه عن الإمام زين العابدين من واقع منابرنا التي ما أراد لها زين العابدين أن تكون بهذه المثابة، فأول من ارتقى منبر الإمام الحسين (ع)، ودشن أعواد المنبر الحسيني، هو الإمام زين العابدين (ع)، ولمن أراد أن يسير على نهج الحسين وابن الحسين عليه أن يتمثل المسيرة التي رسم أبعادها علي بن الحسين، ومن معالم تلك المسيرة كلمة الحق أمام سلطان جائر.

وللإمام العابدين (ع) جهادٌ، بل هو إمام المجاهدين وقدوتهم، كما أنه إمام العابدين والساجدين وقدوتهم، ولكن هل تعاطينا مفردة الجهاد التي تعاطاها هو (ع) وفق منهجه الأصيل الممتد من أبيه إلى جده علي حتى يبلغ إلى جده الحبيب المصطفى محمد (ص).

وللجهاد مشربان وصفحتان بارزتان: الجهاد الفكري، والجهاد الروحي، فالجهاد الفكري تمثّل من خلال رسالته المعروفة التي سارت بها الآفاق، وهي رسالة الحقوق التي تشتمل على خمسين حقاً أصيلاً لم يسبق الإمام زين العابدين (ع) إليها مقنِّنٌ ولا مشرع، لا من الأنبياء والرسل، ولا من غيرهم من أهل القانون الوضعي ممن صقلتهم حركة العقل عبر المسيرة البشرية. فهي تشمل حقوق الإنسان مع نفسه، ومع ربه، ومع مجتمعه، ومع الإنسان الآخر، ومع العدو، فهي منظومة واحدة من الحقوق، لو أسقطت حقاً منها اختلت المنظومة بكاملها.

أيها الأحبة: نحن نحمل حباً لأئمتنا، ولكن الحب لا يعني الحراك، ونحمل ولاءً، لكن هذا الولاء لا يوقد فينا جذوة، ونذوب فيهم، لكننا لا نتعاطاهم كما ينبغي. وإن كان الأمر غير ذلك فلنسأل: أي زاوية من زوايانا منحناها الفرصة لتشغل رسالةُ الحقوق مساحةً منها؟ هل في مجالسنا؟ أو في صالات طعامنا؟ أو غرف نومنا أو نوم أبنائنا؟

إنها منهاج حياة لا يجاريه منهج إلى يومنا هذا، فكم تقدم الإنسان وتقلب وتحضر وتنور، لكنه لا زال يعيش جهلاً، لأن مشربه ليس الانطلاق من الأصالة، إنما من الروافد، وهناك مفارقة كبيرة بين من يعيش على الروافد، ومن ينطلق من الأصالة.

إن رسالة الحقوق أجمل وأوفى وأشرف هدية نقدمها لأهلينا، ولا نقدمها وريقات مطوية بغلاف حسن مجمّل مزوّق، إنما نهديها لتشعل في كل منا حركة، وتوقد قبساً من نور يهتدي من خلاله الطريق. صدقوني، لو أن رسالة الحقوق أخذت تموضعها الطبيعي منا، لتعاطينا حق اللسان كما أريد له، فلا اغتبنا ولا كذبنا ولا نممنا ولا تنابزنا بالألقاب، ولو أننا أعطينا لتلك الرسالة العظيمة مساحة في داخل وجداننا، وتعاملنا في قراءة الإمام المعصوم مع حق الأذن، لما أنصتنا للوشاة وأهل الفتن وأصحاب الإشاعات هنا أو هناك، لإسقاط قمة هنا وأخرى هناك، بل لإسقاط مجتمع بأكمله، لتُهدر الطاقات وتصادر الكرامات، وتنتهك الحرمات.

يسألني الكثير: ما هو موقفك من (التطبير) أقول: إنها واحدة من القضايا التي يلزم المكلف فيها أن يرجع إلى مرجعه، إن كان مؤمناً ملتزماً، ولا يعنيه ما يعمل الآخر ما دام مستنداً إلى فتوىً، لأنك كما تجد لنفسك المندوحة شرعاً فغيرك يراها لنفسه، لكن أن يصل الأمر إلى التطاول من الأدنى على الأعلى فهذا ما لا يبيحه شرع، ولا يسمح به تكليف. فعلماؤنا ومراجعنا وقادتنا تيجان رؤوسنا، والسياج المقدس الذي نحتمي به، وفي الوقت نفسه إذا ما أردنا أن نصحح خطأً أو تجاوزاً فعلينا أن نكون بقدر المسؤولية في التصحيح والتقويم والردع، لا أن نتجاوز الحقوق، وننتهك الحرمات، ليصبح الحق الذي ندّعيه باطلاً، وذلك أسوأ من أن يضيع الحق نفسه.  ففي الحديث الشريف: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» ([5]). فالشتيمة لا تقوِّم، والتسقيط لا يُسقِّط، فمن رفعه الله لا يُسقطه أحد، ومن أسقطه الله لا يرفعه بشر، كائناً من كان.

فموقفي في كل الحالات هو أن يحترم المؤمنون بقدر فتاواهم والتزامهم، ومن لا يلتزم فتوى مرجعه فلسنا في معرض المحاسبة، لأن هنالك يوماً لا تُغادَر فيه صغيرة ولا كبيرة.

فعلينا أن نحافظ على وحدتنا، في نسيجنا وجماعتنا، فلا نحتاج إلى أكثر مما نحن فيه من الشتات والنفرة وعدم التوافق الفكري لكي نضع الزيت على النار، فواجبنا أن نطفئ النار قدر الإمكان، وهذه مسؤولية الجميع.

الجهاد الروحي:

أما عن الجهاد الروحي، فهناك الصحيفة السجادية، وهي أربعة وخمسون مقطعاً، تعبر عن الذوبان في ذات الله، لكنه الذوبان الحركي الذي يشعُّ على الدنيا إشراقاً، فيأخذك مع الله تعالى في خطابٍ يمثل السلوك والعروج والانصهار، ثم يأتي معك إلى منطقة الوسط، في الحزام الآمن، فيوجه الأمة من خلال الدعاء إلى المنهج الصحيح في التعاطي مع أهل البيت (ع) ثم يأخذك مع والديك وأبنائك، ومع القضايا من حولك، المادي منها والمعنوي، ناهيك عن أدعية الأيام ومنظومة المناجاة المتكاملة.

إن الإمام زين العابدين (ع) لم يخرج من كربلاء منكسراً، إنما خرج منها منتصراً، قمة شامخة قادرة على العطاء. وقد تحرك فيما بعد في سبيل أن تنهض الأمة، وها هو عطاؤه الثر بين أيدينا.

ولا أنسى أن أذكر مرة أخرى باقتناء الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق في بيوتكم، فهي الرافد الثاني لكتاب الله الكريم، ثم نهج البلاغة، فهذا المثلث مقدسٌ عظيمٌ، متى ما اقتربنا منه وتحركنا ضمن حدوده سمونا. فالقرآن الكريم المنزل على قلب الرسول محمد (ص)، ونهج البلاغة، نهج الحياة الخالد الذي حبرته نفسية لعلي (ع)، صقلتها ذات محمدية، والصحيفة والرسالة للإمام زين العابدين، ينبغي أن تنضمّ إلى بعضها، وأن لا ندع مجالاً للغبار كي يتكدس عليها. اقرؤوا وتدبروا وتأملوا وتحركوا وتفاعلوا معها، ثم قارنوا وقاربوا بين ما كان وما حصل الانتقال إليه، لنستجلي عظمة علي بن الحسين (ع).

ثم إن هذا الإمام العظيم لم يخرج من الدنيا خروجاً طبيعياً، إنما خرج مسموماً، لأنه أرهق كاهل الدولة الأموية، وما كانت صفحة الأمويين لتُطوى لولا جهاد الإمام زين العابدين (ع) فالإمام الحسين (ع) عرّى تلك الدولة، لكن الإمام زين العابدين (ع) أجهز عليها وأنهاها.

وهكذا دُسّ له السم من المروانيين، وكانت له فيما مضى يدٌ بيضاء عليهم، فقد دخل بُسر بن أرطاة المدينة، فاستباحها ثلاثة أيام، وقتل وشرّد ونكّل، قتل الرجال، واعتدى على النساء، وألقى بالأطفال بين سنابك الخيل تدوسهم، وكان المروانيون قبل ذلك قد بحثوا  عن ملاذ آمن إبان ثورة المدينة، فلم يجدوا إلا بيت الإمام السجاد (ع) فجاؤوا بذراريهم، ونسوا ما فعلوه في كربلاء، من النيران المشتعلة في أطراف ثياب العلويات، وفي أطناب المخيم، يوم قال لهن زين العابدين (ع): فرّوا في البيداء، إلا أن الإمام زين العابدين (ع) أدخلهم داره، وأشركهم في طعامه، وضم نساءهم إلى نسائه، فذلك يوم وهذا يوم:

وحسبكم هذا التفاوت بيننا                وكل إناء بالذي فيه ينضحُ

فلما استقر الوضع في المدينة، كان الإمام السجاد (ع) من أول الضحايا. 

أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وأيديكم لما فيه الخير والصلاح.

والحمد لله رب العالمين.