نص خطبة: أين تقف نساؤنا من زينب الحوراء النموذج الأكبر للمرأة رائدة النهضة؟

نص خطبة: أين تقف نساؤنا من زينب الحوراء النموذج الأكبر للمرأة رائدة النهضة؟

عدد الزوار: 661

2014-03-14

قصيرة النسب:

عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «اللهم‏ إنك‏ تعلمُ‏ أنه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا التماسَ شي‏ءٍ من فُضولِ الحُطام، ولكنْ لِنَرِدَ المعالمَ من دينك، ونُظهرَ الإصلاح في بلادك، فيأمنَ المظلومون من عبادك، وتقامَ المعطلةُ من حدودك»([2]).‏

نعيش اليوم ذكرى ميلاد الحوراء زينب (ع)، تلك السيدة الجليلة العظيمة المبجَّلة، فهي ثمرةٌ من ثمار النبوة والإمامة، فالعظمة تكتنف جوانبها من كل اتجاه، لذا تُعرَّف بقصيرة النسب، وعندما تفتش لا تجد من يشاطرها ذلك إلا الحسن والحسين عليهما السلام، فإذا قيل: زينب ابنة فاطمة، فهذا يعني ـ فيما يعنيه ـ أنها ابنة النبي محمد (ص). وعمَّن يفتش المرءُ بعد النبي (ص)؟ وإذا قلت: زينب بنت علي (ع) فما عساك أن تفتش بعد علي (ع).

فهي إذن قصيرة نسب، إذ يقال: ابنة فاطمة (ع) فلا يزاد على ذلك، ويقال: ابنة علي (ع) فلا يزاد على ذلك أيضاً، وهذا أوج العظمة.

المرأة الرسالية: خديجة نموذجاً

والسؤال هنا: أين تقف المرأة، وما هو دورها من الواقع الذي ينبغي أن يكون لها منه النصيب الأوفى؟

والجواب: متى غابت المرأة؟ ومتى غاب دورها؟ إنها مؤامرة كبرى على التغييب، لا الغياب، فهي بحضورها الأُنثوي موجودة، وبحضورها من حيث الأداء كذلك، غير أن هناك تغييباً مقصوداً ممنهجاً هو الذي يصادر الوضع، مما يحدث حالة من التغييب، فيصح أن يقال: غُيِّبت المرأة وغيب دورها، ولا يصح أن نقول: غابت فغاب دورها، لأننا لو تحركنا مع المرأة المسلمة الرسالية لوجدنا أن لها قدماً ثابتة راسخة في الخطوات الأولى من أيام الرسالة.

فأيام البعثة الأولى حظيت بامرأة من نوع خاص، لا تجاريها عظمة وجلالاً وتضحية إلا ابنتها، ومن نُصَّ عليه بنص خاص، أعني بذلك السيدة خديجة (سلام الله عليها)، فهي المرأة التي نهضت بمشروع التأسيس للمرأة المسلمة في مساحات دولة الإسلام الأولى، حيث ضحت بالكثير، إلا أنها اقتطفت أيضاً الكثير الكثير من نتاج غرسها الطيب المبارك، ولو لم يكن إلا أنها أول امرأة آمنت بالنبي محمد (ص) لكفى، ولهذا المقام من التميز الشيء الكثير، مما خلف وراءه في قلوبهن الكثير أيضاً.

كانت خديجة واعية قارئة عملية، مازجت بين التنظير والتفعيل، وقد فتحت خزائنها لا لمحمد (ص) الزوج، إنما لمحمد النبي صاحب الرسالة والمبدأ والمنهج، حتى آل بها الأمر أن تفترش الأرض وتلتحف السماء في شعب أبي طالب، بعد أن أنفقت ما تملك، وهي أغنى أمر عرفتها الجزيرة العربية، فالأغنياء من الرجال في جزيرة العرب كثر، لأن المجتمع ذكوري في ثقافته ومنهجه وتعامله، إلا أن النساء اللواتي كنّ في سباق وسجال، وربما في تقدم في بعض المواطن، انفردت منهن خديجة بنت خويلد، التي أكرمتها السماء وأفاضت عليها، ولو لم يكن من ذلك الفيض إلا أنها الحضن المستأمَن على أطهر نسمة نسوية عرفها الوجود، ألا وهي البضعة الزهراء فاطمة بنت النبي محمد (ص) لكفى بذلك كرامة.

الزهراء (ع) النموذج الأسمى:  

كانت الزهراء (ع) كأمها في جهادها وصبرها وتضحيتها، إلا أن الظلامة استمرت معها حتى بعد رحيلها، فلا نستطيع أن نقول: إنها قُبرت هنا، أو أُلحدت هناك، أو رُمست في المكان المعيَّن، إنما هو مدار علم إجمالي مُردَّد، يمكننا أن نقف على أطرافه؛ لأنه في شبهة محصورة، محدَّدة الحدود، لذا ورد الاستحباب أن تزار في المواطن الثلاثة.

لقد حملت الزهراء (ع) راية المرأة، وما لها من المقام، في حين ألقى الرجال جميع المسؤوليات وراء ظهورهم، في منعطف حادٍّ خطير، وقفت الأمة على حافته، فزمت اللواء وتقدمت به، وهي السيدة الجليلة الخفرة التي لم يرَ لها شخص، إلا أن أداء الواجب والتكليف، ألزمها أن تقطع المسافة من حجرتها في بيتها إلى مسجد النبي (ص) وهي المرأة التي تمخضت توَّاً عن سبطها، لكن ذلك لم يمنعها أن تنهض بالتكليف تعويلاً على أهمية الحدث.

فكيف بنا نحن؟ وكم التكاليف التي نتخلى عنها وليس ثمة ما يمنعنا من القيام بها، إلا التبريرات التي نفتعلها نحن، لنوجد عذراً لأنفسنا.

وقفت الزهراء (ع) أمام الرجل بكل صراحة ووضوح، واضعة النقاط على الحروف، قرأها من قرأها، وفهمها من فهمها، واستوعبها من استوعبها، وبقيت قلوب عليها أقفالها.

هذه هي الزهراء (ع) التي حملت لواء الرسالية في يدها، وقارعت كي لا تنكسر تلك الراية، والنبي (ص) لما يقبر.

عالمة غير معلمة:

ونتقدم قليلاً مع صاحبة المناسبة، وهي السيدة الحوراء زينب (ع) المعصومة الصغرى، والعالمة غير المعلمة، وصاحبة الدور العملي، والأنموذج الأكبر للمرأة دون مرتبة العصمة التكوينية.

إنها رائدة مدرسة، في جميع الجوانب، وكيف لا تكون كذلك وهي من أُعدت لهذا الدور، فلو أنها لم تنهض بدورها لاستغربنا، ولو أنها لم تكن المرأة بعد الزهراء (ع) لاستغربنا ذلك، ولكن أن تكون المرآة الصافية العاكسة لحقيقة الذات الفاطمية فلا نستغرب شيئاً، لأن النواة طاهرة، والرعاية طاهرة، فلا بد أن يكون النتاج كذلك.

فعندما نريد أن نقترب من مساحتها لنقرأها، تتفتح المسارات أمامنا، بحيث قد لا نهتدي لترتيب الأوراق فيما هو المهم والأهم، لكن الذي يشفع لنا ـ أيها الأحبة ـ أننا نلتمس من كل مسار ما يمكن أن يوصلنا إلى المبتغى والهدف، ألا وهو التعرف على عوالم هذه الإنسانة العظيمة، والسيدة الجليلة، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون قريباً جداً تحت قبتها النوراء.

هل نبدأ معها من بيت النبوة، والنبي (ص) يستفتح معها أيامه الأولى؟ فقد وضعت الزهراء زينب (ع)، وجاءت بها للنبي الأعظم (ص) فقالت له: يا أبتاه سمِّها، فأطرق برأسه، ثم رفعه، ووجهه يتلألأ نوراً وبهاءً وجلالاً، فالصورة في وجه زينب إنما هي وجه فاطمة، والنور يقابل النور. قال (ص): أي بنية، والله ما كنت لأسبق فيها أمر ربي، فنزل الأمين جبريل (ع) فقال له: سمها زينب، فسميت بهذا الاسم الشريف.

إنها زينب، التي تعني فيما تعنيه (زينة النساء) وهي كذلك. وهكذا كبرت زينب، فكان النبي (ع) يداعبها وهي ما بين أربع وخمس سنين. يضمها إلى صدره، ويودعها الكثير من الأسرار، لذا يقول عنها الإمام السجاد (ع): «عالمة غير معلَّمة، وفَهِمة غير مفهمة»([3]). وهذا كلام إمام معصوم، أي أنها مربوطة بالسماء، وهذا الربط يعني فيما يعنيه روافد أربعة: الحسين السبط، والحسن السبط، والزهراء النوراء، وعلي المولى (عليهم السلام) والخاتمة الواصلة محمد (ص).

ربيبة الرسالة والإمامة: 

وغادر النبي محمد (ص) إلى عالم ملكوته الخاص، وجاء دور بيت الإمامة، بيت علي، وما أدراك ما علي! فعن علي (ع) أخذت العلم، ومنه أخذت الشجاعة والفصاحة، وركّبت منهما إكسيراً أعظم، هز عروشاً، وثبَّت أوتاداً لحركةٍ هي مصداق لقوله تعالى: ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُوْرَهُ([4])، وقد تم النور في كربلاء، حيث أمّنت حصونه زينب ابنة فاطمة بنت النبي محمد (ص).

في بيت علي (ع) قرأت القيادة وجسدتها في كربلاء والكوفة والشام.

مدرسة العزيمة وعنوان الصبر:

ثم جاءت بعد ذلك مساحة التطبيق العملي. فكثير من الناس يقرأ ويتأمل وينظِّر، لكنك عندما تعرض عليه أن تضع يدك في يده، لتنهض بمشروع ما، فإنه يتخلى عن دوره، فهو في منتهى الاقتدار أن يصنع خطوطاً متقاطعة، ويفرِّق بينها ثم يركِّب، ولكن ليس لديه الاستعداد أن يثبت ما يمكن أن تحدث تلك الحركة، أما زينب (ع) فهي التنظير والعمل، لأنها في بيت علي (ع) تتلقى أصول العلوم والمعارف، وفي كربلاء والكوفة والشام تجسد ما استطاعت أن تجمعه من الإمام علي (ع) واقعاً عملياً يقتضيه التكليف.

في كربلاء، صورة الدم الطاغية على المشهد، وهي امرأة، تحزن كأي امرأة، وحق لها أن تحزن، لأن المصاب جلل، فالأجساد موزعة، والرؤوس مفرقة عن الأجساد، في أبشع صورة عرفتها معارك الفصل، كل ذلك كان بعين زينب (ع) فهي التي وقفت على جسد الكفيل، والطفل الرضيع، وعلى الأقمار من الشباب، كالأكبر والقاسم. والأكثر من ذلك، أنها وقفت على شمر وهي يقطع أوداج الحسين (ع)، لكنها لم تنحنِ، نعم، جرت دمعتها، حتى قبل مصرعه، وقد كفكفها الحسين (ع) قائلاً لها: أخية، تعزَّي بعزاء الله، وهي كلمة المعصوم التي منحتها القوة التكوينية، فتعزت بعزاء الله، ووضعت يديها تحت ظهر الحسين (ع) ثم رفعت طرفها نحو السماء وهي تقول: يا رب، إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، فأية عظمة هذه؟

وفي الكوفة، وما أدراك ما الكوفة! حيث عبيد الله بن زياد بن أبيه، وهو فرع من أصل الدنس، وسليل مجهول الأب، كان غلاماً دون الثلاثين، تهاب بطشَه وقسوتَه الرجال، فهو سلطان جائر طاغوت، والشرطة بين يديه، فأراد أن يستفزَّها، لكنها كانت له بالمرصاد، في موقف ضعفت فيه الرجال وقويت زينب (ع). فقد عرَّتهم في الكوفة، وجردتهم في الشام، ثم عادت ـ وهي الأمينة المؤتمنة على الركب الحسيني ـ إلى كربلاء في قول، وإلى المدينة في قول آخر.

وعندما عادت إلى المدينة، بعد غياب الإمام الحسين (ع) عنها ـ وهو غياب ليس بعده عودة، وقد أحدث خللاً في المجتمع المدني ـ اشرأبت أعناق قوم ليس لهم من القيمة ما يحسدون عليه.

أين تقف النساء من زينب؟

أين تقف المرأة اليوم من هذه السيدة الجليلة؟ أين تقف بناتنا ونساؤنا وأخواتنا وبنات مجتمعنا منها؟ وعلى أي خطوط الاتصال؟ فأين النساء من زينب في مقام العلم والمعرفة؟ هل اتخذن منها قدوة؟ وفي مقام الهدي والتربية، هل تنهض البنت التي يُفترض أن تكون زينبية في قولها وفعلها في موقف محسوب في جانب الهدي والتربية، أو أنها انشغلت بما لا يستوجب أن تنشغل به، بحيث لا يُعدُّ مزاحماً ومهماً بالدرجة التي تقتضيه في تربية عيالها وحفظ زوجها والبيت الذي تتحرك فيه؟

وفي مقامات البذل والتضحية، ما الذي تضحي به المرأة من أجل زوجها وأبنائها وأسرتها؟

يتصور البعض أن التضحية بالمال فقط، ثم ينتهي دورها، ولكن هذا جزء وطرف من أطراف التضحية، فإذا تزاحم أمران، أحدهما يهمها، والآخر يهم الزوج، فما الذي تقدمه؟ هنا يتضح المقام. وكذا الحال مع الأبناء.

وفي مقامات العفة والنجابة، كيف كانت المرأة بالأمس، وكيف أصبحت اليوم؟ والأسوأ من ذلك أن يعين الزوج زوجته أو بنته على التمرد على مقاييس القيم في الحجاب والعفة، وهذا مما ينبغي أن نبكي على أنفسنا فيه طويلاً.

مخاطر معاصرة:

إن فتاة اليوم، عليها من المسؤوليات أكبر مما كان على الأمهات في السابق، لأن ما يعترض الطريق أكبر مما كان بالأمس.

ولا بد هنا من إدراج بعض الأمور:

1 ـ روح الانفتاح القسري والقهري التي باتت تفرض نفسها على آحاد المجتمع، لا سيما العنصر النسوي، ومن ذلك الدراسات المختلطة، التي لها آدابها وأحكامها وقيمها ومبادئها، لكننا زججنا ببناتنا في هذا الجوّ. فهل البنت محصنة أو مدركة أو تعي ما تقوم به؟ نعم، يفترض أن تشق طريقها، وتأخذ نصيبها وافياً موفىً من التعليم، وقد يلزم من ذلك المخالطة، ولكن عليها أن تُهيِّئ العدة كاملة لتخرج من الامتحان ناجحةً رافعة رأسها ورأس أسرتها ورأس المجتمع من حولها، فمن المسؤول عن ذلك؟ إنه أنا وأنت وهو وهم وهنّ، كلنا مسؤولون، فليس من حق أحد أن يتفرج، إنما عليه أن يُعدَّ البنت إذا ما أراد لها أن تشق طريقها في ميدان الحياة العملية إعداداً طيباً، فتخرج بقيم الدين وثوابته، وتتحرك بالقيم الصحيحة من موروث المجتمع.

فميادين العمل اليوم واسعة، والدراسات المختلطة موجودة، سواء كانت في المساحات القريبة أم البعيدة، والبعثات إلى الخارج اليوم على مصراعيها، وهي نعمة
ـ حسب ما أقرأها ـ لكنها نعمة كسائر النعم، إن كفرنا بها ارتدت على رؤوسنا، وإن شكرناها شكراً عملياً جنينا الثمار منها، فبها تقوى الأُسَر، ويرشد المجتمع، ويُبنى الوطن، أما إذا أفرغناها من هذا الجانب، وتخلَّينا عن المسؤوليات والأدوار المناطة بنا، فخصائص المجتمع الغربي تختلف تماماً عن خصائصنا، فهنا دين وأعراف، وهناك لا دين ولا أعراف، إنما هي قوانين وضعية سنها الإنسان في مصلحته هو، أما هنا فقانونٌ سنته السماء من أجل الإنسان.

2 ـ الغزو الثقافي الكبير، الذي ينخر بنا من جميع الجوانب، فما الذي أعددنا لهذا؟ لدينا من يخرج بثقافة محدودة بسيطة إلى مجتمع فيه من صراع الثقافة الشيء الكثير، ربما سقط وهوى فيه الإنسان المثقف، ورجل الدين، فما بالك ببنت خرجت من خدرها، من الثالث الثانوي، لا تدرك من الدنيا شيئاً، ثم تخرج خارج البلاد؟

قرأت في إحدى الصحف أن أكبر نسبة من الإلحاد في الغرب، هي في صفوف الطلبة المغتربين من البلاد الإسلامية، فالطالب هناك يُبهَر بما يرى، من مجتمع منظم مرتب مثقف، لا يعتدي فيه أحد على الممتلكات العامة، ويحافظ الجميع على نظافة البلاد، ويحترم المواعيد، ويلتزم بها، في الوقت الذي يرى في بلاده الكثير من المقاييس المعكوسة، من استباحة للممتلكات العامة وغيرها. فنحن نرى أن الحدائق العامة تتعرض لما تتعرض إليه من سوء الاستفادة والتخريب. وعندما تجلس في مظلة لا يروقك منظرها. وهذا ما لا يراه الطالب في الغرب.

وخلاصة الأمر علينا أن نسأل أنفسنا: أين يقف الأبوان من البنت؟ وأين تقف البنت من نفسها؟

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.