نص خطبة: أسباب الغلو في أهل البيت والتقصير والسلب في حقهم عليهم السلام

نص خطبة: أسباب الغلو في أهل البيت والتقصير والسلب في حقهم عليهم السلام

عدد الزوار: 2474

2015-10-01

10/ 12 / 1436 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

بارك الله لنا ولكم العيد السعيد، وأعاده الله علينا وعليكم وعلى عموم المسلمين ونحن على أحسن حال من الأمن والأمان والمحبة والسلام.

آفة الغلو:

في الحديث الشريف عن الإمام الرضا (ع): «إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع الناس الغلو فينا كفَّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا. وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا. وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا»([2]).

الغلو من الأسلحة التي شهرها أعداء الإسلام في وجه المسلمين، حتى بات هذا السلاح في أيدي جماعة يتقاذفونه هنا وهناك، خسائره لا حصر لها ولا عدّ، لأن هذه المسألة إذا ما أخذت لها موقعاً في قلب الإنسان وروحه، شطّ به المسار إلى مديات لا حدّ لها، والتاريخ يسعفنا بالكثير من الشواهد على ما للغلو من أثر خطير على واقع الأمم، بل درست مدنٌ، وانقضت حضارات، وأُسقطت أنظمة، وعاش الناس هرجاً في فترات كثيرة بناءً على ما للغلو من أثر واضح وبين لا ينكره إلا مكابر.

فمن أراد التاريخ فدونه المصادر، والمكتبات ملأى بها، ومن أراد تاريخنا المعاصر الذي نُسهم نحن في نسج الكثير من خيوطه؛ لأننا أبناء هذا العصر بالذات، فدونك الصحيفة التي نُشرت على مصراعيها، وابدأ من حيث شئت، من سطرها الأول أو من آخرها أو من وسطها. فهنالك مشاهد بات يندى لها الجبين، وكأنّ الأمة فقدت حكماءها وكبراءها وأهل القرار فيها.

عوامل الغلو:

وللغرور ـ أيها الأحبة ـ أسباب عديدة، وقبل فترة من الآن تعرضتُ لجانب منها، وأتابع هنا ذكر بعض الأمور الملحقة بما كنت قد ذكرته وإن كان بعض ما أذكره في هذه الوقفة أصيلاً لا تبعياً لها:

1 ـ الظلم الواقع على أهل البيت (ع): فقد ظُلموا منذ يوم علي (ع) وحتى يومنا هذا، فلا زال الظلم يجلدهم بسياطه في أكثر من مكان وزمان، لا لشيء إلا لأنهم اختاروا لأنفسهم واختار الله سبحانه وتعالى لهم أن يكونوا هكذا.

فأما أهل البيت (ع) فإن الله تعالى طهّرهم تطهيراً بنصّ قرآنيٍّ صريح لا ينكره إلا منكر للشرع، ومتمرد على أصل الدين. وأما شيعتهم فالنصوص فيهم كثيرة أيضاً. 

فالظلم إذا ما صُبّ على أمّة قد تلجأ إلى الغلو في من تعتقد فيه. وإن كان الأعم الأغلب من هذه الطائفة محافظاً على المسار، إما بسبب وجود الإمام المعصوم (ع) في زمانه أو من خلال عوالم غيب يتقلب فيها، لا ندركها نحن، ولا نستكشف كنه مفرداتها، لكنها بالنتيجة لها إسقاطها المباشر علينا. إلا أن هذا لم يمنع من وجود جماعة بين الفينة والأخرى ترفع لواء الغلو في أئمتنا (ع) وتذهب بالمسار بعيداً، فتنعتهم بما لم ينعتوا به أنفسهم، فضلاً عن يكون الله تعالى هو الذي نعتهم به، فلو كان ذلك النعت لهم لنص الله عليه في كتابه، ولوصلتنا الروايات الصحيحة عن محمد وآل محمد (ع) في ذلك.

2 ـ التشدد العقدي دون وعيٍ كافٍ: حيث يعوّل صاحبه على موروث مشوَّه. فكثير من المعتقدات في الملل والنحل يتسلل إليها المرض من خلال هذه الزاوية، وهي أن تبنى العقائد لا على أساس متين، إنما على تخرُّصات ورؤى وأحلام لم ينزل الله بها من سلطان، حيث إن هؤلاء يرغبون في ذلك، من خلال واقع يعيشونه هم، وليد ثقافة ضحلة، وعدم قراءة واعية لموروث طويل عريض ثقيل مشبع بالكثير من التمازج، سواء على مستوى المعنى أم المفردة. وبالنتيجة أنهم يلجأون إلى مثل هذه الأمور، ولكن سرعان ما تتكشف الحقيقة وتنقلب الأمور رأساً على عقب.

أيها الأحبة: علينا أن لا نظلم أجيالاً عاشت واقعها، بل علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة تأمل: ما الذي سيُقرأ فينا ونحن أبناء هذا اليوم، وهذا العصر، وهذه التقنية الواسعة التي تجتاح العالم في جميع زواياه؟ وماذا سوف يكتب التاريخ عنا بعد مئة سنة من الآن؟ وما الذي نقدمه من أدب أو فنٍّ أو قراءة واعية وانفتاح على الآخر؟

إن أهل البيت (ع) لم يغلقوا على أفكارهم أبواباً، ولم يضربوا لأنفسهم محاريب ينفصلون بها عن واقع الأمة. ونحن لا نرجع إلى أئمة في عالم غير مكشوف أبداً، فهم من الجلاء والوضوح في حياتهم وسيرتهم أوضح من الشمس في رابعة النهار. لذلك عندما نعتقد أنهم أئمة وقادة وسادة وهداة، فإنما نفعل ذلك اعتماداً على أصول، وعلينا أن لا نتوقف ونعير سمعاً لمجموعة من الأمور التي يراد من خلالها أن يعطى لأهل البيت مقامات لا أساس لها لا من قريب ولا من بعيد، بل هي للإساءة لهم أقرب، ولو أردت أن أسوق الشواهد فهي كثيرة. فمتى عمل الإمام (ع) (بواباً) عند أحد أبناء طائفته وأتباع مذهبه؟! ومتى عمل جندياً عند واحد من أتباعه وأتباع مذهبه؟! أئمتنا أكبر من ذلك، وعلينا أن نتعاطاهم بناءً على فكرٍ قدموه، فهم تراجمة القرآن، ولكن هل وعينا هذا المعنى وتوقفنا عنده؟ وهل أشبعناه بحثاً وأدينا مسؤوليتنا بعد جهد طويل في هذا الجانب؟ أم أننا لا زلنا نحوك قضايا يندى لها الجبين؟ فلا تكاد تمر بنا ذكرى شهادة أحدهم، ولا ذكرى مولده إلا وأُغرقنا بسيل من الأكاذيب والقصص المختلقة التي فيها إساءة واضحة، وربما توضع وتبرمج من أجل الإساءة، وربما كان إتيانهم من حيث لا يشعرون.

3 ـ الاضطراب الفكري والصراع السياسي بين القوى والتيارات: وهذا ما ينبغي أن نحذّر منه، وأن نكون واعين مدركين لخصوصية المرحلة، فالعالم اليوم بأسره يتهجى ما له وما عليه، فهلا تهجينا نحن ما لنا وما علينا؟

أيها الأحبة: هنالك الكثير من العناصر التي تجمعنا مع الإنسان بما هو إنسان، ومع الأخ المسلم بما هو مسلم، وكذلك مع المواطن بما هو مواطن، ومع الجار بما هو جار، وتطول القائمة بتعدد المفردات.

فالاضطرابات الفكرية والصراعات السياسية ما جرّت على الإسلام والمسلمين منذ أن غاب الرسول الأعظم (ص) عن الوجود إلى يومنا هذا سوى المصائب والمحن والتضحيات الجسام، والأنهر من الدماء في أكثر من موقع وموقع، فمتى تعي الأمة واقعها وتثوب إلى رشدها، وتتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها؟ تساؤلات مشروعة من حق أي إنسان أن يسألها لنفسه أولاً وبالذات، ثم يكون له الحق أن يسأل الآخر.

4 ـ رغبة الحكام والدول عبر التاريخ أن ينشغل الناس عن الأهم بالمهم ـ في أحسن التقادير ـ ولا أقول: بالسفاسف، وإن كان لها نصيب.

أيها الأحبة: لا إشكال أن كل قضية من القضايا المعتبرة لدى العقلاء لها قيمتها وما يرتجى من ورائها، سواء كانت من صنع الفرد أم المجتمع أم الدولة والنظام، لكن الأهم من ذلك، ما الذي نفهمه من كل قضية؟ فعندما ننتهي إلى نظرية أو أطروحةٍ أو حلٍّ أو أي أمر من الأمور، هل نكون قد أحسنّا المقدمات فيه؟ وهل أمعنّا النظر في نتيجته؟ وهل توخينا الحذر في الدخيل والطارئ عليه؟

في هذه المربعات كان الغلو يترعرع دون التفات من أكثر من طرف شريك في احتضانه، بل في تغذيته ودفعه ومساندته إلى ما هو الأخطر.

5 ـ الهروب من أسس التشريع في عبادات الإنسان المؤصل لها في الدين، إلى ما هو شكلي. وهذا ما نعيشه ونلحظه، بل بات يشكل لوحةً عريضة طويلة ربما نكون قد التفتنا إليها وربما لا.

ومن هنا نقول: لا إشكال أن مراسم أهل البيت (ع) في العزاء والأفراح هي من الأمور العبادية التي نتقرب بها إلى الله تعالى، وكذا الزيارات والعمرة والحج المستحبان وما إلى ذلك، ولكن هل أننا نعيشها واقعاً أو نذهب للبعيد على حساب ما هو الأساس؟

وكمثال على ذلك أن من الأمور الأساسية التي أسس لها الشارع المقدس حفظ الحقوق، فهل أننا نحافظ على الحقوق فيما بيننا؟ هل نحافظ على حقوق زوجاتنا في بيوتنا، أو أبنائنا أو إخواننا في مجتمعاتنا، وشركائنا في أوطاننا، وأبناء جلدتنا؟

البعض يجعل المقياس عدد المرات التي زار فيها الإمام الحسين (ع) مثلاً، أو التي ذهب فيها إلى الحج، وهذا أمر عبادي بلا شك، ولكن، هل حاسب نفسه عما علق في ذمته من حقوق؟ سواء كانت حقوقاً شرعية أم ديوناً لآخرين أم غيرها.

إن أساس الدين هو إقامة الأصول من الحق والعدل وأمثالها، فالدين المعاملة، أما الشعائر الأخرى فهي وسائل وعوامل مساعدة، أو بعبارة أخرى أن هنالك فرائض وواجبات لا ينبغي أن تتقدم عليها المستحبات، فلو أن أحداً كان تاركاً للصلاة الواجبة، هل ينفعه أن يزور الإمام الحسين (ع)؟

وكمثال على ذلك، لو أننا عملنا إحصاءً لصلاة الفجر خارج شهر رمضان المبارك، فكم هو العدد المتوقع أن نجده ممن يلبون نداء الله تعالى في هذا الوقت؟ لا شك أنهم أقل مما نتوقع.

إننا نجد أن قرية فيها عدد كبير من رجال الدين، ولكن ليس فيها صلاة جماعة عند الفجر! في حين أن جار المسجد يفترض أن يكون نموذجاً للأمة يحتذى به، وتمتثل أفعاله ويقتدى بأقواله.

إن مشكلتنا كأمة أننا لا نراجع الحسابات، فنفترض أننا خارج دائرة الخطأ، وأننا أمة معصومة. فالكثير من الناس يعمد إلى لتركيز على الجانب العاطفي، ومن الطبيعي أن ينجذب الإنسان إلى كل ما هو عاطفي، ولكن لا بد من تقديم الوعي أولاً. فمن يدرك ويعي حركة الإمام الحسين (ع) عليه أن يقيم العزاء عليه، وأن يراعي الضوابط، لا سيما في الذمم. 

أيها الأحبة من أصحاب الذمم: راجعوا ذممكم، وكونوا واضحين كما كان أئمتكم واضحين مع أتباع مدرستهم.

6 ـ الرغبة في الهيمنة الشخصية: ولهذه نماذج وأمثلة، ومنها دعوى الاتصال بالخلف الباقي من آل محمد (عج) وأخذ الأوامر منه. وهذه دعوى موجودة لها أنصارها وأعوانها وأتباعها، وهم من الغلاة في الدين، وليس الغلو في الدين حب أهل البيت (ع) كما يحاول البعض أن يصوره للناس.

إن الهيمنة المذكورة على الناس تكون من خلال الخزعبلات التي يقتاتون من خلالها على البسطاء من الناس من ذوي الإيمان الفطري والطبيعة السهلة السمحة. وما كان ذلك ليكون لولا وجود هذه الطبقة من الذين يرغبون في بناء الذات والشخوص.

من يريد أن يشار إليه بالبنان فعليه أن يكون أهلاً لذلك من خلال العمل الجاد النافع، والسير في طريق العلم والمعرفة، ليكون طبيباً أو مهندساً أو استشارياً أو غير ذلك، ذكراً كان أم أنثى.

وأؤكد هنا على الأخوات فأقول: أيتها الأخوات المؤمنات المواليات: إن الحسين (ع) مدرسة وعطاء وصفاء وصدق وتضحية وفداء واستقامة، والمطلوب أن يكون هو القدوة التي نرجع إليها.

أئمتنا (ع) يحذروننا من غوائل تلك الأمور لأن الضريبة صعبة، فالإمام (ع) يقول في الحديث السابق: «فإذا سمع الناس الغلو فينا كفروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا». فلم لا نكون زيناً  لهم كما أرادوا؟

أيها الأحبة: لقد قلت في شهر شعبان: إن الله تعالى أكرمكم بالعقل، فلا تسلموا عقولكم للمتاجرين بها كائناً من كانوا، وتحت أية راية ساروا، وإلى أي عنوان انتموا.

التقصير بحق أهل البيت (ع):

وفي الطرف المقابل، بقدر ما يكون هنالك غلو في أهل البيت (ع) يكون التقصير أحياناً، لذا يقول (ع): «وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا». فهنالك طبقة اجتماعية ظهرت في أوساطنا لا ترضى لأهل البيت (ع) أبسط المراتب، مع أن أهل البيت (ع) صنائع الله، وكفى بذلك فضلاً ومقاماً. فإن كان موسى (ع) صنيعة من صنائع الله وفعل ما فعل، فكيف بأربعة عشر من صنائع الله سبحانه وتعالى؟.

وهنالك أمر ثالث يذكره الإمام (ع) بقوله: «وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا». وهذا ما نراه اليوم بشكل واضح، فبعض المتاجرين بالعمائم في بعض القنوات الفضائية يعيثون في الدين فساداً، والمستنكر لهذا الوضع قلة خجولة تخاف أن يتخطفها الناس.

فلو أن هذه الغربان من تجار العمائم، من خلال قنواتهم المعروفة عندكم بقيت تنعق ـ وهم قلة قليلة معروفة لديكم ـ فعلينا أن ننتظر مستقبلاً مريراً دموياً بغير رحمة. والإنسان على نفسه بصيرة، وكل منا مسؤول، ولا ينبغي أن يتخلى بعضنا عن المسؤولية كلٌّ بحسبه.     

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنَّ علينا وعليكم بأمن وأمان واستقرار دائم، وأن يحفظ بلاد المسلمين عامة، وأن يجعلنا آمنين مستقرين في بلادنا، وأن يدير دائرة السوء على أعداء المسلمين، وأن يخلص البلاد والعباد من غائلتهم بحق محمد وآل محمد (ع).

والحمد لله رب العالمين.