نص خطبة: أسباب الإنحراف ونتائجه

نص خطبة: أسباب الإنحراف ونتائجه

عدد الزوار: 2319

2015-09-16

26 / 11 / 1436 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

الاعتدال في الدين:

قال الحكيم في كتابه: ﴿وَدَّ كَثِيْرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّوْنَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِكُمْ كُفَّارَاً حَسَدَاً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾([2]).

الحق والحقيقة هما غاية الإنسان الباحث في هذا الوجود، وربما يتعثر في طريقه وتعترضه بعض الأمور، ولكن بالصبر والمثابرة والتحمل يستطيع أن يعبر المسافات ويلغي الحدود ويتجاوز العقبات ويصل إلى المرجوّ.

والناس مع دينهم بين شدة افترضوها على أنفسهم ليس لها في الدين نصيب، وبين تفلُّتٍ من أبسط القيود الدينية، وآخرون أحدثوا حالة من التوازن بين مرتكزات هذ الدين وثوابته وما تفرع عنها بطرق معتبرة.

والنبي الأعظم (ص) منذ الأيام الأولى كان يحاول نزع فتيل التشديد وسط الأمة، وفي جيل الصحابة الأول. وكان يذكرهم فيما فعل بنو إسرائيل قبلهم في قصة البقرة فيقول: «شددوا فشُدِّد عليهم»([3]).

فأصل الرسالة أبعد ما يكون عن الشدة والغلبة وتحميل النفس فوق ما تتحمل. فعلى فترة من الرسل بعث الله نبيه (ص) خاتماً للنبوات والرسالات، ولكن برسالة فيها الانسجام والحب والحركة مع متطلبات الحال، لذا نرجد أن حلاله دائم إلى يوم القيامة، وحرامه كذلك. لأن في الأحكام الشرعية من المرونة ما يعطيها القابلية أن تتحرك مع المكلف حيث اتجه. ولكن الناس يبتدعون أشياء يلزمون أنفسهم بها، وهي في أول أمرها مخترعات يخترعونها، ومع مرور الزمن والتلقي تصبح وكأنها صُبغت بلون المعتقد، وأن التخلي عنها يدخل الإنسان في كارثة.

ظاهرة الانحراف:

ومن أخطر ما ولدته حالة التشدد في وسط الأمة صفة في منتهى الخطورة، وهي صفة الانحراف. فلو عاش الإنسان مرناً مع التشريع والقانون، لما حصل الانحراف. بل يمكن أن ندعي أكثر من ذلك، بأنه حتى لو كان مرناً مع القانون الوضعي لعاش حالة من الهدوء والاستقرار، ولكن عندما يكون التشدد في التعاطي، سواء كان من المقنِّن نفسه أم من المقنن له، فإن الشدة تودي أخيراً بصاحبها.

لذا نجد أن أئمتنا (ع) وقبلهم النبي محمد (ص) ما انفكوا يحذرون في سياق القرآن الكريم من وجود هذه النمرقة في وسط الأمة، بحيث أن الفتنة سوف لن تصيب الظالمين: ﴿وَاتَّقُوْا فِتْنَةً لَا تُصِيْبَنَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾([4]). فللفتنة عموم وسراية في عموم المجتمع دون استثناء.

أسباب الانحراف:

وللانحراف أسبابه المتنوعة، وربما تشارك الأسرة في وضع حجر الأساس للانحراف من حيث لا تشعر، وربما تلعب المدرسة دورها، وكذلك السلك التعليمي بشكل عام. ولكن هنالك أمور أستعرضها هنا على نحور الفهرسة:

1 ـ الفقر القاتل وملحقاته: يقول الإمام علي (ع): «الفقر الموت الأكبر»([5]). وذلك لما يترتب عليه من المخاطر. فهو أول العوامل التي تدفع الإنسان للانحراف. فما دخل الفقر في بيت إلا وأربك أوضاعه، وما استولى على مجتمع إلا وأرداه، ودونكم كتاب ­«قصة الحضارة» لما تقدم قبل الإسلام، ودونكم التاريخ الإسلامي وما سطر فيه وما حمل وقدم من شواهد.

لذا نجد أن القرآن الكريم أعطى أهمية لهذا البند ـ أي الاقتصاد ـ للإجهاز على حالة الفقر والعوز في أوساط الأفراد والمجتمعات. ولكننا ـ مع شديد الأسف ـ بعد أربعة عشر قرناً من الزمان لا زلنا لا نرد من حياضه إلا من خلال كوة ضيقة صغيرة، كأن نستشفي به من مرض، أو نتلو أجزاء منه ترحماً على فقيد، وربما نتعاطاه أيضاً إذا أردنا أن نجتاز عقبة امتحان أُلزمنا به هنا أو هناك.

تصوروا لو أن الأمة لا يصاب أحد فيها بمرض، ولا تصاب بفقد عزيز، وليس هنالك مدارس تطالبنا بامتحان في القرآن الكريم، فكيف يكون حالها مع القرآن؟

فالأمة التي تريد أن تنتزع الفقر من أوساطها عليها أن تلوذ بهذا المبدأ.

2 ـ التفكك الأسري ولوازمه: وهذا الأمر متولد عما قبله بشكل عام، فالطلاق مثلاً، بل حتى تعدد الزوجات إنما يعكس نوعاً من أنواع التفكك الأسري أو يتسبب فيه. لذا فإن الإسلام يفتح الباب أمام الزوج أن يُعدد، ولكن لا على الإطلاق، إنما بشرط العدالة.

والعدالة كمفهوم لا ينبغي أن نتعاطاها بهذا الشكل من البساطة، فهي أمر عظيم جلل، إذا ما أراد الإنسان أن يلتفت إليه. وهي كمَلَكةٍ من الملكات تشتد وتضعف، بل الأكثر من ذلك أنها يبنى عليها في بعض الموارد بكيفٍ معين، فيما يبنى عليها في موارد أخرى بكيف آخر. فعلينا أن نلتفت لتلك الأمور المهمة جداً.

فعدالة المرجع في قوتها وتماسكها تختلف عما نشترطه في عدالة إمام الجماعة، وإن كانت شرطاً في الأخير أيضاً. وهكذا تنبسط الأمور في عالمنا الخارجي.

فالتفكك الأسري كارثة، ومصاديقه كثيرة، فهناك تفكك يحصل بسبب الميراث. تصوروا أن إخوة يعيشون ثلاثين سنة بعد فقد أبيهم لا تُحلُّ عندهم مسألة الميراث، فهناك أموال معطلة. والأسوأ من ذلك أن تستعر حالة من العداء بين أبناء هذا وأبناء ذاك، تبدأ ولا تنتهي، ويموت الإخوة ويبقى الأبناء يحملون تركة ثقيلة هم أبعد ما يكونون من إنهائها، لأنها لم يجهز عليها في دائرتها الضيقة، فمن باب أولى أن تتسع الدائرة.

3 ـ قرناء السوء ومشاريعهم: أيها الشباب الطيب المبارك: أول ما ينبغي أن نحذر منه هم قرناء السوء، فقرين السوء ظاهره جميل مرن سهل طيّع كريم مُضحٍّ، وهذا كله أول المشوار، إلا أنه وفي وسط المشوار يتراجع لديه المؤشر، ثم ما يلبث أن يهوي بعد أن يتجاوز مرحلة الانحدار النسبي، حيث يأخذ المؤشر حسابه في الاتجاه المعاكس ليسقط في هاوية سحيقة، فلا يلتفت الشاب إلا ويجد نفسه ضحية، فلا مجال عندئذٍ للندم والتقاط الأنفاس ومراجعة ما كان ينبغي أن يضع له حداً قبل ذلك.

فقرناء السوء، سواء في صفوف النساء أم الرجال، ينبغي أن يؤخذ أمرهم بعناية فائقة، وعلى الآباء أن يساعدوا أبناءهم لوضع الحلول. فربما نحتاج إلى قطع العلاقة، فلماذا نجامل على حساب مصالح أبنائنا؟ فمصالح أبنائنا أولى، وهم يمثلون مسؤولية ملقاةً على عواتقنا. فعلام نجامل؟ هل لأن الولد يمشي مع ابن فلان؟ فإن كان فلان صالحاً هل يكون ابنه صالحاً تبعاً له؟ كم من أبناء من يشار إليهم بالبنان انحرفوا عن مسار آبائهم! وكان علي (ع): «ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا»([6]). والشواهد اليوم في حياتنا كثيرة، حيث تجد الأب متديناً ملتزماً، لكن الولد بخلافه.

لذلك أنبّه على حالة ملحوظة في المجتمع، وآمل أن لا تصبح ظاهرة في يوم من الأيام، وهي أن تزوج ابنتك لرجل على أنه ابن فلان، فهذا خطأ، وفي منتهى الخطورة. بل حتى ابن الأخ الذي تعلم في ظاهر الحال منه السوء. فالمخاطر تنتظرك، وستكون الأسرة مهلهلة، ويكون البناء متداعياً يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال.

وقد يرى البعض أن ابن عم البنت أولى! ولا أدري من أين أتت هذه الأولوية؟ هل هي في آية منزلة أو سنة مطهرة؟ نعم، هنالك وصية بالقربى، ولكن مع الاستقامة. لذا نجد في الروايات الشريفة: «من زوَّج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها»([7]). وغيرها من الشواهد الكثيرة.

فقرناء السوء مصيبة، وهم في أول أمرهم طيبون ناعمون إلا أنهم بمرور الزمن يتغير وضعهم إلى وضع آخر. وهذا الذي يحدث في المشهد العام من حولنا يمثل فيه قرناء السوء العمود الفقري، لغياب الرقابة، واجتماع كل عوامل وأسباب الانحراف في معظمهم.

4 ـ سوء المعاملة من الأبوين: فالآباء أحياناً يدفعون أبناءهم إلى دائرة السوء والانحراف ـ والعياذ بالله ـ من خلال مسارين منحرفين (بمعنى تجاوز الحد والخروج عن الاستقامة):

المسار الأول ـ الثقة المفرطة في الأبناء: بحيث تجد الأب يثق ثقة لا حدود لها بولده، فيركن لتلك الثقة فترة من الزمن، حتى يتفاجأ باتصال من الشرطة بأن الولد في قبضتهم. فلا ينبغي أن يثق الأب في ولده بشكل غير محدود.

المسار الثاني: الشدة والغلبة، بحيث يضيق على الولد بأشد ما يكون التضييق، فلا يكاد الولد يخرج من البيت حتى يعترضه الأب، ولا يكاد يتحرك بالهاتف النقال إلا ويبادره بالسؤال.

وكلا المسارين خاطئ، لأنهما يقدمان الولد لقمة سائغة للمجرمين في الخارج من حيث لا يشعر الأب بذلك. وهنالك دراسة علمية مبنية على أرقام وحقائق علمية، أن الولد من السنة الأولى إلى الثامنة عشرة ـ أي في مرحلة الدراسة الثانوية ـ هو أشبه بالعجينة، يحوّرها من تقع في يده، ويصنع منها ما يشاء. فهم أشبه بالمادة الأولية للنحت التي يأخذها الفنان ليصنع منها تحفة فنية تخطف الأبصار وتسرق الألباب، ويأخذها من لا علاقة له بالفن فيعبث بها.

5 ـ التقنية الحديثة والإعلام الموجه: فقد ذكرت قبل أيام أن ثمانين بالمئة من شخصية النشء اليوم تصاغ من خلال دائرة الإعلام العالمي. فنسبة تدخّلنا اليوم في صياغة شخصية الولد انحسرت بكثير عما هي عليه في السابق، إذ كان الولد يعيش فترة الطفولة بين أحضان الوالدين، ثم يبعث إلى الكتاتيب ليتعلم، وبعدها ينخرط في حقول الزراعة مع أهله، وكثيراً ما كان يُتعامل مع الأولاد من منطلق الاسترقاق وكأنهم عبيد. فكان الولد يستيقظ مبكراً ولا يعود من العمل إلا في الليل أحياناً.

نتائج الانحراف:

ضمن هذه المعطيات لو أردنا أن نكتشف حالة الانحراف لدى الولد، فما علينا إلا أن نستضيء بالأسباب التي ذكرناها كي تتضح لنا بعض المؤشرات، فمنها:  

1 ـ الفشل في الدراسة: وهو من أهم المؤشرات على الانحراف عند الفرد في المجتمع، والإحصائيات اليوم تؤكد وجود التراجع الواضح في مستوى التحصيل العلمي عند النشء في الوطن العربي. ومن أسباب ذلك التراجع أن أبناءنا منشغلين بما بين أيديهم من التقنيات الحديثة، بل إنك تلاحظ في المجالس العامة أن الأعم الأغلب منشغل، حتى أصبح أحدنا لا يرغب في حضور تلك المجالس لأن حضوره وعدمه سواء، إذ إن الجميع في شغل شاغل عنه.

فالفشل الدراسي أمر خطير جداً، وعلى أولياء الأمور أن ينتبهوا لما يحصل، وليست المسألة أن يخفق الطالب في امتحان ليصحح إخفاقه هذا ويعوضه، إنما المهم هو البحث عن السبب، فربما يكون للأب أو الأم نصيب في ذلك الفشل والإخفاق. 

2 ـ التهرب من الأجواء الدينية ذات الطابع الإصلاحي الواضح: فترى الشاب لا يروق له الذهاب إلى مسجد أو حسينية. وقد لاحظ القائمون على الاحتفالات ـ بشكل عام ـ تناقص الإقبال على المساجد والحسينيات في الاحتفالات عما هو عليه في السنين السابقة. فلا بد أن نقف عند هذا الأمر ونسأل عن الأسباب. فعندما يصيب الجفاف مساجدنا وحسينياتنا ومنتدياتنا ومجالس الخير والبركة عندنا فعلينا أن نلتفت.

3 ـ التماهي مع الأفكار المنحرفة: فتجد الشاب معجباً بسماع الفكر المنحرف من هنا أو هناك ليردده دون أن يعي ما يقول، ودون أن يتفحص ما وراء الكلام، أو يكشف النقاب عنه.

4 ـ ارتكاب الجرائم الخاصة والعامة: فنحن نلاحظ أن بعض الأمور في البيت أخذت بالتناقص أو الغياب التام. ولا بد هنا من الانتباه المبكر لما يجري، وعدم ترك الأمور تجري حتى يقع الفأس في الرأس.

5 ـ الانحراف العقدي: وهو الأخطر من بين كل ما مضى، فإصابة المرء في معتقده هو الطامة الكبرى، وأخطر مسارات الانحراف التي يترتب عليها أمور في منتهى الخطورة، ومنها إلغاء الآخر، فلا يطيق أحدهم أن يرى الطرف الآخر أمامه، حتى لو كان ذلك الآخر من أقرب القرابة إليه، وقد سمعتم عن ذلك الذي اعتدى على أحد القيادات الأمنية في الرياض قبل فترة، وهو خاله.

وبعد الإلغاء يأتي دور التكفير، والبعض يرى أن التكفير يحصل أولاً ثم الإلغاء، وفي الحقيقة أن العكس هو الصحيح. فدائرة التكفير تبدأ بحلقة ضيقة ثم تتسع حتى تشمل أمة بكاملها، فهؤلاء الذين يريقون دماء المسلمين اليوم يكفّرون المسلمين عامة، ومن يقتل في الوطن العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه كلهم من المسلمين، والسبب هو الانحراف العقدي، الذي يستغل من دوائر الاستكبار العالمي. ولو أن الأمور عولجت منذ البداية لما بلغ الحال إلى ما بلغه اليوم، فقد كانت الحرب آنذاك مع إسرائيل ثم أخذت مساراً آخر.

ثم يأتي بعد التكفير القتل العشوائي الممنهج، وهي مصيبة أخرى، فهؤلاء يقتلون على الاسم والهوية ومحل السكن وغير ذلك.

نسأله تعالى أن يبصرنا وإياكم عيوب أنفسنا، وأن يجعلنا ممن يصلح من حاله وحال الأمة من حوله، وأن يجعلنا آمنين مطمئنين في بلادنا، نعيش عيشاً رغداً، وكذلك سائر المسلمين.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.