نص خطبة:أثر العلماء في بناء المجتمع الواحد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
عظم الله أجورنا وأجوركم بسماحة آية الله العم السيد محمد علي السلمان.
في الحديث الشريف: «لن يلج النار من صلى عليّ»([2]).
مصيبة فقد العالم:
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرين ~ الَّذينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ}([3]).
وفي الحديث الشريف عن النبي (ص) وبطرق من الفريقين: «إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة» ([4]).
وفي الكافي للكليني: «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في لإسلام ثلمة لا يسدها شيء»([5]).
نبذة عن أسرة آل سلمان:
السيد الفقيد الكبير من أسرة السادة آل سلمان، الأسرة الكريمة الشريفة المعطاء، فمن جهة شرف النسب تتصل برسول الله (ص) عن طريق الإمام الكاظم (ع). والأسر الشريفة كثيرة، بل لكل أسرة نصيب من الشرف والمكانة، لكن للقيمة العلمية في الأخذ بعنوان الأُسَر الشيء الكثير. ففي كل أطراف المعمورة، حتى أولئك الذين لا ينتمون لدين الإسلام، يكون للأسرة في المكون الاجتماعي لهم أثر وقيمة كبيرة.
فعندما نتصفح الحال في أوربا غرباً، والهند والصين وغيرها شرقاً، وغير ذلك من بلاد العالم، نجد هذا الأمر جليّاً واضحاً، فكيف لا يكون كذلك عندما نسلط الضوء على دائرة المكوّن الديني؟.
فالأسرة والقبيلة والعشيرة لها قيمتها، ويترتب على تلك القيمة الكثير من الآثار في أوساط مكونها كأفراد وانتماء، وفيما يترتب عليه من ارتباط مع هذه القبيلة وتلك. لكن العلم إذا كان يرفع بيوتاً لا عماد لها، فكيف الحال والأسر لها أعمدتها العلمية؟.
ويكفي أن هذه الأسرة تنتمي لأشرف خلق الله النبي الأعظم محمد (ص). فقبل قرون يسيرة من الزمن، نزل جدنا الكبير السيد سلمان مع والده رحمهما الله تعالى في الأحساء، وشكّلوا هذه العائلة التي لها فروعها اليوم في البصرة والقطيف والكويت والرميلة والقرين والمطيرفي. والعمود الفقري هو المجموعة المتواجدة من هذه الأسرة في مدينة المبرَّز العزيزة.
وقد أخذت هذه الأسرة مكانتها عندما برز فيها الأعلام، وأول رجل دين في العائلة هو الجد العلامة السيد أحمد السلمان، وهو والد الجد السيد هاشم المقدس، أول مرجع في العائلة، وقد رجعت إليه الأحساء وامتدت مرجعيته إلى بعض الأطراف في دول الخليج.
وقد تصدى للمرجعية من هذه الأسرة عَلَمان، وإن كانت توصف بالمرجعية المحلّية، مع امتداد نسبي. وبالرغم من وجود مراجع كبار في حاضرتي العلم قم والنجف الأشرف، إلا أن هذين العلمين قاما بأعباء مسؤولية المرجعية في مجتمعهم، وسارا بها سجحاً وثبّتا لها أصولاً تفرع عنها نبت طيب بعد ذلك. وهذا المرجعان هما الجد السيد هاشم المقدس، والخال السيد ناصر المقدس رضوان الله عنهما. وقد كانت مرجعيتهما مليئة بالعطاء والجهود والتواصل مع الخاص والعام، وقد فرضا وجوداً على جميع مفردات المكوّن من حولهم، بتعدد ألوان طيفه، لذلك قُرِّبا وقُدِّم لهما الكثير، كما قدَّما الكثير للناس من حولهما، فلا نستغرب استحضار هذه الأسماء المباركة في محافلنا والاعتزاز بها كثيراً، والرغبة الجادة في أن يوجد من يلامس تلك النماذج الراقية السامية، ولو في بعض نواحيها.
وفي جانب القضاء برز أيضاً من هذه العائلة رموز أسسوا لذلك، ولا زال غرسهم يؤتي ثماره إلى يومنا هذا. فكان القاضي الأول مع الدولة السعودية الحديثة الثالثة، هو العم السيد حسين العلي السلمان، القاضي الذي حظي باعتبار ودعم مباشر، بحيث كان للقضاء آنذاك قيمة ونفوذ وسلطة، فإن قال القاضي كلمته فلا يردها أي طرف كان، ونفذ على الكبير والصغير، لذلك استقام المجتمع آنذاك، لوجود المظلة الراعية والتدخل المباشر في القضايا، مع وجود سند قوي يتكئون عليه عند تلكؤ المتنازعين.
ثم جاء من بعده ولده القاضي آية الله العم السيد محمد أبو عدنان، ذلك الرجل العظيم. ولو أنصفت الأحساء نفسها لما تعدته في التقليد، وكان ثالث رمز من رموز التقليد في هذه العائلة، ولكن لشدة التقوى والورع وعدم الرغبة في الابتلاء بما يترتب على الفتوى من قبل شخصه الشريف، ووجود رغبة معينة لدى البعض في أن يحصل فتح مسارات جديدة، لم يشأ أن يتبوأ هذا المقام، وسوف أسلط الضوء في يوم من الأيام إن شاء الله، على الأسباب والبواعث الكامنة وراء انتقال المرجعية من الدائرة المحلية إلى ما وراء ذلك.
ومن هنا نسأل: هل حان الوقت لتستعيد المنطقة تاريخها المجيد في مسار المرجعية أم بعد؟ هذا ما سأتطرق له في القادم من الأيام إن شاء الله تعالى.
إذن، أصّل هذا العلمان للمسار الجديد على الطائفة في ظل دولة نظامية، لكن آثار تلك القواعد التي أصّلوها لا زالت تفرض نفسها.
أما اليوم، فإن عائلة آل سلمان، تضم بين جنباتها الكثير من الأسماء التي لها القيمة والحظوة الكبيرة في مسار العلم، مما يؤمّن لها وبشكل واضح، القدرة على الاستمرار في العطاء والبذل من أجل المجتمع من حولها، ومن أجل المساعدة في بناء هذا الوطن الطيب.
وهؤلاء وإن نأَوا بأنفسهم، وتستروا وراء أسمائهم، ولكن فيهم من يُعوَّل عليهم، علماً وأدباً وعطاءً وفكراً، ونسأل الله تعالى أن يعين المجتمع أن يساعدوا هؤلاء على أخذ المكانة التي تليق بهم.
ونحن مع شديد الأسف، لا تطربنا مغنية الحي كما يقول المثل، إنما يطربنا ما هو خارج حدود الحي، حال أن صاحبة الحي هي المشخَّصة والمعروفة والمعلومة منذ نعومة أظافرها، فمن الحريّ بنا أن نطرق أبواب هؤلاء، وأن نقف وراءهم، ونقدم لهم الدعم، حتى يستطيعوا أن يعيدوا تلك الفترة الجميلة الراقية التي يشار بها إلى هذه المنطقة على أساس العلم والعلماء، لا على أساس النفرة والخلاف كما هو الحال اليوم.
الآثار الاجتماعية للفقيد الراحل:
من آثار هذه العائلة حفظ وحدة المجتمع، وقد تمثل ذلك في الكثير من أعلامها. فواحدة من تلك المفردات، ما تمثل بالسيد الفقيد رضوان الله تعالى عليه، الذي استطاع أن يكوّن نسيجاً واحداً لجميع أبناء المجتمع الأحسائي، ويصهر هذا الوجود ضمن بوتقة معينة، فجعل راية الإمام الحسين (ع) هي المحور الذي يلتفون من حوله.
ومن آثار ذلك تماسك اللحمة الوطنية، ويشهد لذلك تنقلات هذا السيد الفقيد في أكثر من موطن وموطن، ومناسبة وأخرى، مقتدياً في ذلك بأجداده الطاهرين من آل محمد (ع).
والأمر الآخر: مدّ الجسور مع جميع أطراف المكوّن من خلال التواضع، رغم أن لرموز العائلة ما يمكن أن يشمخوا به في بعض المواطن، لما يتوفر في أيديهم من المكتسبات الكثيرة، إلا أنهم أبوا إلا أن يعتلوا صهوة التواضع، ويجسّروا من خلالها العلاقة مع جميع الناس من حولهم، لذلك لا غرابة أن نجد هذا الاندفاع والشوق والحضور في مناسباتهم ذات الطابع الفرحي أو طابع الحزن المأساوي، وهذا ما يشهد به واقع الحال.
أساتذته:
لقد تتلمذ السيد الفقيد على يد منظومة كبيرة، عندما تجمع بين أطرافها تجد دائرة متكاملة تعطي طالب العلم القدرة والتفوق في الكثير من المجالات. فأستاذه آية الله زعيم الحوزة العلمية السيد الخوئي رضوان الله عليه، حيث حضر في محفل درسه دورةً أصولية كاملة، والجميع يعلم أن السيد الخوئي إمام مدرسة الأصول في حوزة النجف في الفترات المتأخرة بعد غياب الأعلام الكبار.
ثم كانت تلمذته على يد الإمام الشهيد الصدر الأول رضوان الله تعالى عليه، حيث حضر عنده دروس الخارج فقهاً وأصولاً، وطبعت شخصيته بشخصية ذلك الرجل العظيم، مما أكسبه القدرة على تمهيد الطرق وتجسير الجسور، للانتقال من مربع إلى مربع آخر بكل نجاح واقتدار.
والأستاذ الثالث هو آية الله المقدس الشيخ محمد أمين زين الدين البحراني الغروي، رضوان الله تعالى عليه، الرجل العظيم في أدبه، حيث كان أصحاب الفكر والقلم والعلم والوعي في بدايات الثمانينات يدفعون الناس لقراءة كتبه، لما فيها من السبك الراقي الذي لا نظير له في العصور المتأخرة، مع قصد الهدفية والوصول بالقضية إلى عقل الإنسان المتلقي، بحيث لو وقع في يدك كتاب له، وبدأت معه، ستجد نفسك ملزماً أن تقف على السطر الأخير منه، لعذوبة السبك، ومرونة المعنى المنساب في داخل المفردات. فانطبعت شخصية سيدنا الفقيد بسلوك ذلك الرجل العظيم أيضاً.
وهكذا كان مكون شخصيته من علم وأدب، ولا بد أن يترك ذلك أثره فيه، ليتفرع بعد ذلك ويفيض على المجتمع من حوله.
بعث الروح في حوزة الأحساء:
وقد سجل السيد الفقيد حضوراً في المجتمع وفي أكثر من مناسبة وموقف، ومن تلك المواقف تشكيل الحوزة العلمية في الأحساء بعد اندثار، ونفث الروح فيها بعد موت، وإيقاظها بعد سبات. فقد جاء للأحساء ولم تكن فيها حوزة، غاية ما في الأمر كان فيها دروس هنا وهناك. ففي المبرز مثلاً، كان يتصدى العم المغفور له العلامة الشيخ صادق الخليفة، لتربية جمع من رجال الدين، وكان يتخذ من بيته مقراً. وكذلك سماحة العلامة المغفور له الشيخ صالح السلطان، الذي كان يتخذ من بيته في محلة العيون موقعاً لتعليم وتربية طلاب العلم، وقد تخرج على يديه الكثير، وباعتقادي أنه كان النواة الأولى التي التقطها سماحة العلامة الفقيد السيد محمد علي، وزرعها في موضع هو الأصلح أن تكون فيه وارفة الظلال. فكان الجامع الكبير في الشعبة. ولم يكن السيد وحيداً منفرداً في ذلك، إنما وقف إلى جانبه أعلام، ودفع مسيرته أركان وأطواد، لهم قيمتهم وأثرهم.
فمن هؤلاء العم الشيخ حسين الخليفة رضوان الله عليه، الذي دعمه مادياً ومعنوياً، ووقف معه منذ اليوم الأول حتى انفصل عن واقع المجتمع بسبب ما تعرض له من تقدم في السن وما له من لوازم. وكذلك آية الله العم السيد محمد الناصر رضوان الله تعالى عليه، أبو السيد عدنان، الذي باشر التدريس بنفسه، وحتى عندما أعاقته الظروف، كان يستكمل دورته مع بعضهم في بيته رغم أنه مقعد، إلا أنه لم يتخلَّ عن إفادة الآخرين عما استفاده.
أما العلامة الشيخ صالح السلطان فقد أغلق أبوابه الخاصة وتوجه نحو المسار العام، ودفع الأمور بهذا الاتجاه.
ومن أولئك الذين ساهموا معه في ذلك، سماحة الشيخ إبراهيم البطاط منّ الله عليه بالعافية إن شاء الله، ومتع الله المؤمنين بطول عمره، فقد وقف بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى في ظل هذا السيد، ودفع الكثير من العطاء مادياً ومعنوياً.
أيها الأحبة: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، وعلينا أن نضع النقاط على الحروف ونكون في منتهى الصراحة، ولا ينبغي أن يكون للحساسية والموقف الشخصي أثر عندما نريد أن نستعرض حادثة أو قضية أو شخصية، وإنما علينا أن ننطلق معها على أساس ما لها وما عليها، وإذا ما حال الموت بين طرفين، فينبغي أن تطوى صفحة (ما عليها)، ويبقى (ما لها) من جمال وتألق ليكون سيد الموقف.
التحرك الاجتماعي المنظّم:
أما عن التدريس، فإن هذا السيد الجليل مارسه منذ أول يوم حتى آخر فترة في شهر صفر، فلم يتخلّ عنه، وهي ميزة انفرد بها عن أقرانه، إذ لم يسجل التاريخ أن علماً من أعلام العلم والمعرفة في هذه المنطقة نذر نفسه أربعة عقود كاملة يبذل علمه ويربي الأجيال والطلبة من حوله، وما شاهدتموه بالأمس هو أقل القليل مما ينبغي أن يقدم له، سواء كان من الخاصة من رجالات أم من عموم المؤمنين، فعطاؤه كبير، وسيمتد أثره معنا لعقود طويلة.
وأما عن الحضور الاجتماعي فقد مدّ له جسوراً من خلال عناوين، منها:
1 ـ التصدي لأمور الوكالة الشرعية في دائرة الحذر، وأضع تحت هذه الكلمة خطاً أحمر مطوياً ومعقوداً، لنستنطق ما وراءه فيما بعد.
2ـ إقامة الجماعة في مدن الأحساء وقراها، وهذا محسوس وملموس، وإن كان الحضور الواضح في قريتي المطيرفي والبطالية.
3 ـ كانت له اليد الطولى في تأسيس الجمعية الخيرية في الشعبة، وكان داعماً ومؤسساً بكل كيانه، ونزل إلى الساحة عندما استدعى الأمر، ولم يبخل بشيء في يده.
4 ـ التواصل والعلاقة مع الجهات الرسمية: ونحن اليوم أيها الأحبة نعيش هذه النقلة النوعية غير المسبوقة في بلادنا، علينا أن نكون بقدر المسؤولية، وفي حالة من الوعي تتناسب مع الموجود.
فعندما يرتبط الإنسان من أجل مصلحة المكوّن، علينا أن نقف وراءه وندعمه، أما إذا أراد أن يستهلك المكون لصالح شخصه ومنفعته، فعلينا أن نقف أمامه، ونضع حداً بينه وبين ما يخطط له ويرسم. فالطائفة مكوّن محترم، وعلى الجميع أن يحترم هذا المكون، الذي يمثل مفردة من مفرداته، ولا يكون ذلك إلا عندما نكون صادقين مع أنفسنا، ومع الغير من حولنا.
5 ـ مواكب العزاء الحسيني: فقد ترك السيد الجليل وراءه الكثير من الباقيات الصالحات، ومنها مواكب العزاء الحسيني، التي نرى جذرها في الجامع الكبير في الشعبة، وفروعها ممتدة إلى جميع القرى والقصبات، وتأثرت بنهجه الكثير من المدن والمناطق الأخرى، فلا تجد محفلاً إلا وهو يأخذ جذوته مما أصّله الراحل الكبير.
6 ـ مهرجان الزهراء (ع): الذي مثّل نقلة نوعية في بناء الأدب والخطاب الديني المرسل نحو الهدف والقضية وبناء الذات.
7 ـ مجالس الدعاء والتوسل والارتباط بأهل البيت (ع) فقد شرّع أبواب بيته لاستقبال المؤمنين، ليلاً ونهاراً، ولم يتراجع في أشد حالات المرض التي ألمت به، بل أصرّ على أن يكون موجوداً ليبعث رسالة إلى جيلنا القادم، أن مجالس أهل البيت (ع) أمانة في أيديكم، فإذا كان الأب الكبير المشرف على عتبة الموت يسجل حضوراً، فالمسؤولية في الأجيال الواعدة أكبر وأشدّ، والحياة أدوار يلعبها قوم ثم ينتقلون ليأتي آخرون ليتحملوا المسؤوليته.
أنتم أيها الجيل المبارك من رجال ونساء، شيب وشبّان وفتيات، عليكم أن تدركوا أن المسؤولية كبيرة والهجمة شرسة، والأمواج عاتية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وإذا لم نكن على قدر المسؤولية فسوف تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
8 ـ تأسيس المساجد والحسينيات، فقد كان له فيها قصب السبق، ويد فاضلة.
لم يكن الفقيد يتعامل مع وكالته الشرعية من منطلق التشريف، كيف؟ وهو صاحب شرف كبير يتشرف به من يضاف إليه، بل جعلها تكليفاً يخدم من خلاله المؤمنين، ولم يبخل بجاهه الرفيع الكبير في سبيل أن يسد جوعاً هنا، أو يكسو عرياً هناك. هكذا كان حاله، فتراه يذهب إلى الدمام الحاضرة، والقوة المادية، أو إلى الخُبر في وقتها، أو الثقبة، في سبيل أن يرجع وهو يحمل معه الكثير، وكانت هذه عادته وطريقته، بل هي أشبه بالسنّة الثابتة في حياته سنوياً، بل في فصلين من السنة، يتردد من خلالهما على أصحاب الأيادي البيضاء.
وأقول من باب الشهادة والعرفان بالجميل وشكر المخلوق صاحب اليد البيضاء: إن أبناء الصّاغة كانوا في الدرجة الأولى، وكانت لهم وقفتهم مع الجد السيد هاشم المقدس، وامتدت مسيرتها مع الرموز، حتى وقتنا الراهن، ومن باب التأكيد أقول: حتى هذا الجامع الشريف جامع الإمام الحسين (ع) كان لهم اليد الطولى والرافد الأكبر في الجانب المادي عندما أردنا أن نشيده. وكان العم السيد يقصدهم إلى بيوتهم، ويطلب منه، فتكون يدهم نديةً، ويرجع إلى أهله هنا في بلاد الأحساء، لتوزِّع تلك الأموال، فلا يغلق بابه عليها، ولا يُبقي شيئاً منها ولو ورقة واحدة.
مؤلفاته:
لقد خلف السيد الجليل وراءه مجموعة من المؤلفات ذات عناوين متباعدة، ولكن يجمعها شيء واحد، هو الحس والشعور بأن الإنسان إذا ما مات، يخلّف وراءه عمراً امتدادياً، والقلم هو الذي ينسج فيه الصفحات.
فمن كتبه التي كتبها: اللوعة، والدموع، وفي رحاب مصائب الزهراء (ع)، وعبرات الولاء، وفي رحاب عاشوراء، وكتاب الأربعين، والاستخارة، والعبادة حق الله علينا، وهذه فاطمة، وكتاب حديث الكساء، وتقريرات بحوث فقهية درّسها في الحوزة العلمية يقع في عشرة مجلدات، طبع منها سبعة والثامن في الطريق، والمجلدان الآخران جاهزان للطباعة.
ومن كتبه أيضاً: حل المشاكل بذكر مآثر أهل البيت (ع) والطريق إلى الله، والبكاء على الإمام الحسين (ع) والقيمومة لمن؟ وهو بحث يتناول القضية المطروحة اليوم، فهل المرأة تشترك مع الرجل في القيمومة؟ أو القيمومة للرجل وحده؟ أو للمرأة وحدها في بعض الحالات كما يريده بعض الحداثيين؟
تلامذته:
وتتلمذ على يديه جمعٌ من رجالات العلم، وقد اخترت منهم بعض الأسماء لما لها من خصوصية في مجتمعاتها من المدن أو القرى، ومنهم:
ـ السيد حسين السيد محمد القاضي.
ـ الشيخ حيدر النخلي، أحد أئمة الجماعة في المدينة المنورة، وهو أحد أساتذتي.
ـ السيد عدنان الناصر، منّ الله عليه بالعافية. ـ الشيخ علي الماجد. الشيخ الشهاب. ـ الشيخ عبد الله السمين ابن حسين، والآخر ابن حسن. ـ الشيخ غالب الحمّاد، أحد أساتذة الحوزة في البحث الخارج في القطيف. ـ الشيخ ماهر البحراني. ـ الشيخ إبراهيم البطاط، منّ الله عليه بالعافية. ـ الشيخ إبراهيم الخزعل، أحد أئمة الجماعة في القارة. ـ الشملان والرستم والشريدة، وهم ثلاثة من رجالات العلم في الطرف. ـ آية الله الشيخ جواد الدندن. ـ الشيخ حسن الدوخي، وهو رجل منكر لذاته، متواضع إلى أبعد حدّ، وهو عالم فاضل. ـ الشيخ حسن السعيد، رضوان الله تعالى عليه، الذي كان بمقدوره أن يحدث نقلة نوعية في جميع المسارات، ولكن اختطفته المنون مبكراً. ـ آية الله السيد حسين الياسين، ابن الخال السيد علي، ولو أنصفت الأحساء لقدمته. ـ سماحة السيد هاشم الصالح، المستقر في قم، وهو من رجال العلم والفضيلة. ـ السيد هاشم بن السيد محمد الحسن، وهو أحد أئمة الجماعة في أكثر من قرية في يوم من الأيام، كالطرف والجفر والمطيرفي وغيرها. ـ سماحة الشيخ واصل الدندن، أحد المأذونين الشرعيين. ـ سماحة السيد هاشم أبو ضياء، أمين الحوزة العلمية.
المصيبة عظة وعبرة:
هذا هو الرجل الذي ودّعناه أمس وأسلمناه عالم القبور، لتعرج روحه إلى تلك العوالم، وأسأل الله تعالى أن يعرف بينه وبين محمد وآل محمد (ع).
من هنا أقول: إذا لم تجمعنا المصائب، فمتى نجتمع؟ وما عسى أن يجمعنا؟ وكيف نجتمع؟ أما حان الوقت أن نغلق الملفات؟ وأن ندير ظهورنا لما لا طائل من ورائه إلا شماتة البعض؟ وما الذي ننتظر؟
لقد ودعنا الكثير من الأعلام، ودّعنا آية الله العم الشيخ حسين الخليفة، والسيد محمد الناصر، والشيخ حسن أبو خمسين، وآية الله الشيخ الهاجري، والعم السيد طاهر، وبالأمس ودّعنا العم آية الله السيد أحمد السيد هاشم، وغيرهم. فقد غاب هؤلاء عنا، وبالتأكيد أنها ليست النهاية، وهنالك مدد بحمد الله، ولكن نحتاج أن يجتمع الجميع على قلب واحد، وأن يعيدوا البوصلة لاتجاهها، فما عاد المجتمع يتحمل أكثر مما تحمّل. فعلينا أن ننصف المجتمع وإن كان على حساب أنفسنا.
نحن كرجال دين علينا أن لا ننظر للآخرين من خلال برج عاجي، إنما علينا أن ننزل ونعيش معهم، كما كان الحال في السابق، من بساطة العلماء وسماحتهم ومحبتهم، وأنتم بحمد الله لكم شأنكم ومقامكم، فجسدوه واقعاً.
كونوا زيناً:
ومن هنا يجدر بنا أن نتذكر ما يقوله الإمام العسكري (ع) في وصيته الرائعة التي يرددها أتباع مدرسة أهل البيت (ع) بينهم وبين أنفسهم، أو بين أهليهم، أو في منتدياتهم. وهو ورقة عمل، لو أراد أبناؤنا اعتمادها في ملتقياتهم واستراحاتهم، يقدمونها ويتدارسونها، لفرضوا واقعاً قوياً متتماسكاً.
يقول (ع): «أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص). صَلُّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورِعَ في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسَّن خلقَه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً. جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدعيه أحد غيرنا إلا كذاب. أكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي (ص)، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما وصيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام»([6]).
هذا هو الإمام العسكري (ع)، وهذه رسالته التي لا تحتاج إلى شرح وتوضيح.
أيها الشباب: أنتم في جامعاتكم، وأعمالكم ومسؤولياتكم وشركاتكم، عليكم أن تتذكروا دائماً حقيقةً مهمة، وهي أن المنتمي لمدرسة أهل البيت (ع) في هذه الموقع كان يُنظر إليه أنه حسنة، فلا تُذكر إلا بخير، فعلينا أن نحافظ على هذه القيمة، من خلال الالتزام بالوقت وحسن أداء العمل، والإخلاص للأمانة التي عُلقت في رقابنا، فالوظيفة أمانة، والحصة الدراسية أمانة، فعلينا أن نحافظ عليها، لنساعد على بناء وطنٍ عزيز كريم.
وفقنا الله وإياكم لك خير، والحمد لله رب العالمين.