نص خطبة:أثر العقل في البناء العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾([2]).
بارك الله لنا ولكم ذكرى ميلاد الإمام الثامن الضامن علي بن موسى الرضا (ع) وميلاد كريمة أهل البيت (ع) السيدة المعصومة (ع). رزقنا الله وإياكم المثول عند عتبيتهما الطاهرتين عاجلاً.
ما هو العقل؟
العقل هو الركيزة الهامة التي ينبغي أن يحافظ عليها الإنسان ويتحرك وفق معطياتها، فأول مخلوق تمت مخاطبته هو العقل، والعقل هنا هو العقل الأول أي عقل محمد (ص) ومنه انحلت سائر العقول، تشتدّ وتضعف في حركها.
والعقل في اللغة هو المنع أو الحبس والصد، وسمي العقل الإنساني بهذا الاسم لأنه يمنعه ويصده ويحبسه كي لا يأتي ما لا ينبغي أن يؤتى. وهو أيضاً (العلم) كما يبدو من كلمات أرباب اللغة، فنقول: هذا أمر (معلوم) كما نقول: هذا أمر (معقول). وتقول: علمت الشيء، وعقلته.
أما في الاصطلاح المتعلق بهذه المفردة الدالة على تلك الكينونة الخاصة التي ابتدعها الله من عدم، ثم أصبحت أمراً أساساً ومرتكزاً يُلاذ به ويُرتب الآثار على معطياته، فقد شرّق وغرّب أصحاب الفن في عالم الفكر، واستطاعوا أن يأخذوا من اللغة دلالة، لكنهم تعمقوا وسبروا غورها، لذلك تعددت آراؤهم وتعاريفهم.
والمرتكز الأساس عند أصحاب العلوم والفنون أن يكون التعريف جامعاً مانعاً، أي أنه يجمع جميع المسائل والفروع المتعلقة بذلك العلم أو الفن، ويمنع عنه كل دخيل عليه من العلوم الأخرى. إلا أنك قلّما تضع يدك على تعريف لمصطلح من المصطلحات لا تجد فيه خللاً في إحدى الزاويتين أو الركيزتين، إما في جامعيته أو مانعيته. وهذا واضح بيّن، حتى أن العلماء لم يتركوا تعريفاً إلا ذيّلوه، هذا إذا لم تَأُل بهم النوبة إلى إسقاطه من الأساس ورفع اليد عنه وتعويضه بتعريف آخر.
والمتصفح للصفحات الأولى من الكتب التي ألفها العلماء الكبار، لا سيما أرباب الفن الخاص في الحكمة المتعالية، كالعرفان النظري والفلسفة ـ أي الحكة المتعالية في أعلى درجاتها ـ يجد أن هذا الأمر يفرض وجوده على كل باحث. ولكن لا يمنع أن يكون التعريف يقرّب الإنسان إلى ما يراد أن يُرتَّب عليه من مسائل علمية.
فقالوا في تعريفه: إن العقل هو ما يكون به التفكير. فما تتحصل دورة التفكير على أساسه هو العقل. وكذلك الاستدلال بناء على معطى ذلك العقل، وترتيب التصورات والتصديقات، وهما مفردتان عني بهما علم المنطق كثيراً، وكشف المستور فيهما. فالتصور في عالم الذهن، والتصديق في التجسدات الخارجية في عوالم الشهود، وهو العالم المادي الظاهري الذي نحسه وندركه.
وهنالك من رفض هذا التعريف لما يمكن أن ينقض عليه بأكثر من إيراد وإيراد، وللبحث في هذه الزاوية مكان آخر.
وعرفه جماعة، ربما في طليعتهم الشيخ الرئيس ابن سينا (رحمه الله) بأنه: جوهر مجرد تدرك به حقائق الأشياء. يعني أنه شيء لا يمكن الإمساك به، ولكن يستدل عليه من الآثار الصادرة عنه، وهذا في كثير من الأمور الغيبية أو القوى التي لا ندركها، لأنها غير خاضعة لنظام الحس كي تقترب منه الحاسة التي هي الواسطة في نقل المعلومة من المحسوس إلى المحل المهيأ لاختزانها.
وبالنتيجة أن هذا العقل عندي وعندك وعند كل رجل وامرأة، بل إن الرجل والمرأة في الجانب العقلي سواء، وما يُدّعى من كون عقل المرأة ناقصاً هو وليد الثقافة الذكورية والموروث الذكوري، وإلا فإنها كاملة العقل فطرياً من حيث القوة، غاية ما في الأمر أن الفعل يترك أثره، فالأسرة تترك أثراً، والمجتمع يترك أثراً، وكذلك البيئة والمحيط والأمة، فمورد تحصيل الثقافة وتنمية الفكر هو الذي يترك أثره في العقل.
لذلك تجد بالحس أن الكثير من النساء حقّقن المواقع المتقدمة في مساحات العلوم والمعارف والفنون، وتخلّف الكثير من الرجال. فلو كان الأمر مطّرداً في هذا الجانب للزم أن لا يكون للمرأة موقع متقدم، ولبقيت المواقع كلها للرجال في عالم التنظير والفكر والثقافة والفن والأدب والعوالم كلها. فالمرأة من حيث هي تمتلك هذه القوة القادرة على تحقيق المواقع العلا والمتقدمة في مسارات الحياة.
عوامل تنمية العقل:
ثم إن العقل ربما يشتد وربما يضعف، والعامل في شدته وضعفه هو الإنسان الذي استودع فيه العقل، فبمقدور الإنسان أن يقوي المدركات ويقوي العقل، وبمقدوره أن يدخله في مساحة التخدير، بل في سبات عميق، وربما الموت، بحيث يصبح من يمتلك العقل كمن ابتلاه الله بفقده منذ أول خلقه.
1 ـ الدين:
فمما يدفع العقل إلى الأمام ويشدد من قوة الفعل في داخله بحيث يترك أثره فيه الدين، وهو من أقدس مقدسات الإنسان، ونعني به الموروث الأصيل الصحيح الذي لم تطله يد العبثية وتضع فيه ما شاءت وتحرف المسار حيث أرادت، أي الموروث الصافي الذي وصل بالطرق المعتبرة عن محمد وآل محمد (ع).
وموروثنا الديني ثرٌّ غزير، إذا انفتح عليه الفرد على كافة الأصعدة التي طرقها والأبواب التي فتحها فإنه يستطيع أن يجعل من حركة العقل ذات بعد وعمق، لأن ما صدر من السنة الطاهرة إنما صدر عن سادات العقول، وهم محمد وآل محمد (ع) وهو منتهى ما يمكن أن يصل إليه العقل.
لذلك تجد أن المسلم منذ ألف وأربعمئة سنة يبحث عن معطى النص القرآني، وهو الوحي المنزل على الرسول الصادق المصدق. أما السنة المطهرة الصادرة عن لسان النبي الأعظم (ص) وأهل بيته (ع) والواصلة إلينا بالطرق المعتبرة، فلا زالت إلى اليوم تحتاج إلى الكثير من مساحات البحث والفعل الجاد لاستكشاف واستنطاق معطيات تلك النصوص.
ومع شديد الأسف أننا لا نتشبث إلا ببعض الشذرات هنا أو هناك، وربما لكثرة تكرارها لا نصل معها إلا إلى حالة من الملل، رغم أنه يفترض أن لا تتطرق هذه الحالة للنص الديني. ولكن مع الأسف أن التسويق للنص الديني لم يكن متساوقاً وقوة ذلك المعطى، إنما جاء على حسابه بحيث أفقده لونه وطعمه ورائحته، كما يحصل في الماء المطلق الذي لا يتصف بأحد هذه الأوصاف الثلاثة.
والإشكالية ليست ناشئة من النص الديني نفسه بما هو نص، إنما تنشأ ممن يتولى عرض النص الديني للمجتمع والأمة، وهذه واحدة من الإشكاليات التي نعانيها، وربما في الزمن السابق لم يكن لها إسقاط وإسهام واضح لكنها اليوم في حالة من القوة في التأثير في الشارع إيجاباً أو سلباً.
2 ـ التجربة:
الرافد الثاني المؤثر في تنمية العقل هو التجارب، وقد ورد عنهم (ع): «...وفي التجارب علم مستأنف»([3])، أي علم جديد، والتجارب اليوم تسود العالم في جميع مجالاته، وهي تقفز بالعقل البشري. ومشكلتنا نحن أننا نتعامل مع المنتَج فقط، ولا نتعامل مع المنتِج، وهو العقل الذي قدم لنا هذا المنتَج، فجهاز الهاتف الذي بين أيدينا مثلاً نتعامل معه على أنه منتَج دون الالتفات إلى المنتِج، وهو العقل الذي أوصل إلينا هذه التقنية بأيسر الطرق وأنسب الأثمان.
فالمفترض أن نبحث عن تلك العقلية، وكيف تشكلت، بحيث أوصلت هذا المنتج إليّ، لا أن أصرف الطاقة العقلية المودعة في كياني كلها في ذلك الأثر الخارجي وهو الجهاز المذكور مثلاً.
فالتجربة الجامعة بين المحسوسات والمعقولات من الذرة إلى المجرة كلها تطرق أسماعنا في كل يوم وتباشرها أنظارنا، لكننا مع شديد الأسف لا نتفاعل معها كما ينبغي. لذلك في الوقت الذي تتطور الأمم الأخرى نبقى نحن نراوح مكاننا في أحسن التقادير، وإلا فإننا نزداد تخلفاً وبعداً. فنحن نتعامل مع جهاز الهاتف مثلاً، لكننا في الوقت نفسه ننتظر النسخة الجديدة منه، وهكذا في سائر الأجهزة والأدوات والوسائل. فهل اندفعنا وراء البحث عن السر الكامن وراء حركة العقل بحيث يصبح مبدعاً؟ وهل أن العقل الغربي أو الشرقي في اليابان والصين وكوريا وغيرها، يشغل مساحة من الجمجمة أكبر مما هو عليه في رأسي وجمجمتي؟ وهل أن المكونات تختلف؟ هذا كله لا وجود له في الواقع، إلا أن الحاضنة تختلف وكذلك الرغبة والطموح واستشراف المستقبل وعدم الركون للحاضر وغير ذلك.
هذه هي المفارقة بين ما نحن فيه، وما عليه الآخرون.
3 ـ الانفتاح:
الأمر الثالث: الانفتاح على المسارات الأخرى، فالإمام علي (ع) يقول: «الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»([4]). ويقول النبي المصطفى (ص): «اطلبوا العلم ولو في الصين»([5]). فالعلم له بداياته، لكن نهاياته غير معلومة، وما بين أيدينا ـ بحسب معطى مدرسة أهل البيت (ع) ـ لا يتجاوز ما هو مكتنز في حرفين فقط من ثمانية وعشرين حرفاً. وهذه الدنيا من حولكم، قارنوها مع ما كانت عليه قبل عقود ثلاثة سبقت، وتأملوا النقلة النوعية في جميع المجالات، ولكن هنالك حروف أخرى لم تُطرق أبوابها، وسيأتي في يوم من الأيام من يستفيد من هذا المنبع الثرّ.
أما نحن فاكتفينا بكون شرب الماء جلوساً أو وقوفاً؟ أو أننا عند أكل الرطب نقف على الفرد أو على الزوج؟ وكأن الدين يقف في هذه المساحة ولا يتعداها لغيرها، في حين أنه بمساحة الكون كله، لذلك كان النبي الأعظم (ص) خاتم الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالات. فالإشكالية فينا نحن الذين نحسب على الدين الحنيف.
الإدراك اليقيني والإدراك الظني:
ثم إن الإدراك العقلي يندرج في مراتب عدة:
1 ـ الإدراك اليقيني: أي الكامل المؤدي للنتائج اليقينية خارجاً، وذلك بجمع المقدمات اليقينية مع بعضها والانتهاء إلى نتيجة يقينية لا يداخلها الشك من قريب ولا من بعيد.
وقد ضرب على هذا الوتر أصحاب المدرسة المادية كثيراً، لذلك حققوا النجاح تلو النجاح، فيما بقينا نحن نراوح في أماكننا، نتحرك في حدود دائرة القيل والقال، ونجترّ ما نجتر، وندور في حدود دائرة مغلقة علينا.
إن هذه الحالة تنقلنا إلى مجموعة من الأمور اليقينية في الخارج، من قبيل أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان قط. فمن أوصلنا إلى هذه النتيجة اليقينية هو العقل. فالعقل إذا كان سوياً لم يطرؤ عليه طارئ، فلا شك أنه يصل إلى هذه النتيجة. وما من قضية تصل إلى حد اليقينيات إلا رُتِّبَ عليها الأثر، وإلا سوف يصبح الإنسان مذموماً. فمن يرى النار بعينه لديه علم يقيني بوجودها، فلا يقدم على الدخول فيها، وإلا سوف يكون مذموماً.
2 ـ الإدراك الناقص الظني: وهو ما نبتلى به في الكثير من قضايانا الدينية والسلوكية والاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية وغيرها. فمعظم الأقيسة التي تستخدم في هذه المجالات لاستنتاج ما يرغبون بالوصول إليه، هي من هذا النوع مع شديد الأسف. فهي أقيسة تؤدي إلى نتائج ظنية: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئَاً﴾([6]).
فالإدراك الظني هو الذي يضعنا في دائرة الميل لشيء دون الجزم به، وذلك من قبيل اعتقادنا أن الطالب المتفوّق لا يفشل في الامتحان، أو أن الجبان لا ينتصر، وهذه ليست من اليقينيات التي لا بد من الجزم بها، فيمكن للغبي أن ينجح، وللجبان أن ينتصر. فالعوامل الخارجية لها إسهام كبير في النجاح أو الفشل أو الانتصار أو الهزيمة. فلأن القضية التي رتبناها في البداية لم تكن على أساس مقدمات يقينية لذا أصبحت النتيجة ظنية.
فالكثير مما يطرق أسماعنا من المفاهيم من خلال المنابر والإذاعات والقنوات إنما تخاطب الرأي العام على أساس هذا المسار، وليس على أساس المسار الأول، لذلك قلما تخلص مع باحث ـ ولو كان على مستوى ستراتيجي ـ إلى نتيجة في دائرة القطعيات، فكلها ظنيات.
فالسياسيون اليوم كثيراً ما يلعبون بالمفردات في دائرة الدليل لظني، لذلك ترى أن العلاقات بين الدول، بينا هي متوترة في يوم ما، إذ بها تستقيم في يوم آخر وكأن شيئاً لم يكن، لأن خطوط الرجعة موجودة بسبب البناء على الأدلة الظنية. وهكذا في كل قضية تضع يدك عليها ستجد أنها من هذا القبيل.
لذا قد يرى البعض أن هؤلاء الساسة يعيشون حالة من التناقض، والحقيقة أن فهمك لما غُذِّيت به من قضايا مبنية على مقدمات ظنية هو الذي أوقعك في هذا الشراك وتلك القراءة الخاطئة.
من هنا تجدني أكرر دائماً من خلال منبر جامع الإمام الحسين (ع) أن على المتلقي أن يعي دائماً أن الإنسان أودعه عقلاً، وهذا العقل لا بد أن يعتمده ويطلقه، لا أن يجمده ويقيده.
المؤثرات السلبية في العقل:
إن وقوع العقل تحت دائرة منظومة من المؤثرات يجعل الإنسان ضمن هذا الحد.
1 ـ الغضب:
فمن تلك المؤثرات على سبيل المثال الغضب، الذي يلغي العقل ويجرده من قوته ويفقده التوازن، وقد يكون أحياناً لأتفه الأسباب، ليعود الغاضب بعد أن تنتهي حالة الغضب ليلعن إبليس، وهو في حقيقة الأمر يلعن نفسه من حيث لا يشعر.
إن حالة الغضب وأثرها السلبي في العقل تنعكس على الكثير من قضايانا في حياتنا اليومية، فكلمةٌ من هذا وأخرى من ذاك وينفجر بركان الغضب بينهما ويحصل ما يحصل، ثم يعود كل منهما لبيته ليلعن إبليس. وكثيراً ما يكون ذلك في داخل الأسرة مع الزوجة، وبعد أن يحصل ما يحصل منه في ظلمها تجده يلعن إبليس.
ومن المؤثرات في العقل سلباً حالة الحزن والهم. وما أكثر المهمومين، وما أشد أنواع الهموم الداخلية في البيوت والنفوس، أو الخارجية، فهناك هموم تعيث فساداً في النفوس لكنها خارج إطار الاهتمام، وكأن هذا المهموم رئيس هيئة الأمم المتحدة، أو منظمة حقوق الإنسان، أو الدولة الفلانية. والجدير بكل منا أن يعرف حجمه وقدر نفسه، وأن لا يحمل هماً لا شأن له به، لأنه لا يغير من الواقع شيئاً.
2 ـ الغرور:
والأمر الآخر المؤثر في العقل هو الغرور، وحدّث عن هذا ولا حرج، فهناك من يرزقه الله وظيفة فيتعالى على أرحامه وأقرب الناس إليه، بل يتعالى على واقعه كله، فينظر إلى محيطه من الأعلى نظرة فوقية.
هذا في الممارسات الخارجية، أما في العلم فتجد البعض يقرأ صفحتين من كتاب، أو يشاهد برنامجاً في التلفاز، فيرى أنه بلغ مبلغاً عظيماً من العلم. بل الأكثر من ذلك أن يتصور أنه يستنبط الحكم الشرعي للمرجع، فلا يقبل رأي المرجع، بل يرى نفسه أفضل علماً وفهماً منه. هذا هو الغرور الذي يبدأ مع الإنسان في مساحة الغير ثم يعود عليه.
ومن الطريف أن هناك مجموعة من الحيوانات تقدم لنا دروساً أخلاقية وسلوكية، ففي كتاب كليلة ودمنة يقدم لنا المؤلف دروساً لتقويم خلق الإنسان بسلوك الحيوان. فليس في الطيور ما هو أجمل من الطاووس مثلاً، خصوصاً إذا نشر تلك اللوحة الفنية التي لم ترسم حدودها ولم تخلط ألوانها يد بشر، إنما هي صنعة الصانع العزيز المقتدر المبدع، ولكن هذا الطاوس الجميل إذا أراد أن يطوي أجنحته بعد نشرها ينظر إلى رجليه، وهما في الجمال على العكس من ريشه تماماً، وكذلك صوته.
فالمغرور المتكبر أسوأ حالاً من الطاوس، لأنه لا ينظر إلى رجليه فيرى قباحتهما كما يفعل الطاوس. ولو أنه مات ومر على موته فترة قصيرة لانبعثت منها الرائحة النتنة التي ليس هناك ما هو أنتن منها.
أعزائي الأحبة: دعوة صريحة لكم جميعاً أن لا تجمّدوا عقولكم، وحاولوا أن تفكّوا الشفرات، ولا تتقبلوا أي قضية تصلكم قبل أن تقرأوها وتفكروا فيها طويلاً، وتتأملوا ما وراء السطور. ولا تسلموا عقولكم للغير، مهما كان هذا الغير، فليس هناك عالم مطلق، والله تعالى يقول: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيْمٌ﴾([7]). فلا ينبغي أن يفكر عنا أحدٌ بالنيابة، لأن ذلك يقودنا للهاوية، ومن وصل للهاوية فسوف يبحث آنذاك عن منجىً ومخرج فلا يجد.
وهنا يفرض الالتزام بالتكاليف الشرعية نفسه على المشهد، وهو ما يدعونا إليه العقل أيضاً، فالصلاة مثلاً تنهى عن الفحشاء والمنكر، ونحن نرى أننا مع صلاتنا نجد أن الفحشاء والمنكر في العالم على قدم وساق، فكيف بنا لو تركناها؟ وهكذا في أداء الخمس وغير ذلك من التكاليف الشرعية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القائمين بالفرائض، وقد ذكرت قبل ليلتين أن التكليف الشرعي يبدأ مع الأبناء الذكور ابتداء من اليوم الأول من دخولهم السنة السادسة عشرة من أعمارهم. ومن تلك التكاليف المهمة الحج، فلو أن أحد هؤلاء استطاع أن يحج فعليه أن يحج، لا أن يؤجل الحج ويلتمس له الأعذار. فما من تكليف سنته السماء إلا هو من صالحنا، والله تعالى ليس بحاجة لصومنا ولا لصلاتنا ولا لأي من ذلك، إنما نحن الذين نحتاج ذلك.
نسأله تعالى أن يكتب لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.