نص خطبة:أثر الإشاعة في هدم الأشخاص والمجتمعات والدول (2)

نص خطبة:أثر الإشاعة في هدم الأشخاص والمجتمعات والدول (2)

عدد الزوار: 1239

2019-01-15

الجمعة 1440/4/13هـ - 2018/12/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَنْ يَأْکُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَکَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾([2]).

علاقة سوء الظن بالإشاعة:

سوء الظن هو عدم الثقة في من هو للثقة أهل. وهذه الحالة يُبتلى بها المسلم وغير المسلم، لكن الأول موضع القراءة المستعجلة في هذا اليوم، باعتبار أن الشريعة أولت اهتماماً خاصاً لمسألة الظن وما ينحلّ عنه.

وكل (فيروس) يحتاج إلى بيئة حاضنة أو أرضية يتنقل على أساس منها، وسوء الظن من تلك الفيروسات التي تبحث عن الحاضنة وتتلمس مواطن المساحة التي تتنقل من خلالها.

والإشاعة التي تطرقنا لها في الأسبوع الماضي هي بمثابة المساحة، والرغبة في الفتنة هي تلك الحاضنة الخاصة لسوء الظن.

وأركان الإشاعة ثلاثة: الأول: مؤلفها الحاقد على نفسه وعلى مجتمعه وأمته، وفي عموم الكلام على الإنسانية بما هي إنسانية.

والثاني: هو الناشر لها، وفي الكثير من الأحيان من يقوم بدور ساعي البريد في التنقل بالإشاعة من مكان إلى مكان هو ذلكم الأحمق الذي يريد أن ينفعك فيضرّك.

والطرف الثالث: وهو الطرف المهم الذي يكون الجميع مسؤولاً عن التصحيح في دائرته، ألا وهو المتلقي، وهو الغبي الذي ينطلي عليه الخبر وتمر عليه الحادثة مرور الكرام.

وقد ذكرتُ في الأسبوع الماضي (النظرة الناقدة) وهذه النظرة ليست فقط في هذا الجانب، إنما ينبغي أن نفعّلها في جميع مسارات حياتنا، فأي قضية تطرق أسماعنا فيها لون من الاستغراب أو الجمالية علينا أن نتوقف عندها، لنقرأ ما وراءها، فالكثير منا لا يقرأ إلا ما تضمنته السطور، حال أن ما يُطوى بينها فيه الكثير، ولذلك يقال: فلانٌ حاذقٌ في مساره السياسي لأنه يقرأ ما وراء السطور أو ما بينها. وسوف يأتي اليوم الذي أوسّع فيه دائرة البحث في هذا الجانب.

لذلك على الإنسان عندما يسمع ما يسمع ـ خصوصاً في المساحات السياسية ـ أن لا يتعاطى الأمور على مستوى الطفولية، بل على أساس البلوغ والرشد، والسبب في ذلك أنه لم يشخّص الحالة التي أمامه من جهة، ومن جهة أخرى أنه لم يؤسس لكيفية التعامل مع تلك الحالة الطارئة. ومن هنا يُصاب المرء بحالة من الذهول أحياناً، عند سماعه لقرار هنا، أو قضية هناك، أو حديث آخر في طرف آخر، حال أن الأمور عند صاحب القرار والكلمة والموقف واضح وبيّن، لأنه لا يتحرك عن فراغ، إنما عن وعي.

ونحن في حياتنا العامة ينبغي أن نتحرك على أساس الوعي، وأن تكون قراءاتنا ومتابعاتنا وحواراتنا تتشكل فيما بينها لتعطينا المساحة الصحيحة التي على أساس منها نستقبل الخبر والقضية والموقف ونضعه في الموضع الذي ينبغي أن نضعه فيه، كي تكون ردة الفعل في حالتها الطبيعية جداً.

لقد حذرت الشريعة من سوء الظن، كتاباً وسنة، والآية الشريفة واضحة بينة والتمثيل أكثر وضوحاً، فمن يريد أن ينقل الفكرة يحتاج أحياناً للكثير من السرد الكلامي، ولكنه بمثال قصير يمكنه أن يختزل الفكرة، أو بصورة معبِّرة يمكنه أن يحكي جميع جوانب المشهد، فتكون أنت أيها الراغب بإيصال الفكرة قد أمسكت بأقصر الطرق وأيسرها.

وفي السنة المطهرة نجد أن النبي (ص) يستخدم المصداق الخارجي لينتزع منه أمراً على أساس منه يقرب الفكرة ويحدد معالمها.

ففي الحديث الشريف أنه (ص) نظر إلى الكعبة فراح يتأمل فيها. ولنسأل أنفسنا نحن قبل إكمال هذا الخبر: الكثير منا ذهب إلى مكة المكرمة أو كربلاء أو المدينة المنورة أو غيرها من المواطن، فهل ألقينا نظرة تأملية على الكعبة الشريفة؟ وهل تأملنا ذلك الشباك الفضي أو الحديدي فيما يحكيه من رمزية؟

هنالك الكثير من الأشياء التي نراها بسيطة في ظاهرها، لكنها كنزٌ من المعاني في واقعها، وهذه تأتي لا من خلال التكرار والتردد عليها، إنما من خلال التأمل واستكشاف ما وراء ذلك المجسم المادي، سواء كان الكعبة أم الشباك أم القبر.

فقد تأمل النبي (ص) الكعبة الشريفة ثم قال: « مرحبا بك من بيتٍ، ما أعظمك وأعظم حرمتك! ولَلمؤمنُ أعظمُ حرمةً عند الله منك. إن الله حرم منك واحدة وحرم من المؤمن ثلاثاً: دمه وماله وأن يظن به ظن السوء»([3]).

سوء الظن بالله:

وسوء الظن ـ أيها الأحبة ـ له شعبتان: أعلاها سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، فالبعض يكون لديه سوء ظن بالله، والعياذ بالله، من قبيل أنه أتى ذنباً فصار يتردد، هل أن الله تعالى سيغفر له ذلك الذنب أو لا؟ هذا من مصاديق سوء الظن بالله تعالى، وإلا فإنّ رحمته وسعت كل شيء.

أو يظن أن الله تعالى لن يرزقه، وبعضهم يرى أنه يجب أن يهيّئ جميع الأسباب أو تضيق عليه مسارب العيش. وهذا الكلام في إجماله صحيح، ولكنه يحتاج إلى تقنين، فلا يمكن أن يطلق له العنان، وإلا لتخدرت العقول ولعُطلت العلوم والمعارف، ولما انتهجنا سبيل الأسباب الموصلة إلى الأهداف السامية عند الإنسان.

وكذلك نجد أن الطالب يجهد نفسه، في المذاكرة والمتابعة والقراءة وغيرها، ولكنه يقول في نفسه: ليس من المعلوم أن الله تعالى يكتب لي التفوق والنجاح، وهذه كلها من سوء الظن، وانعكاسها السلبي عليه قد يدمر جميع تلك الجهود التي بذلها في سبيل تحقيق التفوق.

من هنا أقول: أبنائي، بناتي، أحبتي: تفاءلوا بالخير تجدوه، فينبغي أن تكون دائماً متفائلاً بالأجمل وسوف تصل إليه ولو بعد حين، لأن الملاك في ذلك قول المعصوم (ع): «ولعل الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور»([4]). فعليّ أن أقوم بتهيئة الأسباب والمقدمات لأتخلص من تبعات اللوم والعتب، أما التوفيق فيبقى بيد الله تعالى، وهو علّام الغيوب. فقد يكون الصلاح في المرض وأنت تريد الشفاء، والعكس بالعكس. ويبقى علم الإنسان وإدراكه محدوداً.

سوء الظن بالناس:  

والشعبة الأخرى من سوء الظن هي سوء الظن بالناس والعياذ بالله. وهو مرض فتّاك لا يقل خطراً عن السرطان، فنحن نخاف السرطان أن يتسرب لجسم الإنسان، لكن سوء الظن لا يقل عنه فتكاً، بل هو من مسببات السرطان في الكثير من الأحيان.

وقسم من سوء الظن يتعلق بالأقوال، وقسم آخر بالمتحدث، فيأخذ المستمع الكلام ذات اليمين وذات الشمال حال أن الكلام لا علاقة له باليمين ولا بالشمال.

وقسم بالأفعال، فقد يرى أحدهم شخصاً آخر يمشي مع زوجته أو أخته أو بنته، فيسيء الظن به، فيتصور أن التي معه ليست زوجته أو واحدة من محارمه، فينقل الخبر بشكل آخر.

وأحياناً في الأعمال الخيرية، فقد تجد من ينشئ مَبرَّة يهدف من ورائها للصعود بواقع المجتمع، والإسهام بواقع الحياة المدنية، وتقديم القربات لله سبحانه وتعالى لتكون له رصيداً في يوم القيامة، فيُساء الظن به وتنقل عنه الصورة بشكل آخر. وهكذا يقال مثلاً: إن فلاناً لم يبنِ المسجد لله، أو أنه زار فلاناً لغرض آخر غير القربة إلى الله.

والحال أن الآخر في جميع هذه الأمور لم يدخل في النوايا، ولم يفتش عن القلوب، ولم يعرف ما انطوت عليه سريرته.

إن هذا التشكيك ينقلب بعد فترة من الزمن إلى داخل البيت، فيسيء الظن في زوجته وابنته وابنه وفي كل من حوله، وقد يتحول إلى الطلاق وهدم الأسر.

آثار سوء الظن:

من هنا لا بد أن نعرف أن لسوء الظن آثاراً كثيرة، منها:

1 ـ هدم كرامة الإنسان: فإنك إن أسأت الظن بفلان فقد استبحته أولاً، فلم تبق له لديك أي قيمة، وعندئذٍ تكون قد هتكت حرمته وكرامته.

2 ـ تفتيت عرى العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد، والبيت الواحد: لأن إثارة الشكوك والظنون السيئة تكوّن بمرور الأيام صورة سيئة تشيع الحذر، وتجعل الإنسان يضرب من حوله طوقاً بحيث لا يتحرك في أي اتجاه.

ومن هنا نقول: على كلٍّ منا مسؤولية: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»([5]).  فينبغي أن لا نضحك في وجه سيئ الظن، ونبارك له الخطوات التي يقوم بها ونتحول إلى سعاة بريد له بالمجان.

3 ـ بيع الأوطان وتمكين الأعداء: وهذا وباء خطير، فإن أسأنا الظن دخلنا في هذا النفق المظلم الذي لا تُعلم عواقبه، والدنيا حولنا اليوم تلف وتدور، ولا يسلم منها حتى أوربا التي تدّعي الديمقراطية، ولدي الكثير من الملاحظات على ديمقراطيتها، فظاهرها أنيق، وباطنها السم الزعاف. وأنا لست ضد الديمقراطية، لكنها ديمقراطية الوعي التي أسس لها الكتاب المنزل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).

4 ـ تضييع مكتسبات الأمة الواحدة: سواء كان في دائرة ضيقة كالإقليم مثلاً، أم في دائرة أوسع، فكل أمة لها مكتسباتها، وقد اندثرت حضارات بكاملها لأن سوء الظن كان هو الفاعل بين رجالاتها الذين بنوها وأسسوها.

إن النظرة الفاحصة عند أبناء المجتمع لها أهمية كبرى في درء كل هذه المنحدرات، فكل إشاعة ولّدها سوء الظن تكون أبعادها إما على نحو خاص أو على نحو عام، لكن الحل لهذين الأمرين بيدك أنت أيها الفرد المسلم، بل الإنسان بشكل عام. فإذا تدبرنا الأمور فيما تحويه بين سطورها وما وراء ذلك استطعنا أن نتجاوز كل المشاكل، ونقضي على جميع الفيروسات التي تفتك بنا في الجانب المعنوي. وبخلاف ذلك سيكون التدابر والتناحر والتقاتل.

ولنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فنقول: لو أن المسلمين في جميع تشكيلاتهم المذهبية، أحسنوا الظن ببعضهم لما وصلت تركة ألف وأربعمئة سنة إلى أبناء الأمة اليوم. لكن سوء الظن كان يحرك الكثير من المواطن وينكأ الجراح، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.

قد يقول لي قائل: لا تكن مثالياً، فذلك الزمان يختلف عما هو عليه اليوم، ولا بد أن نستبدل سوء الظن بحسن الظن، فنترك حسن الظن، لأن الناس تغيروا، أو أن الزمن تغير. والجواب: أن الزمن لم يتغير كونياً، فالليل والنهار يتعاقبان، ويسيران وإن كنت واقفاً، ولكن الناس تغيرت بلا شك، ولكن مع ذلك ينبغي أن لا نغفل عن قيمنا وأسسنا ومبادئنا الإسلامية في عدم إشاعة سوء الظن.

يقول أحد الشعراء وهو يشكو من زمانه ويحث الناس على سوء الظن، ويجعل ذلك من المناقب:

لا يكن ظنك إلا سيئاً        إن سوء الظن من أقوى الفِطَن

ما رمى الإنسان في مهلكةٍ    غير حسن الظن والقول الحسن

 فإذا كان الإنسان  بهذا المستوى من سوء الظن فما عسى المجتمع أن يكون؟ وما عسى الأمة أن تكون؟!

كيف نقضي العطلة؟

أيها الأحبة، العطلة على الأبواب، فما لها وما لنا؟ وما عليها وما علينا؟

مدة العطلة في حدود أسبوع أو عشرة أيام، والبعض ينظر إلى العطلة بنظرة ساذجة بسيطة ضحلة، ولكن لا بد أن يلتفت الأبناء والبنات إلى مجموعة من الأمور، ويقوموا بتحصيلها، ومنها:

1 ـ تفريغ النفس من الشحنات السلبية بسبب الجهود التي بُذلت: فينبغي أن لا ننسى أن أبناءنا وبناتنا تحت ضغط كبير، فمن جهة تجد أن الولد يريد أن ينجح، ومن جهة يريد أن يحقق طموحات أهله، ومن جهة يفكر بالمستقبل، وهكذا، وهذه ترهق كاهل الطالب أكثر من المذاكرة نفسها. وهذه بالتأكيد من سمات الإنسان الطَّموح، أما الخامل الذي لا يتمتع بهذا المستوى من الطموح فلا يشعر بمثل هذه الضغوط.

من هنا لا بد أن يقوم أولياء الأمور بمساعدة أبنائهم في تفريغ هذه الشحنات، بتوفير مساحة من الراحة لهم، سواء بالخروج والتنزه أم بغير ذلك.

2 ـ ترميم بعض النواقص بالمذاكرة والمراجعة: كي يستعد الطالب من جديد للانخراط في الفصل الثاني، وكذلك بالبحث عن الأسباب التي أدت إلى ذلك. لأن الحياة السعيدة لا يرسمها لك أحد، بل أنت الذي تتولى رسم معالمها.

فترتيب أوراق الأيام المستقبلية يكون بناءً على تشخيص ما حصل من نقص، فإن لم نشخص النقص لا نستطيع أن نكمل المسير إلى الأمام.

إذن ينبغي تنمية الجانب الثقافي في أذهاننا من خلال القراءة الهادئة الهادفة الواعية.

وكذلك في الجانب السلوكي، علينا أن نكون بأحسن حال مما كنا عليه، وأن نلاحظ أدب القرآن الكريم الذي يجعل من أخلاق الناس. فلا يسعنا أن نشك في سلوك البعض وأخلاقه وأدبه، لأنهم جميعاً أبناء أُسر تحترم نفسها، وليست هنالك أسرة لا تحترم نفسها. فلا بد أن نسعى لتثبيت ذلك والتقدم به لمساحات واسعة إلى الأمام. وبرنامج الرحلات يساعد أبناءنا كثيراً في حسن السلوك والتعامل.

3 ـ تجذير صلة الرحم فيما بيننا: فإذا كانت قطيعة الرحم هي سيدة الموقف، فمن باب أولى أن تكون هذه القطيعة في أسوأ حالاتها، لأن اللبنة والحجر الأساس غير مستقيم ولا متماسك. وهذا لا يتأتى إلا من خلال تقوية العلاقة مع الله سبحانه وتعالى.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.