نص خطبة :آية الله الشيخ هلال المؤمن بين العلم والعبادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُوْن}([2]).
أركان العبودية لله:
العبودية هي التذلل والخضوع والانقياد، وهي في اللغة مأخوذة من التعبيد، كما في تعبيد الطريق أي تذليله وتسهيله، أما العبودية لله سبحانه وتعالى فهي على ضربين: عبودية عامة، وأخرى خاصة، أما العام منها فهو المعبر عنه بالمعبَّد، أي المسخَّر، ويدخل في هذا العموم كل مخلوقات الله، ما في الأرض وما في السماء. وأما الخاصة فهي عبارة عن الانقياد لله سبحانه وتعالى، في جميع أوامره ونواهيه، التي أنزلها وبلغها الأنبياء والرسل، وعلى رأسهم النبي الأعظم محمد (ص). وهذه العبودية للمؤمنين، ولها أبعاد ثلاثة:
1 ـ الإيمان بالله سبحانه وتعالى:
ونفي الشريك عنه. واليوم في الأوساط العامة الخارجية، كالمجالس والاستراحات والملتقيات بعنوان أعم، كدوائر الأعمال والجامعات وغيرها، أو في وسائل التواصل الاجتماعي التي تجمع بين الناس من شرق الأرض لغربها، نجد الأمر مطروحاً فيما يتعلق بمسألة الارتباط بالله تعالى، والتأصيل لها من أصل الوجود. أي: من أين أتى الوجود؟ ومن أوجده؟ وكيف؟
ومما يحز في النفس أن هذا المطلب على دقته، وأن الولوج فيه يحتاج الكثير من الآليات، لكنه أصبح كالكرة التي يتقاذفها اللاعبون الذين لا يعدون دائرة الهواية، ولم يصلوا لمرحلة الاحتراف ليدلوا بدلائهم.
فالإيمان بالله تعالى يستلزم نفي الشريك عنه، وعلماء الإسلام من الفريقين بذلوا جهوداً كبيرة منذ الأيام الأولى التي أسس النبي (ص) خلالها لوحدانية الله تعالى من خلال الكتاب المنزل في سورة الإخلاص، وهي المنظومة المتكاملة للوحدانية، والتي ورد فيها أن السيد الطباطبائي صاحب الميزان قيل له: لقد وفقك الله تعالى لإنجاز تفسير كامل للقرآن الكريم، مع تقدم العلوم وتشابكها، فقال: لو أعطيت التفسير حقه لما عدوت سورة الإخلاص.
ثم يأتي البسطاء من حملة الثقافة المشبوهة ليجعلوا هذه المسألة شديدة التعقيد كباقي القضايا التي نتعاطاها في المجال الاجتماعي وغيره، وشتان بين هذا وذاك.
2 ـ الانقياد:
فبعد أن يؤمن الإنسان بالله تعالى رباً لا شريك له، عليه أن يدرك أن هذا الرب له أوامر وأحكام، وقد أرسل الوسائط المعصومة لإيصالها إلى عامة الناس، وطلب منهم السير وفق معطياتها، كالفعل في باب الأمر، والترك في باب النهي.
وهذا الانقياد لله تعالى هو الذي يجعل الدينا ملأى بالسعادة والمحبة والتعاون والإخلاص، والتخلي عن طرف منها فيما هو مطلوب، أو ارتكاب تجاوز ما هو منهيّ عنه، يعني قلب الحياة رأساً على عقب، فلا يبقى حجر على حجر، ولذلك تثار الحروب في كل أقطار الدنيا.
إن عودة الإنسان إلى المبادئ الأصيلة يحفظ له الكثير من التوازن في التعاطي مع الأمور، الكبير منها والصغير.
3 ـ الإله هو الغاية:
فالهدف من سير الإنسان امتثالاً للفعل والترك، هو الوصول إلى دائرة المطلق، وطلب الرضا من الإله المعبود الذي لا شريك له.
ورب سائل يسأل: كيف نصل إلى هذا الهدف؟ كيف نصل إلى هذا المكون بحيث ننطلق ونحن على هدى وبصيرة كي نصل إلى الرافد الأول والثاني والثالث؟
سلاحنا في جميع هذه المواطن هو نور العلم والمعرفة، وبين العلم والمعرفة عموم وخصوص من وجه، وقد أشرت إلى هذا المعنى في واحدة من خطب الجمعة السابقة قبل أشهر.
عبادة العالم:
فالعلم هو طريق العبادة إلى النهاية المطلوبة التي تترتب عليها السعادة الكبرى التي يتعقبها الرضوان الأكبر من الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، لذلك صح في الحديث أن عبادة العالم تفضل عبادة غيره سبعين مرة، لأنه يؤدي العبادة عن علم ومعرفة، فعندما يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى متعبداً يعرف ما يقول وما ينوي، لأنه يعرف بين يدي من يقف؟. فالعبادة ليست بالشكل فقط، من القيام والقعود والركوع والسجود، فهذه مظاهر لأمور معنوية تم طيّها ضمن هذه المظاهر الخارجية التي قررها الشارع المقدس.
فقيد العلم والتقى الشيخ هلال المؤمن:
قبل أيام قلائل فقدنا واحداً من أعلام هذه المنطقة، وهو آية الله المرحوم الشيخ هلال المؤمن هذا الرجل المملوء تقىً وورعاً وإيماناً وصدقاً وشعوراً بالمسؤولية ولو في دائرة محيطه وأهله، وأكثر من ذلك أن صمته كان نطقاً، وهي حالة قلّما تتفق للكثير من الناس، فأن يكون المرء واعظاً وهو في حال صمته، مما يقل ويندر، وهي مرتبة لا يصل إليها إلا الأوحديّ من الناس ممن طوّع نفسه.
هذا الرجل العزيز عرفته منذ ما يقرب من أربعين سنة، وعشته عن قرب، وتعلمت على يديه طريقة التعاطي مع المحيط الحوزوي في قم المقدسة، لأن الحوزات تختلف في مكوناتها، ولكل حوزة خصائصها. ففي تلك الفترة من العقود الأربعة المتصرمة كانت قم تعيش أجمل وأحسن وأكمل الأوقات والحالات التي مرت بها، وفي الوقت نفسه كانت النجف الأشرف تعيش أسوأ حالاتها جراء الحكم البعثي البغيض، الذي طارد علماءها، فإما مقتول أو مطرود أو مغيَّب. وهذه الحالة توجِد أجواءً غير متوازنة، وتحدث جوّاً من الاضطراب الذي يجد طالب العلم نفسه ـ ضمن حدود ظرفه ـ غير قادر على التعاطي معه في الوضع الطبيعي بخلاف ما عليه الحال في قم المقدسة.
كان الفقيد من السابقين الذين هاجروا إلى قم المقدسة في أواخر السبعينات الميلادية قبل أن تشرق الشمس الكبرى، ولم يكن أستاذاً نظرياً جافاً، إنما كان أستاذاً مربياً، يعيش الطالب بعد أن يسبر غوره ويأخذ بيده. كان صادقاً مع نفسه، وأن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه يعني أنه تعرف عليها من جميع جوانبها، وشخّص مناطق الضعف ومناطق القوة فيها، ثم شق طريقاً وسطاً، مازج فيما يمكن فيه الممازجة، وخلص إلى ما يمكن أن يخلص الإنسان إليه، لذلك لم يضعها إلا في مواضعها الصحيحة.
لقد عاشه الجميع لأنه كان متحرراً من أسر نفسه، ولو أنه خرج عن حدود هذه الدائرة لدارت عليه الدوائر، ولانقلبت الطاولة تماماً، فليس بالضرورة أن من يعيش انطوائياً على نفسه، أو يعيش صمتاً مطبقاً، أو لا يمكن الاقتراب منه إلا بعدة وسائط، يعني فيما يعنيه أنه ذلك الإنسان الذي نذر نفسه. لكن الشيخ قرأ الظرف من حوله، فوجده مليئاً بالكثير من الكدر والطحالب لذلك عصم نفسه بالنأي بالصمت.
يقول المرجع العلامة فضل الله رحمة الله تعالى عليه: أن تكون على برج عاجي وتنظر الناس من حولك لا يعني أنك أرفع منهم، فعليك أن تنزل للشارع وتعيش الناس، كي تكون واحداً منهم.
لقد أجبر الشيخ الجليل على هذه الحالة، وإلا فقد عرفناه أنه الإنسان المنفتح في فكره وحواره وأدبياته ولطائفه، لكنه قرأ القراءة الصحيحة للظرف، فوصل بقاربه إلى الجوديّ، فهنيئاً له.
وبما أنه كان واضحاً مع نفسه قارئاً لها، انطلق إلى مربع آخر، هو العلاقة مع العلماء، فاصطفى النخبة من علماء قم، الذين يعيشون واقعهم الخاص في دائرة المطلق، وكانت علاقته وثيقة جداً مع أهل السير والسلوك، لذلك روض نفسه وهذبها واستطاع أن يضع يده في لجامها، وأن يكبح اندفاعتها.
فمن هؤلاء الذي وطّد علاقته بهم الشيخ المحسني الملايري رحمه الله، وهو قطب من أقطاب السير والسلوك والعرفان العبادي، وكان يجلس في زاوية في حرم السيدة المعصومة كريمة أهل البيت (ع)، ويعيش أجواءه الخاصة، فجعل الشيخ المؤمن واحداً من طقوسه اليومية الاقتراب من مساحة هذا الرجل العارف، ومن الطبيعي أن يترك ذلك أثراً في نفسه وسلوكه.
ومنهم السيد المهدي الروحاني رحمه الله، الرجل العالم والعامل في الوقت نفسه. وإذا أردت أن تقرأ عالماً فزاوج بين اثنتين، هما ما يحمله من علم، وما يقوم به من عمل. ولا يمكن أن تعطي حكماً على أساسٍ من زاوية واحدة، فالعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. صحيح أن العنوان العلمي يبقى كما هو، لكن مثبتاته الخارجية هي الأبقى.
وأما في دراسته الحوزوية فقد اختص بآية الله العظمى السيد كاظم الحائري حفظه الله تعالى، وهو حامل مفاتيح مدرسة الإمام الشهيد الصدر بأبعادها الثلاثة فقهاً وأصولاً واستقراءً. والسيد الحائري يتميز بطيب نفس واضح، وقد تأثر الشيخ بهذه الطيبة أيضاً، ناهيك عمّا يحمله من علم وما استفاده الشيخ منه.
إننا عندما نجلس في مجالسنا تكون حساباتنا مادية، ننظر لعدد الحضور في درس أو فلان مثلاً، بينما الواقع يجب أن يكون: من هم الحضور عند فلان وفلان؟ وأسوق هنا شاهدين من الماضي والحاضر:
الشاهد الأول: الميرزا النائيني والشيخ الإصفهاني، فقد كان الحضور عند الميرزا النائيني كبيراً، لسهولة فهم ما يريد قوله، بسبب قربه من المسارات العرفية في علاج المسائل المعقدة في الحوزة العلمية. أما الشيخ الإصفهاني فقد اختص به مجموعة من طلاب العلم النابهين، كل واحد منهم أصبح في نهاية المطاف مرجعاً من مراجع الطائفة، أو محلّقاً في عالم البحث والتحقيق، أو أستاذاً معروفاً.
والشاهد الآخر: الشيخ الإيرواني، والشيخ هادي آل راضي، كلاهما من الأساتذة الذين تشرّفنا بحضور بحثهم، فالشيخ الإيرواني يحمل مواصفات الشيخ النائيني، أما الشيخ هادي آل راضي فيحمل مواصفات الشيخ الإصفهاني. سواء من حيث عدد الحضور أم من حيث النوعية. أما من حيث النتاج فالأمر متروك للأيام.
هذا الاختصاص ولّد حالة من الخصوصية في نفس المرجع السيد الحائري بحيث قرّبه منه واصطفاه، بحيث كان يتردد عليه خارج دائرة درسه، وهنا تكمن الممايزة بين بعض رجال الدين الذين يجعلون من البحث الخارج محطة استراحة، وبين من يجعلونه مرحلة انطلاق للبحث والتحقيق والجمع بين العناصر المولدة للأحكام الشرعية.
أما تعلقه بأهل البيت (ع) فكان منقطع النظير. فبعض الإخوة عندما تقول له: هنالك مجلس للإمام الحسين (ع) يقول لك: أنا مشغول، أو ليس لديّ وقت. أو أن يكون في مجلس فاتحة ولديه نية أن يطيل المكوث فيه، ولكن بمجرد أن يرتقي الخطيب المنبر تتحرك في نفسه نزعة الخروج من المجلس. أما الشيخ فقد كان شديد الحرص على تسجيل الحضور في مجالس أهل البيت (ع) بل جعل من بيته موقعاً لإحياء مراسم أهل البيت (ع) في أفراحهم وأحزانهم في بدايات انتقال الطلبة من النجف الأشرف إلى قم المقدسة.
أما في مجلس عائلة المؤمن في قم المقدسة فكان رجل المجلس، يشاركهم اللطم وتقديم البركة، ولم يكن يجد في نفسه حالة من الترفع على أحد.
وقد كانت اللغة الفارسية بالنسبة له حجر أساس، فإذا ما أراد طالب العلم أن يتقدم فلا بد أن يتقن تلك اللغة، إذ إن الحوزة فارسية في طابعها العام آنذاك، وليست عربية كما هو الحال في النجف. ولم تكن الحوزة العربية قد تشكلت هناك آنذاك كما هي عليه فيما بعد، وكان الأساطين فيها من أبناء ذلك البلد. ولذلك أتقن الفارسية، ففتحت أمامه الآفاق الواسعة. وكان من رأيه أن يتقن الطالب اللغة الفارسية قبل أن ينخرط في الحوزة العلمية.
فعلى سبيل المثال لو سألت أي مثقف عندنا عن التفاسير التي يعرفها في مدرسة أهل البيت (ع) لذكر لك مثلاً الميزان، والأمثل، والبيان، والتبيان، والكاشف، وربما يذكر بعض التفاسير الأخرى، إلا أن في مكتبة السيد المرعشي 800 تفسير للقرآن الكريم بأقلام علماء مدرسة آل محمد (ع) باللغة الفارسية.
والأمر الآخر أنك تجد بعض الصامتين، تتمنى أنه لا يتكلم، لأنه إن تكلم أحرق الأخضر واليابس، أو كان كلامه سبةً ومنقصة. بل إن بعضاً من أصحاب المقامات والمنزلة الرفيعة عندما ظهروا وتكلموا من خلال شاشات التلفزة أظهروا عيوبهم بشكل كبير، ولو أنهم سكتوا لكان خيراً لهم. أما الشيخ فلم يكن من هذا النوع، فهو على قلة كلامه كان إذا تكلم أضاف شيئاً، لأنه متابع بدقة لجميع المجريات من حوله، وكانت تساعده اللغتان العربية والفارسية.
ومن وصاياه التي أتذكرها، أنه قال لي ذات يوم: أنت في قم، وقم لغتها العامة والخاصة هي الفارسية، فتعلّم الفارسية تصل إلى أعماق مدرستها الفكرية والعلمية. وجزاه الله خيراً على هذه الوصية وجعلها في ميزان أعماله.
ومن وصاياه: إذا أردت الوصول فعليك الحفاظ على وجهتك التي جئت من أجلها، وتركت أهلك وبلدك، ولا تلتفت، فقد يفوتك الكثير. وكان هذا قبل سبع وثلاثين سنة بالتحديد.
ومن سيرته وأخباره أنه أَمّ صلاة الجمعة في منطقة الحميدية من محافظة خوزستان، وتعلَّق به أهلها بشكل كبير، بحيث نُصّب لهم غيرهُ إمام جماعة بصفة رسمية، لكنهم أصرّوا على بقائه إماماً لهم، وكان ذلك أيام الحرب العراقية الإيرانية.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.