نص خطبة:آية الله الشيخ آصف محسني منارة جهاد و اجتهاد2

نص خطبة:آية الله الشيخ آصف محسني منارة جهاد و اجتهاد2

عدد الزوار: 1276

2020-08-06

الجمعة 14 / 12 / 1440 16 / 8 / 2019 --أهمية علم الرجال في تنقيح السنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

أهمية مدرسة الحديث:

في الحديث الشريف عن زرارة قال: قال أبو عبد الله (ع): «يأتي على الناس زمانٌ يغيب عنهم إمامهم. فقلت له: وما يصنع الناس في ذلك الزمان؟ قال (ع): يتمسكون بالأمر الذي هم عليه، حتى يتبين لهم»([2]).

تقف الأمة اليوم على أكثر من مفترق طرق، وفي منعطف خطير. ولا يستثنى من ذلك مذهب عن مذهب، ولا دين عن دين، ولا نحلة عن نحلة، ولا قومية عن أخرى، ولا منظومة إنسانية هنا وأخرى هناك.

والقرآن الكريم أصّل للكثير من الأمور، والسنة المطهرة تولّت بيان ذلك، وجاد العلماء بما عندهم، والنتيجة أن الناس يتعاملون مع منتَج بشري في الثالث، بعد أن يكونوا قد غادروا مساحته الأولى المربوطة بالمطلق أولاً وبالذات.

ومدرسة الحديث من المدارس المهمة التي لا بد من الولوج في جميع دهاليزها دون الخوف من الظُّلْمة هنا أو هناك، أو الأسلاك الشائكة التي قد تعترض الطريق هنا أو هناك.

  وبعد هذه النقلة النوعية في عالم الرقميات، تبرز أهمية مدرسة الحديث في حياتنا اليوم، من حيث ما لها وما لنا، وما عليها وما علينا.

ويتضح الجواب عن أهميتها من خلال ما نستطلعه من معطيات القرآن الكريم، حيث كلام النبي (ص) هو الأقرب لاستنطاق النص القرآني، فالقرآن قد أستنطقه أنا وأنت والآخر، ولكن هذا الاستنطاق لا يقاس باستنطاق النبي (ص) والإمام علي (ع) وآل النبي (ع)، ولا باستنطاق الصحابة الطيبين المنتجبين. فاستنطاقنا نحن يقربنا من روح النص، مع تفاوت بيّن وملحوظ، فما عند النبي (ص) من معطيات تختلف عما عند من سواه، والحال يضعف عند غيره بتقادم الزمن، فإنسان اليوم المستنطِق، قد لا تكون واحدة من آليات الاستنطاق مكتملة بيده، ألا وهي اللغة البكر، التي جاء القرآن وفق مداليلها اللفظية، والمعاني المكتنزة في ألفاظها وقتئذٍ. فالعربية التي نسمعها اليوم ونتحاور بها، لغة هجينة ومستهجنة.

أما التهجين فواضح، لأن الفرس والترك والبربر وغيرهم لهم يد في تشكّل اللغة العربية الدارجة، التي تجري وفق تراكيبها حياة الناس اليوم، أما اللغة العربية الأمّ الأصيلة، لغة الضاد، فهي اليوم غريبة. فأنت تشاهد التلفاز قبل أربعين سنة، وتشاهده اليوم، فتجد الفوارق الشاسعة والتخبط حتى في أبسط قواعد اللغة، فلا تكاد تستمع إلى نشرة أخبار إلا وتخرج من خلال ذلك بسلة من المهملات مليئة بالأخطاء اللغوية.

في الزمن السابق كان المذيع هو الذي يقدم اللغة العربية الأصيلة للنشء، أما اليوم فهو الذي يحرف ألسنتهم عن قواعد اللغة وأصولها. وليس الأمر حكراً على هذا الجانب، بل يسري في الكثير من المربَّعات الأخرى حتى تصل إلى مربع الفقاهة، من الحوزات العلمية في مدرسة أهل البيت (ع)، والجوامع المساجد ودور تحفيظ القرآن الكريم لدى المذاهب الأخرى، والتكايا عند المدرسة الصوفية. وربما يكون أتباع المدرسة الصوفية اليوم، أفضل من يقدم اللغة بقالبها القريب من الأصل، رغم وجود الكثير من الثغرات، حتى بلسان أرقى المنشدين، كالشيخ ياسين التهامي وأمثاله من الأسماء التي تطول بها القائمة.

فالنبي (ص) استنطق القرآن الكريم في حدود حاجة الناس وقتئذٍ، وهو الأساس الذي تم البناء عليه وتفريع الفروع. ولكن مدرسة أهل البيت (ع) لا تقف في مدرسة الحديث والنص عند النبي (ص) إنما تستمر مع الأئمة (ع) حتى قائمهم الخلف الباقي من آل محمد (عج). وقد بقيت هذه المدرسة مستمرة مفتحة الأبواب لما يقرب من قرنين ونصف القرن بعد الهجرة النبوية.

وفي هذه الفترة كان هنالك أعلام وأصحاب وأقطاب، من العرب وغيرهم، سمعوا من المعصومين (ع) ونقلوا نصوصهم ورووها، ومما لا شك فيه أن النقل يختلف من هنا إلى هناك. فالنص المنقول حرفياً يختلف عن النص المنقول بالمعنى أو الترجمة، والبون بينهما شاسع.

فمن الأمثلة المعاصرة، أن إسرائيل احتلت مرتفعات الجولان إبان حرب 1967 م، وقد صدرت قرارات دولية في الأمم المتحدة بهذا الخصوص، ولا زالت إلى اليوم بعض النصوص بثلاث لغات، العربية والإنجليزية والفرنسية، وقد تأخر استعادة هذه الهضبة إلى أهلها بسبب وجود اختلاف في ترجمة هذه النص، بل إن الاختلاف لا يتجاوز حرفين فقط([3]).

فهذه المسألة السياسية والأمنية الخطيرة يتحكم بمصيرها اختلاف في النص، والكلام عين الكلام في النصوص الشرعية، فهنالك حرف واحد أو حركة إعرابية، قد يكون لها مدخلية في الاستنباط بحيث يكون إثباتها أو عدمه سبباً في تغير الحكم.

والعربي بسليقته قد يصل إلى المغزى من النص، أما غير العربي فيحتاج إلى نقله إلى لغته. ونقل النص ووثاقة الراوي فيهما بحث طويل عريض، لا موجب للغوص في أعماقه.

ورب قائل يقول: إن العربي هو من كان في ذلك الزمان، أي زمان سيادة اللغة العربية في أهلها، وليس عربي اليوم البعيد عن لغته، والذي فقد سليقته. أقول: الكلام عين الكلام، ولكن يبقى ابن اللغة أقرب إلى تلقّي معطيات اللغة من غيره، لأن ذلك الثاني يحتاج إلى صناعة مركّزة بخلاف الأول.

ومن باب المثال، أن العلامات في منع الصرف تنقسم إلى لفظية ومعنوية، فاللفظية لا يختلف فيها أحدٌ عن غيره، أما المعنوية فتحتاج إلى السليقة والذوق العام في مكوّن الناطق باللغة العربية. فحرف الجر مثلاً، لا يدخل على اسم إلا أحدث فيه الجر، لفظاً أو تقديراً، ولكن في التأثير اللفظي إذا وُجد مانع من موانع الصرف، فلا يكون الجر بالكسرة، إنما يكون بالفتحة، فتقول: ذهبت إلى بغدادَ، ونظرتُ إلى مريمَ. والعلامة المانعة للصرف هنا من العلامات التسع، هي علامة معنوية لا لفظية. والعربي بسليقته أقرب لمعرفة العلامة المعنوية من غيره بشكل عام. أما على النحو الخاص، فلا شك أن هنالك بعض الأعاجم أكثر خبرة في هذا المجال بسبب عيشهم في بيئة العرب واهتمامهم الكبير بتلقي اللغة.

فالأمر الأول المهم في الحديث هو ضبط النص المنقول عن المعصوم لغةً. فالنبي (ص) هو المخاطَب مباشرةً بالقرآن الكريم، وهو أعرف وأدرى بما في آيات القرآن من المعاني.

والأمر الثاني: ما نستفيده من روايات النبي وأهل البيت (ع). فهنالك اليوم من يقول: ماذا نستفيد اليوم من هذه الروايات؟ وإلى متى تشلّون حركة الناس من خلال الجلد بسوط الرواية؟ أقول: هذا الكلام غير صحيح، بل يكشف عن حالة من الجهل، والصحيح أننا إذا أقصينا السنة، حينئذٍ نكون في أكثر المواطن خطراً، وفي مساحة قريبة من الضياع والشتات.

والنبي (ص) عندما قدم لنا المورد الأول، أخذ بنا إلى مساحة ثانية، ألا وهي التوسع في المعارف الدينية، ومن خلال الكمّ الهائل من الأحاديث نضع أيدينا على الكثير من مساحات المعرفة، من السير في سنن الأولين، واستنطاق النص فيما يعني المستقبل والاستشراق، ونظم حياة الناس في جانبهم المدني والاقتصادي والاجتماعي مع الأقوام من حولهم. كل هذا مكتنز في القرآن الكريم، غاية ما في الأمر أنني قد لا أصل لكنهه، أو لا تكون لديّ القدرة في استنباطه.

فالنبي (ص) وأهل البيت (ع) أوجدوا لنا هذه المساحة، وهي تتسع لنا شيئاً فشيئاً، ويتفرع عنها فروع وفروع. أي أنها تبدأ بالنبي (ص) ثم أهل البيت (ع) والصحابة، ثم يأتي دور الفقهاء الذين يفرّعون عمّا تم تأسيسه على يد النبي (ص) وفُرّع على يد آل النبي (ص) وكذلك أصحابه الذين عاشوا النبي (ص) واستنطقوا حديثه.

وهذه هي حركة الاستنباط لدى الفريقين اليوم، ولا عبرة بقول من يقول: إن باب الاجتهاد مغلق لدى المذاهب الأخرى، فالاجتهاد والاستنباط لم يغلق بابه عندهم، ولا حتى التقليد، فكل من التقليد والاجتهاد موجود، وإن كانا بصيغ مختلفة نوعاً ما.

فباب الاجتهاد مفتوح لدى المدارس الأخرى، بدليل الاستنباطات الحديثة، بل إن بعض المدارس والمذاهب الشقيقة لديها الكثير من وجهات النظر والآراء والفتاوى التي تقدموا فيها كثيراً، على كثير من العناوين الأخرى.

والأمر الثالث: الوقوف على هدي النبي (ص)، فالقرآن الكريم لم يتحدث عن هدي النبي (ص) إلا في بعض الآيات، ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ}([4]). لكن الروايات الواردة تكشف لنا حال النبي (ص) ومساره في الأمة، وكيف كانت سيرته في علاقته مع الله تعالى، أو مع الناس، أو مع أهله، أو مع خصومه. هذا كله وغيره لا يبينه القرآن الكريم، إنما تقدمه الروايات الشريفة الواردة عنه (ص) أو عن أحد من أهل بيته (ع)، لا سيما في الجانب الإنساني، فهنالك اليوم خلاف في كون النبي (ص) كائناً خاصاً يختلف عن سائر البشر؟ أو أنه من سنخ آخر؟ هنالك من يقول بالأول، فيقال لهم: إذن كيف يمكن أن يكون قدوة للبشر وهو ليس من البشر؟ فلا بد من تحصيل الجواب بناءً على ذلك. أما القائلون بالأول، أي أنه كسائر البشر، عندئذٍ لا بد من الإجابة عن اللازم الخطير، وهو أنه إن كان كذلك، فهو قابل للخطأ، فكيف يُستأمن على الرسالة؟

واليوم تشغل مثل هذه الأمور بال الكثير من شبابنا، وإذا لم نلُذ بالسنّة المطهرة ونقتبس من عطائها الثرّ، فلا يمكن أن نحلحل الكثير من العقد التي تعترض ذهنية الكثير من الشباب، وربما تستقر فيها.

الأمر الرابع: سكون النفس وصفاء السريرة من خلال الارتباط بروح النص، فمن يقرأ روايات النبي (ص) وأهل البيت (ع) تصفو نفسه، ويعمر قلبه بالكثير من المخزون العاطفي، فالنبي (ص) هو مصدر الرحمة والرأفة والعلم الإنسانية، وأول آية خاطبت النبي (ص) لم تقل له: ارفع السيف، إنما قالت: اقرأ. ولكن لأن الأمة كانت تعيش حالة البداوة والغلظة، حتى في أسماء أبنائها، كصخر وذئب وجندل وحرب وغيرها، لم تقرأ هذه الخصوصية جيداً في النبي (ص) وأصبحت تتعاطى بشكل كبير مع جانب القوة في حياته، كالغزوات والسرايا والقتل والقتال.

فالنبي (ص) أصل الرحمة والرأفة والعطف والشفقة، وقد كان القتل والقتال والشدة حالة طارئة في مسيرته، فهي كالعمليات الجراحية التي يجريها الطبيب لاستنقاذ حياة إنسان. فالنبي (ص) كان مجبراً على تلك الحروب، ولم تكن هي الوسيلة لنشر الدين.

من هنا قد أغفلنا، بل ألغينا الجانب الإنساني في حياة النبي (ص) وكذلك جانب العلم والمعرفة في حياته. فالنبي (ص) يمثل الرحمة والرأفة والحكمة والهداية والإنسانية، وهو البشير النذير.

فمن خلال الروايات الشريفة نستطيع أن نعرف شخصية النبي (ص) وحركته ونهتدي بهديه، فإذا استقرت هذه الحالة في نفوسنا عكسنا صورة مصغرة عن واقع النبي (ص) في حركته، سواء في تعامله مع خصومه أو أصحابه أو محيطه أو أسرته.

ففي فتح مكة نجد أن النبي (ص) بعد أن حقق النصر قال لأعدائه: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وهذا يعني منتهى الرحمة والرأفة، فلو أراد أن يجازيهم على ما فعلوا به لسالت أنهار من الدماء في أودية مكة. بل إنه تعامل مع أشد الناس خصومة للإسلام ـ وهو أبو سفيان ـ بما لم يكن يتوقعه أحد، حيث قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. حال أن أبا سفيان، وفق الحسابات الطبيعية الدارجة بين بني البشر في الحروب القيصرية والكسروية، كان يفترض أن يُقتل فوراً، لكن الرحمة النبوية أصدرت العفو العام، الذي شمل حتى الأعداء آنذاك. وهذا ليس له تفسير سوى أنه نبي، لأن النبي يتجلى في إنسانيته.

ثم إن مدرسة الحديث لها طرق موصلة إلينا، وهم الرواة، وهؤلاء بشر وليسوا ملائكة كما هو واضح، وقد يتّصفون بالوثاقة والعدالة والضبط، وقد لا تتحقق لهم هذه الصفات، فلا عدالة ولا وثاقة ولا ضبط، بل الأكثر من ذلك يتجاوزون هذا الحدّ إلى الوضع على لسان النبي (ص) وما أكثر الأحاديث التي وضعت بهذه الطريقة.

مع الشيخ آصف محسني:

في الأسبوع الماضي فقدنا المحقق الكبير آصف محسني، وقد ذكرت فيما مضى أنني سوف أكمل الكلام حول معطيات ومنتجات وشخصيته.

فهذا الرجل العظيم، هو علّامة بين الرجال، ورمز الوحدة بين المسلمين جهاداً وعلماً، وقلّما تتفق هذه الصفة لإنسان، بأن يكون مجاهداً لا يفرّق بين مسلم ومسلم، إنما يقاتل عدوّ الإسلام تحت راية واحدة.

ففي حرب أفغانستان ضد الروس والمد الشيوعي تحرك تحت راية الشيعة والسنة معاً، وهي راية الإسلام الخفّاقة، وأحدث منجزاً كبيراً، وهُزم الروس، وانسحبوا أذلاء، لأن الشيعة والسنة اندمجوا تحت راية الإسلام. ولذلك نجد أن العالم الآخر لا يقرّ له قرار حتى يبث الفرقة بين الشيعة والسنة. ومع شديد الأسف أن المسلمين أنفسهم يعملون على توسيع الفجوة وتأصيلها  وتثبيتها، وهي واحدة من المشاكل اليوم.

إن راية الإسلام واحدة، ولا يمكن أن نجعلها أكثر من راية واحدة، ومتى ما تعددت الرايات فعلى الأمة أن تراجع الحسابات، وتعيد النظر في نفسها، هل هي على الصراط المستقيم، أو أنها في عوالم أخرى، وقد لا تنتبه من السكرة إلا بعد أن تضيع الفكرة، ولن تستطيع حينئذٍ أن تعود للمربع الأول.

لقد ترك الشيخ آصف محسني وراءه موروثاً كبيراً، وهو عطاؤه في علم الرجال الحديث والكلام وغيرها.

وهنا نسأل بمقدمة سريعة وبسيطة جداً: ألا يكشف علم الرجال أحوال الرجال، والمستور من أفعالهم؟ الجواب: نعم، وليكن ذلك. فعندما أفتش عن حال شخص ما، وأصل إلى نتيجة مفادها أنه على خلاف الجادة، وأضع عليه علامة الاستفهام لأحذر الآخرين من الوقوع في شراكه، فهذا عمل محمود، وليس مذموماً.

فالقرآن الكريم أول من وضع حجر الأساس لعلم الرجال، والآيات في هذا الجانب كثيرة جداً، والقاعدة الأساس في ذلك كله قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ‏ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمين‏}([5]).  وما أكثر الفساق آنذاك، وما أكثر من طردهم النبي (ص) عن المدينة، ومن ترك الصلاة على جنائزهم، وبعض الصحابة فعلوا مثل ذلك. بل إن الخليفة الثاني أراد أن يقيم الحدّ على بعضهم، لارتكابهم الكبائر، وهذا ما ينقله التأريخ الصحيح.

إن السنة المطهرة لدى المدارس الأخرى تتمثل بما ورد عن النبي (ص) بواسطة الصحابي أو التابعي. أما في مدرسة أهل البيت (ع) فتتمثل بما ورد عن النبي (ص) أو أحد الأئمة الأطهار (ع) من آل محمد (ع). فكل ما ثبت عن النبي (ص) من الأقوال والأفعال وغيرها فهو سنة، مما هو تبيين للقرآن الكريم، وتفصيل للأحكام، وتعليم الآداب العامة والخاصة،  كصلة الرحم وغيرها، جلّها وردت في السنة المطهرة، لا في القرآن الكريم.

وكذلك ما جاء في بيان مصالح معاش الناس، فرغم تقدم الحياة اليوم، إلا أنه ما من شيء فيها إلا وللسنة المطهرة إضاءة فيه، ولكننا نحن الذين نتنكّب الطريق. وبأدنى مراجعة لأبواب الفقه، نجد المزارعة والمساقاة والشركة والصلح وغيرها من الأبواب ذات المساس بحياتنا، وكلها تعنى بحياة الناس مباشرة، إلا أننا لا نوليها أهمية كما نولي لأبواب الطهارة وأمثالها.

لذا نجد أن معظم مشاكلنا المعقدة اليوم، كما في المشاكل بين الزوجين مثلاً، منشأها عدم الاقتراب من روايات مصالح معاش الناس.

وقفة مع علم الرجال:

ومفتاح السنة ومعيارها هو علم الرجال، فلا يمكن التعامل مع الكم الهائل من الأحاديث التي نقلها الرجال دون تمحيص لحالهم.

فعلم الرجال: هو العلم الذي يبحث في جرح الرواة وتعديلهم، بألفاظ معينة، وبيان مراتب تلك الألفاظ. كما هو الحال في الصحيح والموثّق والحسن والضعيف. 

وعرّفه آخرون بأنه: علمٌ وضع لتشخيص رواة الحديث النبوي ذاتاً ووصفاً ومدحاً وقدحاً.

والشيخ آصف محسني هو إمام هذا العلم في زماننا، وهو تلميذ السيد الخوئي رضوان الله عليه. وقد كانت جهوده في هذا المضمار كبيرة، وخدماته جليلة. ففي الجانب العلمي لديه المؤلفات المنتقاة المحققة. فليس المهم في المؤلفات عدد المجلدات التي قد لا يكون لها مساس بالواقع العملي، فربما يكون هنالك كتاب في صفحات معدودة، ولكن له مساس في تسيير عالم الناس، والامتزاج بواقعهم، والأخذ بأيديهم إلى ما هو الأفضل.

ومؤلفاته في أكثر من علم، إلا أن معظمها في الدراية والرجال، فقد ألف في علم الكلام، وهو علم العقيدة، وهذا العلم شبه غائب في الكثير من مواطن العلم المتقدمة في العالم الإسلامي، رغم وجود الحاجة الماسة له في جميع البلدان، لوجود أكثر من توجه يسير على النسق السلفي، ولا أعني السلفية في الجانب السني فقط، فهنالك سلفية لدى الشيعة أيضاً، ووصف السلفي في الأصل ليس للذم، بل بالعكس، أي أنه من يسير على هدي السلف الصالح، سواء كانوا الأئمة (ع) أم الصحابة المنتجبين، فليست هنالك حساسية مع السلفي، إنما الحساسية من وصف الداعشي الذي أنتجه واقع خاص، ليبيح الدماء ويستبيح الأعراض وينهب الأموال، وإن ادّعى أنه سلفي بإطالة لحيته، فاللحية لا تدل على استقامة الإنسان، كما أن حلقها لا يدل على تمرد الإنسان على سلفه.

أما علم أصول الفقه، فقد كان أحد أساتذته. وهو علمٌ يرى الكثيرون أنه العمود الفقري للدراسة الحوزوية، مع تحفّظي على هذا الرأي.

وأما علم الرجال، فقد كان المتربع على هرميته دون منازع.

أما كتاب مشرعة البحار، فهو كتاب جليل مهم، طرق الكثير من الأبواب الحوزوية، حيث طبّق فيه مدرسة الرجال على موسوعة العلامة المجلسي صاحب البحار، البالغة مئة وعشرة مجلدات، فاختصرها في مجلدات ثلاثة، وقد طلب منه أحد المراجع أن يسحب الكتاب، وأن يدفع له التكلفة كلها، لكنه رفض، وتعرض للّوم في ذلك.

لقد تناول في مشرعته بالنقد 1600 حديث من البحار، فاستخلص منها 73 حديثاً فقط، وهنا تكمن أهمية علم الرجال. وقد سُئل عن ذلك فقال: ما ذنبي إذا كانت هذه هي نتيجة البحث، ونحن أتباع الدليل.

لقد حان الوقت أيها الأحبة المؤمنون، أن نكون أكثر جديةً، وصراحةً في ترتيب أوراق الموروث، وفق المقاييس العلمية المتبّعة عند أهل الصنعة، كصاحب هذه المناسبة، قبل أن نفقد الكثير من شبابنا.  

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.