نص خطبة: آثر العقل في بناء الأمة

نص خطبة: آثر العقل في بناء الأمة

عدد الزوار: 700

2015-03-24

عن فاطمة الزهراء (ع) عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص) «أيما رجل اصطنع إلى رجل من ولدي صنيعةً فلم يكافئه عليها، فأنا المكافئ له عليها»([2]).

يقول النبي الأعظم (ص): «أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه يوم تضاعف فيه الأعمال»([3])

 

  • العقل والنقد:

 

عوداً إلى ما كان الكلام فيه، وهو ما للعقل من أثر في بناء الأمة نقول: من الجوانب المغيَّبة للعقل في وسط الأمة حركته في دائرة النقد، والأمة التي لا تقبل أن تُنقد في قضاياها ومشاريعها وتوجهاتها وحركاتها، عليها أن تنعى نفسها، أو تنتظر من ينعاها، أو من لا يرحمها.

فالنقد قيمة عالية، وبه تتكشف العيوب والنقائص، بعكس المجاملة. فكم من أمم بادت بسبب المجاملة، وكم من التجمعات انحلت، وكم من المشاريع التي انهارت على أساسها، فالأمة الواعية الراشدة عليها أن تفتح للنقد أكبر المساحات الممكنة وتشرع له الأبواب المفضية لتلك المساحات قدر الإمكان.

إن الوعي النقدي هو المراد، فنحن لا نطلق العبارة ونرسلها إرسالاً، إنما نحدد المقصود من النقد، وهو النقد المقنَّن البناء، لا النقد الهدّام، فالنقد الواعي هو ما يؤدي للبناء، لذا ينعت بالنقد البناء، في مقابل ما يحمل معول الهدم الذي لا تحركه إلا النفوس المريضة التي تربع في داخلها وفرّخ الشيطان حيث شاء.

نحن اليوم في مسيس الحاجة إلى النقد، ولو أن الأمة تعي ما للنقد من أهمية لما وقعت في أكثر من إشكال وإشكال، في أكثر من زمان ومكان، حتى بات البعض يروق له أن ينعتنا بأننا نجترّ الماضي، ولا مجال للتهرب من إرهاصاته وإسقاطاته.

فهل نحن رهينة لهذا اللون من القراءات، أو أن بمقدورنا أن نتفلَّت من قيوده، ونهرب من دائرته، وننطلق للمساحات الأوسع لنحقق نجاةً لأنفسنا ومجتمعات وأمم أخرى؟ لا شك أن الخيار الثاني هو الذي ينبغي أن يحكم الساحة في واقعنا المعاش.

لقد تقدمت أوربا لأنها فتحت للنقد المساحات التي كان يبتغيها روادها لأنفسهم، فتقدمت وأدارت عجلة الإعمار في جميع مناحي حياتهم، فالأمم التي كانت تعيش جهلاً بنسبة مئوية مرعبة قبل قرون، أصبحوا سادات العالم اليوم، فتراهم لا يبعثون أحداً لنا لتحصيل المعارف والعلوم، ونحن أمة (اقرأ) التي يصدح القرآن في أوساطها آناء الليل وأطراف النهار بالحث على القراءة والتعلم. قال تعالى: ﴿ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُوْنَ﴾([4])، وقال: ﴿عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾([5])، وقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾([6])، وغيرها من الآيات.

والسر في تأخرنا وتقدم الأمم علينا أننا لم نرضَ في يومٍ ما أن نحرك مبضع التشريح في بعض الزوايا، ونحمل قلم النقد في مساراته الأخرى، فتبدلت المواضع، وأصبح الوضع خلاف ما كان عليه في الماضي.

إننا نفرح إذا سمعنا بتكريم شخص ما بامتياز، وكأن هذه الأمة ليس فيها إلا هذا الشخص، وهي قرابة مليار ونصف المليار مسلم، فهي مع كثرة عددها إلا أنها لا تستطيع أن تفرض واقعاً إلا بعد فواصل من الزمن ليكرم شخص واحد، أو تمنح جائزة هنا أو هناك، حال أن الصبية من أبناء الغرب يحصدون الجوائز ومواقع التكريم في جميع المساحات حتى في عقر دارهم. وما على الإنسان إلا أن يقف وقفة تأمل مع بعض ما يكتب أو ما يقال أو يُرى، ليلحظ ويدون ثم يستخلص، ليضع دائرة صغيرة تليق بشأنه، يقف من خلالها رامياً بطرفه إلى أبعد المسافات، ويسأل نفسه إن كان يستطيع أن يتقدم أو يبقى أسير تلك الدائرة.

دائرة الوعي النقدي:

فالوعي النقدي هو حالة من الوعي تضع كل شيء موضع المساءلة دون استثناء، سواء كان موروثاً دينياً، أم اجتماعياً، أم فكرياً حداثياً، فلا عصمة لمنتج بشري.

قد يقول قائل: إن الموروث الديني ليس منتجاً بشرياً، إنما هو مربوط بالسماء، فنقول: نعم، إنه كذلك، في أصوله وقواعده ومحكماته، ولكن حملة الموروث الديني لهم أثرهم الواضح البين على ذلك الموروث. لذا من حق أي إنسان يمتلك الآليات أن يضع ذلك الموروث في جميع مشخصاته وعناوينه موضع النقد، بعد أن يحقق ويدقق أن البوصلة في اتجاهها الصحيح.

هذه هي الحالة المطلوبة التي لا بد منها، شئنا أم أبينا، تقدمنا أم تأخرنا، فلا بد من يوم تفرض هذه الحالة نفسها علينا، وسنواجه نقداً مباشراً من أبنائنا في بيوتنا، ومن أصحابنا في ملتقياتنا، ثم تتسع الدائرة لتشمل حتى البعيد عنا كثيراً، ولا يكون العلاج ناجعاً ومؤثراً إلا إذا وضعت العلامات على الداء منذ البداية، أما إذا استفحل واستشرى، فإنه يبقى يشكل هاجساً يراود ذهنية المريض.

يتصور البعض أن المرض الجسدي هو الأول والأخير، لكن الحقيقة أن المرض المعنوي النفسي أو الروحي أكثر خطراً، لأن خطورته لا تقف عند الإنسان المعنيّ نفسه، إنما تتعداه إلى مساحات ذات اليمين وذات الشمال.

عقبات في طريق النقد:

أما العقبات فهي كثيرة، أشير إلى بعضها على عجالة:

1 ـ التقليد: الذي ورثناه صغاراً وكباراً، بل كبرنا عليه، وهو كثير، فنحن نؤجل النقد أو نمتنع عنه بسبب التقليد الموروث، بل نمتنع حتى عن السؤال المحض الذي يراد منه معرفة الحقيقة والاستيضاح لأمر معين، بحجة أن فلاناً محترم مثلاً، فهل أن السؤال خلاف الاحترام؟

فلو أن أحداً سأل عن مسألة شرعية، ولم يتضح له الأمر، فلا بد أن يستوضح، وهذا هو المناسب، فلربما كان عدم الوضوح في الإجابة أكثر خطراً على السائل.

وموروثنا في هذا المجال من التوقف في السؤال ثقيل، فنحن مثلاً لا نربي أولادنا في مجالسنا أن لهم حصة في المجلس، إنما نغلق عليهم الأبواب، وقد لا نسمح لهم بحضور المجلس. ولا ندري، هل يكمن الخلل فينا أو فيهم؟

لذا علينا أن نسعى جاهدين أن نغرس في نفوس الأبناء أن لهم حصة كبيرة في مجالسنا، فأول حركة إيجابية لزرع الثقة في نفوس الأبناء، وهي الأساس في التقدم والتطور، هي أن نعطيهم حصتهم الكافية أن يسجلوا حضوراً في مجالسنا، وأن يدلوا بدلوهم، ويفصحوا عن مكنون أنفسهم وآرائهم، فإن لم نرضَ بذلك فعلينا أن نرضى ببضاعة رخيصة فاسدة لا قيمة لها.

إن البعض منا ليس لديه القابلية أن يغرس الثقة في ولده حتى في التسوق والتبضع البسيط، فيأبى عليه أن يشتري حتى كيس الخبز، إلا بإشراف الأب، مما يكون له انعكاس سلبي خطير جداً على نفسية الولد. هذا في الأمور المادية الصرفة، فكيف بغيرها من الأمور الأخرى التي تسير وتتحرك معه وتمد الكثر من الجسور، في عالم اليوم الذي لا يعرف إلا حركة الفكر والتنوير. فلا بد أن نتجاوز هذا الموروث الذي أرهقنا كثيراً.

عناصر وأدوات النقد:

هنالك أمر مهم لا بد من الإشارة إليه، وهو أننا عندما ندعو إلى تفعيل حركة النقد في موروثنا في جميع تقسيماته، فلا نعني الإطلاق، بل لا نسمح لأي كان أن يمارس العملية إلا إذا اجتمعت فيه العناصر، فمن حق أيٍّ كان أن يبحث عن تلك العناصر ليمارس دورره في حركة النقد لواقعنا، لأنه الواقع العالمي (مأزوم) إعلامياً وفنياً وسياسياً وأدبياً وأمنياً، وليس هنالك دولة تنأى بنفسها عن ذلك أبداً. وتلك العناصر هي:

أ ـ امتلاك الثقافة المعمقة: لا ثقافة المجالس والتلفزة، أو أن يسمع الحوار من المجلس أو الملتقى الفلاني، ثم يجعل من نفسه الأديب طه حسين، أو الصحفي هيكل، أو فلاناً أو فلاناً، إنما عليه أن يكون منصفاً مع نفسه، بأنه هل أخذ من الثقافة ما كان مبنياً على أسس متينة، أو أنها الثقافة الالتقاطية عبر السمع؟

إن ثقافة السمع، وإن كانت توجد حافزاً، لكنها لا تجدي ولا توصل إلى ساحل المحيط. فلا بد من ثقافة معمقة ذات قدرة على التقييم.

ثم إن المثقف لا يمكنه أيضاً أن يرتكز على ثقافته لينقد كل ما تقع عينه عليه من المسارات، فالسياسة والاقتصاد وخطط الحروب العسكرية وغيرها صارت اليوم تبنى على أساس آراء المستشارين، لا رأي الشخص الواحد، فلا يمكن لكل متخصص أن يجعل نفسه ناقداً لكل شيء، بل قد لا يمكنه النقد حتى في مجال تخصصه هو. ومن يدّعي المعرفة في جميع العلوم علينا أن نتهمه في عقله. ومفردة (علّامة) التي تطلق على البعض إنما هي كلمة تزيينية لا يمكن أن تنطبق تمام الانطباق على أحد.

ب ـ امتلاك الرؤية الواسعة: القادرة على المقارنة بين الأشياء فيما تغاير بينها، أما أن يقرأ ويحفظ فقط فهذا أشبه بقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً﴾([7])، فلا بد إذن من نظرة ثاقبة للأمور. يقول النبي الأعظم (ص): «المؤمن كَيِّس فطن حذر»([8]). فالنقد لا يقبل على إطلاقه، وهناك موارد لا يمكن أن يقبل فيها النقد أبداً.

النقد غير المقبول:

وللنقد أساليب وطرق وضوابط لا بد من مراعاتها، فهنالك نقد مرفوض، وذلك إذا انطبع بما يلي: 

1 ـ تجاوز حدود الأدب، وخدش الحياء العام والخاص: فما يقدم اليوم من مسرحيات النقد عبر محطات التلفزة ينطبق عليها هذا العنوان، بل إنها أصبحت أقرب إلى التهريج منها إلى النقد. وصارت بضاعة تدر المال، وتشتت الأفكار، وتشغل الساحة بالكثير من الأمور. وما ينفق على الجانب الإعلامي اليوم في جميع الدول، إنما هو أرقام خيالية، لو أنفق عشرة في المئة من مجموعها على فقراء العالم لما وجدت فقيراً على وجه الأرض. ولكن ليس هناك استعداد لذلك، لأنه إذا زال الفقر زالت الأمية من وجه الأرض، وإذا زالت الأمية ارتفع السقف، واقترب الفقراء من ساحة المشاركة، وكانت المنافسة والمزاحمة، وهذا أمر مرعب لأصحاب القرار.

فتجاوز حدود الأدب، وخدش الحياء العام والخاص سمة من سمات النقد المستهلك اليوم، الذي صار نقداً تجارياً غير مبني على أسس وقواعد، ولا على أسس من الدراسة، إنما هو نقد عشوائي.   

2 ـ هدم المقدسات: فعندما يصل النقد إلى مرحلة هدم المقدس يصبح مشكلة كبيرة، وتندرج تحت هذا عناوين كثيرة، يمكن أن نذكرها بشكل فهرسة:

أ ـ الإساءة إلى الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله، وهذه درجات أيضاً، والأسوأ أن يوجِد مبرراً للإساءة، وهي طامة كبرى.

ب ـ الإساءة للرسول الأعظم محمد (ص): فمن ينقد النبي (ص) في شخصه لا بد أن نستوقفه، فالنبي (ص) مقدس ديني، وليس موروثاً دينياً فقط، فهو موروث عصمته السماء، أما أن يفترض الناقد في نفسه حالة من الوعي أكثر من حكيم الحكماء، فهذا أمر آخر.

ج ـ الإساءة إلى أحد المعصومين (ع) بأي شكل من الأشكال، وتحت أي إطار، فالإساءة لأحدهم كالإساءة لهم مجتمعين، كما أن من أنكر واحداً أنكر المجموع.       

د ـ الإساءة للقرآن الكريم. وأستطيع أن أقول جازماً: إن بعض الناس لا علاقة له بالقرآن إلا من خلال الصلاة الواجبة، أو في شهر رمضان.

هـ ـ الإساءة للسنة النبوية القطعية الصادرة بالطريق المعتبر، كما في الروايات الصحيحة السند، التي لا غبار على سندها، إلا أنها لا تتوافق مع العقل الشخصي للبعض. أما أهل البيت (ع) فيأمروننا في مثل هذه الحال بالردّ إليهم، فقد ورد عنهم (ع): ­«ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه إلينا»([9]).  

3 ـ النقد من أجل النقد: فهناك من ينقد، لا لشيء إلا ليقال: إنه كتب أو نقد.

  • Share on Facebook
  • Tweet
  • Post to Tumblr
  • Pin it
  • Add to Pocket
  • Submit to Reddit
  • Share on LinkedIn
  • Save to Pinboard
  • Send email