نحن فداء لك يا حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
هذا المحرَمُ قد وافتكَ صارخةً مما استُحلَ به أيَامُهُ الحُرُمُ
نعم ‘ هاهي أيام المحرم السوداء الحزينة ، وهاهي أيام البكاء والعبرة ، هاهي أيام المواساة لأهل البيت (عليهم السلام) في مصابهم بالحسين الشهيد (عليه السلام) بالحزن واللوعة .
نعم ، هذه هي الأيام التي تَحقَقَ بنا فيها مواساةُ الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) بإقامتنا للمأتم ، فيكون ذلك مصداقاً وصورةً واقعَيةً لما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة المروي بسند صحيح حيث قال:(( إن الله – تبارك وتعالى- اطََلع إلى الأرض فأختارنا , وأختار لنا ، شيعة ينصورننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منَا وإلينا )).
أجل , إذا كان الله تعالى بفضله وعنايته ولطفه قد خلقنا لهذا العمل وهو مواساة أهل البيت (عليهم السلام)، و وظفنا له في سابق علمه ، وألبسنا به ثوبَ الشَرف والكرامة , فلماذا يحاول البعضُ أن ينزعَ عنا هذا الثَوب ، ويحرمنا من هذا الشرف ؟! ولماذا يحاول أنْ يصدَنا عمَا وُِظفنَا له من قِبل الله تعالى .
أقول : ما هو المبرر لهذه العنعنة السَمِجَةِ التي يُصدِرُ بها هذا الرجل اقتراحه الواهي ، فيريدُ منا أن نكتفي بما نسمعه من القراءة التي تنقلها الفضائيات على الهواء ، ويقترح علينا أن نترك عقدا لمآتم في بيوتنا وحسينياتنا!- وقد سبقه في اقتراحه هذا ذاك الذي اقترحه علينا تخفيفا لمآتم ، وتخفيف العزاء واللطم ، ولكنَه لم يُفلح ، وقد أخفق فيما أراده ، ولم يَلقَ منا أذناً صاغيةً له – وجاء هذا باقتراحه الجديد ، ولا ندري! ما الهدف منه ، وما لغاية من هذا الاقتراح ؟! أكُلُ ذلك لأجل أن يرفع عنا كُلفةَ التقيُد بإقامة المآتم والحضور فيها، وليخفَف عنا كُلفةَ الإنفاق لإقامتها- كما قد يزعم - ؟! وأنَ اقتراحه صدر منه مع حسن النية! من يدري؟
لعل الهدف أعمق من ذلك ، والغاية أكبر، فلعله أراد القضاء على المآتم لكن بصورة تدريجية ، فجاءنا اليوم بهذا الإقتراح وقد بيت في نفسه أن يأتينا غداً باقتراحٍ جديد ، يدخل به في مرحلة أخرى من التدرج للقضاء على المآتم بصورة نهائية , حيث يقترح أن نكتفي بالمحاضرات التي تذاع في القنوات الفضائية ، والتي تعرض لواقعة الطَف بصورة موجزة اعتمد فيها بصورة عنائيَةٍ التطوير في المضمون ، وفي أسلوب العرض،بحيث تكون بعيدة في أسلوبها عن الأسلوب التقليدي للقراءة الحسينية المتعارفة في المآتم الحسينية .
وحتى لو كلفه الحال بالمرور على مشاهدة المأساة يوم الطف ؛فهو لا يعرض منها إلا بعضها وبصورة خفيفة لا تخرج عن الأسلوب الأدبي ، بحيث تموت تلك الجذوة المستعرة المنطبعة في تلك المشاهد ، فلا يعود لها تأثير على النفوس بالعاطفة والتفجُع .
ومن المعلوم أن الجري على هذا الأسلوب سيقضي على المآتم حتما ، بل ستطوى به صحيفتها ، وتخبو به جذوتها ، ويموت ذكرها إلى الأبد ، ولا يخفى أن ذلك عمل أجرامي سيقضي على المآتم ونفقد المنبر , خسارة كبرى لا تُعوض .
ولا عجبَ من صاحب هذا الاقتراح ، فقد سبقه واحدٌ قبل سنتين أو ثلاث جرى على شاكلته ، فرفع شعاراً قال فيه بأن الحسين (عليه السلام) عِبرةٌ لا عَبرةً ، وقد وقفنا يومها معه موقف المحاسبة والرد على ما قاله بعدة أمورٍ ، وقد عقبناها بعدة تساؤلات .
وها أنا أوردها مجددا ليحصل بها التنبيه والاعتبار وليكون ذلك من باب :( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) الذاريات :55
فقلنا له في معرض ذلك:
أولا : إن البكاء يحصل بدافع غريزي ، فإن الله بحكمته قد جعل في الإنسان غريزة التأثر بما يسر وبما يحزن ؛ فإذا بكى الشخص لما أحزنه ؛ فإنما ذلك منه استجابة طبيعية للغريزة المودعة فيه ، ولا معنى لأن يعاب على أمر غريزي لا يملك صاحبه دفعه ، بل يجري عليه بصورة قهرية شاء أو أبى .
ثانيا : إن مصاب الحسين (عليه السلام) بالخصوص يجدله الإنسان في نفسه تأثيراً قهريا ، ويجدله حرارةٌ شاء الله تعالى بعنايته أن تبقى جمرتها ملتهبة لا تخمد ، وهذا يدركه كل واحد منا بعقله وبوجدانه حين يرى التأثر بمصاب الحسين (عليه السلام) عاطيفياً باقياً في نفسه لا يضمحل مع طول الزمان الذي مرَ على الفاجعة , مع أن ما يقع على الشخص نفسه من فاجعة فقد عزيزٍ لا يجد لها هذا التأثر في نفسه مع قربها زماناً .
أجل , إن البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) يرى أنه أمر مقصود وتأثير مصابه على النفوس لا بدأن يكون بإرادة إلهية شاءت له البقاء , ولعل السر في ذلك هو أن يبقى الطفُ حياً في النفوس ، وعطاء الحسين (عليه السلام) خالداً لتؤخذ منه العِْبرَة .
ثالثا : إن البكاء ورد به الأمر منهم (عليهم السلام) ففي حديث الإمام الرضا (عليه السلام) جاء قوله : (( يابن شبيب , إن كنت باكياً لشيءٍ فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنه ذبح كما يذبح الكبش..)) . أمالي الشيخ الصدوق:129.
وفي حديث آخر جاء فيه : (( فعلى مثل الحسين فليبك الباكون )) .
رابعا : إن البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) جرت عليه سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ، فهذا هو الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) بكى على أبيه خمسة وثلاثين سنة ، ومثله بقية الأئمة (عليهم السلام) على ما هو مأثور .
خامسا : إنه قد ورد في الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما هو سابقا :
(( إن الله- تبارك وتعالى- اطلع إلى الأرض فأختارنا ، وأختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزنا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منا والينا )) .
وبهذا الحديث أعطى الإمامُ (عليه السلام) لشيعته علامة بأنهم يفرحون لفرحهم ، ويحزنون لحزنهم ، وأنهم منهم وإليهم . ومن الذي لا يرغب أن تتجلى فيه هذه العلامة بالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) ليكون من أهل البيت (عليهم السلام) ومنسوباً إليهم ؟ .
سادساً : ما وردمن الثواب العظيم للباكي على الحسين (عليه السلام) وهو الجنة كما جاء في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) (( من أنشد في جدي الحسين شعراً فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة ويستمر إلى الواحد )) ، ومثله أحاديث أخرى .
أفهل يرضى الواحد منا بأن يفوته مثل هذا الثواب ؟!
وثمة شيءٌ آخر في هذا الحديث : هو أن الحديث يتجلى منه ومن غيره من الأحاديث الواردة عنهم في هذا المجال , أن أهل البيت (عليهم السلام) يدفعون الناس إلى البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) ويحثونهم عليه . أفهل يخالط أحدٌ الشك في أن أهل البيت (عليهم السلام) على الحق فيما يقولون ويفعلون ؟ وهل ترانا بعد هذا نترك ما عليه أهل البيت (عليهم السلام) ونتبع غيرهم فيما يقول ويفعل ؟ كلا وألف كلا .
سابعاً : إنكم تأمرونا بأخذ العِبرَةِ وهل تؤخذ العِبرَةُ إلا من مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) وهل يمكن أن نقيم عطاء الحسين (عليه السلام) إلا بعرض تلك المواقف ، وهي بدورها هل يمكن عرضها إلا بعرض وقائع الطف ، وعرض وقائع الطف هو بدوره سيجرنا إلى البكاء حتماً .
أجل لا يمكن أن نفصل بين العِبْرَة والعَبْرَةِ فيما يتعلق بموقف الحسين (عليه السلام) يوم الطف بل هما متلازمان .
وأخيراً أود أن أطرح تساؤلات ثلاثة :
الأول : أنكم في موقفكم هذا ترون أنفسكم في مقام الناصح الأمين ، فما هي الآثار السيئة التي انعكست على أولئك الذين كانوا يقيمون المآتم ، ويعتمدون البكاء على الحسين (عليه السلام) وأنتم تخشون أن تنعكس علينا فتنصحونا بالتقليل من جانب العاطفة لأجل ذلك ؟ أشيروا إليها لنراها بوضوح .
الثاني : إنكم وأنتم ثلة وشرذمة قليلة , ألا ترون أنفسكم وأنتم تقفون موقف المعارض أمام الملايين من الناس الذين يتشرفون بالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) ويسرُهم أن يسجَلوا في الباكين عليه بما فيهم أهل البيت (عليهم السلام) ؟
أقول : ألا ترون أنفسكم – في قولكم هذا- في موقف شاذ فيخجلكم ذلك ؟ أو أنكم ترون أولئك الذين يقيمون المآتم هم الشاذون في أفكارهم وأفعالهم ؟ أولا يضحك الثكلى لوبدا على لسانكم مثل هذا الإدعاء !!
الثالث : إنكم وقد وقفتم موقف الجاد في اعتراضكم علينا , أقول : هل أخذتم العبرة من الحسين (عليه السلام) وانعكست على سلوككم بنحو بارزٍ ملحوظ ، أم أنكم أضعتم العَبْرة والعِبْرةَ معاً ، وما هو الشاهد على أخذكم العِبرةَ في سلوككم لو ادعيتم ذلك ؟
هذا ما قلناه سابقاً في الرد على ذلك الرجل ، وسنؤكد مجددا ، ونقول بأننا لن نترك إقامة المآتم ولا الحضور فيها ، مهما كثرت الضغوط من هذا ومن ذاك ، ومن أي أحد كان فقد خلقنا الله لها ووظفنا لإقامتها ، وإنا لنعلم علم اليقين أن إقامتها تحقق لنا قضاء حق المودة التي هي أجر الرسالة ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى )الشورى :23.
فإقامتُها أمرٌ لازم علينا ، فقد شب على إقامتها صغيرُنا وشاب عليها كبيرنا بعد أن جرى على إقامتها أسلافنا في السنين الطويلة الماضية ،وورثوها لنا فأنطبعت عليها سجيتنا ، فلن نتخلى عن إقامتها ، فقد صارت إقامتها شعاراً نعرف ونتميز به عمن سواه .
أجل , سنقيمها ونقول بلسان أرواحنا ونفوسنا ولسان قلوبنا ولسان عواطفنا وبكل لسان يعبر عن أداء حق المودة وأداء حق العاطفة لك يا مولاي يا أبا عبدالله ، يا عبرة كل مؤمن ومؤمنه. نعم سنقول :
تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنمــا عينـي لأجــلـك بـاكيـه
تبتـلُ مـنكم كـربلا بـدمٍ ولا تبتـلُ مني بالدُمـوع الجـاريه
أنست رزيتكم رزايانا التي سـلفت وهونت الرَزايـا الآتيه
وفـجائـعُ الأيَام تبقـى مـدةً وتزولُ وهي إلى القيامةِ باقيه
وكيف لا نبك ( وقد اقشعرت لدمائكم أظلة العرش مع أظلة الخلائق وبكتكم السماء والأرض وسكان الجنان والبر والبحر ) كما جاء نص ذلك في زيارة النصف من شعبان الواردة على لسان المعصوم ، والمروية عنه ، وهو لا يخبر إلا بالحق .
(( فلعن الله أمة قتلتك ، ولعن الله أمة ظلمتك ، ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به ، والسلام عليك يا أبا عبدالله ، وعلى جدك وأبيك ، وأمك وأخيك ، وعلى التسعة المعصومين من ذريتك وبنيك ، وعلى المستشهدين معك ورحمة الله وبركاته )) .
بقلم سماحة آية الله السيد محمد علي السيد هاشم العلي
الأول من شهر محرم الحرام
لعام ألف وأربع مائة وثلاثين للهجرة النبوية