كلمة سماحته في  مجموعة الإمام الحسن (ع)

كلمة سماحته في مجموعة الإمام الحسن (ع)

عدد الزوار: 914

2013-10-13

ومن المعلوم أن الدنيا والآخرة إنما أوجدهما الله سبحانه وتعالى كرامة لمحمد وآل محمد (ص) وميزانهما وتقسيمهما منحصر بأهل هذا البيت. ونحن نحمل الحب والولاء الصادق لهم، وما يصدق هذه الدعوى أن كلاً منا انحدر من أبوين على هذا المسلك. يقول الشاعر:

لا عـذب الله أمـي إنـها شربت
حـب الـوصي وغذتنيه في اللبنِ

وكـان لـي والدٌ يهوى أبا حسنٍ

 

فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسنِ

فهذا هو المبدأ وحجر الأساس، والانطلاقة الأولى التي يعيشها الموالي في بواكير أيام حياته. فهناك عوالم يتقلب فيها الإنسان قبل هذا العالم الخارجي، هي في رعاية تامة من محمد وآل محمد (ص). وإذا ما خرجنا إلى عالم الوجود فالمسؤولية على عواتقنا، فنستطيع أن نقدِّم أو نؤخِّر، أو نقترب أو نبتعد بقدر ما نتحرك ضمن حدود مساحة تضيئها الأنوار المحمدية، ويسيطر عليها الحب العلوي، ويرعاها الأنس الفاطمي، ويأخذ بها الهدي الحسني، ويحركها الرمز الحسيني. فلا خوف علينا مهما تقلبت الأوضاع، ومهما تحول الحال، لأن الأساس محمكم متين، ابتدأ بمحمد (ص) ويستمر معه، ليختم في نهاية المطاف بالخلف الباقي من آل محمد (ص).

وقد لا آتي بالمزيد من الإضاءة على شخصية الإمام الحسن (ع) على ما في ذهنياتكم ومكتسباتكم الثقافية والفكرية نتيجة الاستماع لمجالس تربيتم عليها، هي منابر الإمام الحسين (ع)، أو من خلال قراءة تأملتم فيها كثيراً، واختزنتم الكثير من ورائها، أو من خلال تحفة طيبة تبادلتم الآراء على أساس منها،  فترسخ الكثير مما يرتبط بهم (ع). ولكن ينبغي أن نعود إليهم إذا ما سنحت سانحة، لنتزود، لأننا لن نقبل أن نعيش منطقة الاستقراء، لأن الوجود من حولنا في حركة، وعلينا أن نتحرك مع حركته، لنعثر على الحل عند المعضلة، ونستعد لما هو آتٍ ومترقَّب، لأننا لم نُعطَ مفاتيح السر في الحياة، إنما بقيت تلك المفاتيح في حيز السر، ولكن إذا ما طفا على السطح شيء، لا بد أن نكون على أتم الاستعداد لنتعاطى معه بما تمليه ظروف المرحلة وحساسياتها.

من هم أهل البيت (ع)؟

لقد عرّف القرآن الكريم أهل البيت (ع) بلون من التعريف، لا مزيد عليه، ثم جاءت السنة بذلك أيضاً، لا لتزيد على ذلك،  إنما لكشف النقاب عما أسسته السماء من خلال الكتاب الكريم المنزل على قلب النبي محمد (ص).

ومن المعلوم أن الأحوال قد تبدلت في أوساط المسلمين بعد النبي (ص) عما كانت عليه في حياته، أما ما هي الأسباب والعوامل؟ وهل أن الانقلاب والتراجع وتبدل الأحوال جاء مصادفةً أو وليد ساعته، وأن الصدمة بغياب النبي (ص) أفقدت الأمة أبسط المدركات التي يُفتَرض أن تأخذ بيدها لتكون عاصمة لها للحفاظ على ما أسَّسَ النبي؟ أم أن أيادي اليهود تحركت قبل ذلك، وأسست له أساساً، حتى حِيز الأمر من جماعة لجماعة؟ في كل الأحوال كانت النتيجة النهائية أن خلطاً للأوراق قد وقع، أما التساؤلات الأخرى فلا تغير من الواقع شيئاً، وإن كان من حق أيٍّ كان أن يسأل ليتبين الحقيقة.

وما انفك أئمتنا (ع) واحداً بعد الآخر يأخذون بيد أتباع مدرسة أهل البيت (ع)، مدرسة الحق، والمستضعفين من المسلمين الذين لا حول لهم ولا طَول، إلى المنبع الأصيل الثرّ، المفعم بالهدى.

ونحن اليوم نعيش ذكرى ولادة الإمام الحسن (ع) ويجدر بنا أن نستعرض نصوصاً بهذه المناسبة على سبيل العجلة، تبين لنا من هم هؤلاء الكوكبة الذين لم يخلق الله تعالى أرضاً مدحية، ولا سماء مبنية، ولا غير ذلك، إلا لأجلهم. ولو أن البحر مداد، والأشجار أقلام، والأرضين صحف، والملائكة كتبة، ليبينوا كنه وحقيقة هذه الكوكبة النورانية لما اهتدوا إلى النهاية سبيلاً.

لذا أخذ الأئمة الأطهار (ع) بأيدينا لاستكشاف بعض الزوايا والجوانب مما يتعلق بذواتهم، أو بالمحيط الذي بدأ فيه التكوين المادي الأول، أو ما استتبعه من إشراق لكل إمام على حدة، فلكل إمام بطاقة عمل تَحَرَّكَ وفق معطياتها، وهي بطاقة العمل الموكل إليه من يد القدرة.

لذا عندما يحاول بعضنا قراءة بعض المواقف الصادرة عنهم (ع) وهو يندفع على أساس الثقة العمياء بالنفس، أنه أمسك بأصول البحث، واستطاع أن يغربل الحوادث ويفسرها، يجد أن الباب موصداً.

فقد التفت النبي (ص) يوماً لعلي (ع) قائلاً: «يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا»([1]) فالمعرفة الحقيقية لا يمكن أن يتوصل إليها أحد إلا عبر هذا الطريق، الذي كشف أمراً وتحفظ على أمور كثيرة.

وفي حديث آخر: «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»([2]). فهناك إذن دعوة نبوية للولوج إلى مدينة العلم المتمثلة بعلي (ع)، وحراسها الذرية الطاهرة من نسل علي (ع)، فلو أردنا الوصول ما علينا إلا أن نطرق الباب بعد أن نستجيز ممن يقف حارساً عليه. وأحد هؤلاء الحراس هو السبط الأول الذي نعيش ذكراه.

الإمام الحسن (ع) والسلم الأهلي:

لقد واجه الإمام الحسن (ع) الكثير من المصاعب في المدينة المنورة، واتخذت القضايا مسار التعقيد أكثر في الكوفة. لذا لم يجد (ع) بعد الصلح ما يستوجب من أجله البقاء في الكوفة فرجع إلى المدينة، وقد أشرت في خطبة الجمعة اليوم إلى واحدة من أهم الجوانب التي أصّل لها (ع) وما زالت الأمم المتحضرة تبحث عما يساعد على تأسيس ما يمكن أن يؤمّن للإنسان على هذا الكوكب، ما أراد له الإمام الحسن أن يتحقق قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، ألا وهو (السلم الأهلي) فالخلاف العنصري يخلّ بالتوازنات في هذا الجانب، وكذلك الخلاف العقدي والسياسي والعسكري والجغرافي والتاريخي.

وقد تنبه (ع) إلى مكمن الخطر، لأن التركة كانت ثقيلة، فالإمام علي (ع) لم يغادر الدنيا شهيداً إلا بعد ثلاث من المعارك الطاحنة التي كان وقودها من المسلمين، ممن يواليه أو ممن يعارضه، أما كلمة (لا إله إلا الله) فكانت حاضرة، وكذلك الإقرار بالنبي (ص) كما كان الجميع يصلي، حتى في كربلاء، كان كلٌّ من الفريقين يصلي بأصحابه.

وكانت تركة الحروب الثلاث التي خاضها أمير المؤمنين (ع) تتمثل في صراعات فكرية تحولت إلى جدل، وبيوت مليئة بالأيامى والأيتام، وحالة من الفقر، وأخرى من التوثب والاستعداد القبلي الذي يفرض بالدرجة الأولى واقعاً معيناً. وكذلك التركيبة الإيديولوجية في الكوفة لم تكن في وضع مساعد، فكان لا بد له (ع) أن ينزع الفتيل، فعمد إلى (الصلح).

ولم يصدر هذا الموقف عن حالة ضعف، ولو كان صادراً عن هذا لما استطاع أن يُملي على خليفة الشام تلك الشروط الملزمة المقيدة. وليس لأحد أن يقول: إن الإمام الحسن (ع) أُكره أو أجبر على الصلح، فالأمر ليس كذلك، إنما اتخذ قرار الصلح بعد أن كتب إلى معاوية: «لقد دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله»([3]). أي أنه كان على استعداد للمنازلة والقتال، وقد شهدت بنود الصلح بذلك.

وكانت الثمرة الكبيرة المترتبة على الصلح هي أن قواعد وأسس السلم الأهلي بين النسيج الكوفي خصوصاً، والإسلامي في طابعه العام بدأت تؤتي أُكلها وثمارها. وبدأ أتباع مدرسة أهل البيت (ع) أيام الإمام الحسن (ع) يتنفَّسون نوعاً ما بعض فضاء الحرية، وبدأت بعض الروايات تأخذ مسارها بين أوساط المسلمين بعد أن كانت معتّماً عليها أو مصادرة أو محذوفة أو كُمِّمت دونها الأفواه.

كما بدأت حالة من التقارب بين الحجازيين والعراقيين، والحديث في هذا الباب طويل، لا يسعه وقتنا هذا.  

بيان الإمام الحسن لمقامات أهل البيت (ع):

لقد تحرك الإمام الحسن (ع) من خلال إملائه مجموعة من الروايات المبينة لمقامات أهل البيت (ع) مما لا يمكن أن يتحدث به أبوه علي (ع) رغم أنه خليفة المسلمين الظاهر لما يقرب من خمس سنوات.

فمما كان يقوله (ع): «أيها الناس، اعقِلوا عن ربكم: إنّ الله عز وجل ﴿اصْطَفَى آدَمَ وَنُوْحَاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِيْنَ ~ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ([4])، فنحن الذريةُ من آدم، والأسرة من نوح، والصفوة من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، وآلٌ من محمد (ص) فنحن فيكم كالسماء المرفوعة، والأرض المدحوَّة، والشمس الضاحية، وكالشَّجرة الزَّيتونة، لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ التي بورك زيتُها، النبيُّ أصلها، وعليٌّ فَرعها، ونحن واللهِ ثمرة تلك الشجرة، فمن تعلق بغصنٍ من أغصانها نجا، ومن تخلَّف عنها فإلى النار هوى»([5]).

ومن بعض ما كان يقوله أيضاً، أنه وقف ذات يوم خطيباً فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «إنّ الله لم يبعث نبياً إلا اختار له نفساً ورهطاً وبيتاً»([6]).

والبيوت على وجه الأرض كثر، إلا أن البيوت التي أراد الله لها أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه هي بيتٌ في مكة، بيت الله الحرام، وبيتٌ آخر في المدينة، وذلك عندما أُمر أن يغلق الأبواب دون المسجد، إلا بيتاً واحداً، هو بيت علي وفاطمة (ع).

فلما نزل قوله تعالى: ﴿فِيْ بُيُوْتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيْهَا اسْمُهُ﴾([7])، التفت أحد الصحابة إلى النبي (ص) فقال له: يا رسول الله، أي بيوت هذه؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها؟ ـ لبيت علي وفاطمة ـ فقال (ص): نعم، من أفاضلها([8]).

ولنقف هنا وقفة بسيطة فنتساءل: إذا كان هذا البيت من أفاضلها، فهل قصر النبي (ص) طيلة ثلاثة وعشرين عاماً في بيان فضله ومنزلة أهله؟ وهل نتصور أن السماء سكتت وقصرت في بيان فضل أهل البيت (ع) من خلال القرآن الكريم؟ حاشا أن يكون ذلك. فلماذا نرى ما نرى من تقصير في الاعتراف بفضلهم والإذعان لمنزلتهم؟ إن هي إلا حسيكة النفاق، وعدم إظهار ما يخفى.

ثم يقول الإمام الحسن (ع) مضيفاً: «وَالذي بعث محمداً بالحق، لا يَنقص أحدٌ من حقنا إلا نقصه الله من علمه([9])، ولا يكون علينا دولة إلا كانت لنا عاقبة ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِيْنٍ﴾([10])»([11]).

والحديث الثالث الذي أود إيراده هنا، عنه، هو قوله (ع): «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللَّذين خلفهما رسول الله (ص) في أمته، والثاني كتاب الله، فيه تفصيل كلِّ شيء ﴿لاَ يَأْتِيْهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾([12])، فالمُعَوَّلُ علينا في تفسيره، لا نَتَظَنَّى تأويلَه، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾([13])»([14]).   

طاعة أهل البيت (ع) طاعة لله:

والطاعة تعني الانقياد، والسير وفق المنهج والخط الذي اختطه أهل البيت (ع). وأقول اختصاراً: كما أن أهل البيت (ع) سيفتشون عنا في عرصات القيامة، ويخلصون الجميع من إرهاصاتها، بشفاعتهم وكرمهم ولطفهم، فإنهم في الوقت نفسه أبرقوا لنا برقية تعني هذا العالم الذي نعيش فيه، ملخصها ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): «ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد» وهو ما يتماهى مع مشروع الطاعة العملي، بمعنى أن أهل البيت (ع) حيث أرادوا لنا أن نكون فينبغي أن نكون، وحيث حذرونا من مكان ينبغي أن لا نكون فيه، فعلينا أن لا نكون. فهذه المعادلة لو جعلناها نصب أعيننا، وجعلناها (حكمة اليوم) في كل يوم، وسرنا وفق منهاجها، فما عسى أن تكون الحياة؟!

إن الأجهزة الحديثة مثلاً، من نعم الله تعالى علينا، وهي وسائط للوصول إلى أهداف مهمة، فهل أننا نتعاطاها وفق مبدأ الطاعة الذي أراده أهل البيت (ع)؟ بأن لا نستخدمها إلا فيما فيه رضا لله تعالى وتجسيد لطاعة محمد وآل محمد؟

وكذا الحال في مجالسنا ومنتدياتنا ومراكز الالتقاء فيما بيننا، هل أنها تخضع لهذه الضابطة؟

علينا إذن أن لا نمكّن أطفالنا وناشئتنا من الأجهزة المذكورة إلا بعد أن نأخذ بأيديهم لمساحة التثقيف على كيفية التعاطي معها، وإلا فسوف لن نجني من وراء ذلك إلا ما لا تُحمد عقباه، وهو ما لا نرضاه لأنفسنا، فكيف يرضاه لنا أهل البيت (ع).

أسأله تعالى أن يأخذ بأيدي الإخوة الأحبة العاملين على هذا المهرجان الحسني السنوي، وأن يجعل ذلك في ميزان أعمالهم. فمن النعم الكبرى أن يستمر هذا المهرجان سنة بعد سنة في حال من النشاط والقوة والتماسك وعدم التراجع، وهذا لم يأت وليد الصدفة، إنما نتيجة الجهود المبذولة، وما نلحظه اليوم إن هو إلا تجسيد لواقع تلك الجهود، وما قام به أولئك الفتية الطيبون المباركون الذين يعيشون الحب والولاء كما ينبغي.

ولا ننسى الإخوة الذين يتواجدون في المساجد والحسينيات ومجالس الذكر والمهرجانات المربوطة بأهل البيت (ع) فلولا هؤلاء لما نجح مشروع ديني ولا ثقافي ولا عقدي ولا غيرها.

أيها الشباب الطيب: حضوركم في مجالسهم، هو تجسيد للحب الصادق والولاء الثابت والرغبة الجادة في السير وفق نهجهم.

نسأله تعالى أن يجمعنا وإياكم في القادم من الأيام، ونحن وأنتم وعموم المؤمنين في الأرض بحال أحسن مما نحن وهم عليه، وأن يحقن دماء المسلمين التي باتت تراق بأبخس الأثمان، ولصالح جهات لا تستحق أن يراق من أجلها قطرة ماء، فضلاً عن هذه الدماء.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.