قم المقدسة : اللقاء المفتوح مع العلامة السيد محمد رضا السلمان (أبو عدنان ) في حوزة الإمام الخميني(رضوان الله عليه)

قم المقدسة : اللقاء المفتوح مع العلامة السيد محمد رضا السلمان (أبو عدنان ) في حوزة الإمام الخميني(رضوان الله عليه)

عدد الزوار: 1033

2010-05-01

 

كلمة سماحة السيد في حوزة الإمام الخميني في قم بتاريخ... 5 / 1431 هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله وسلّم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ثم اللعن الدائم المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾.

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

 قال تعالى: ﴿واتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾

أقدم شكري أولاً لفضيلة الأخ الشيخ محسن لإتاحته هذه الفرصة، وللإخوة الأحبة في هذه المدرسة، الذين اتسعت صدورهم لأن يستوعبوا هذه المفردة، وأسأل من الله سبحانه وتعالى التوفيق لي ولهم جميعاً.

جاء في الحديث الشريف: «...وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به»، وفي حديث شريف آخر أن الإمام زين العابدين (ع) إذا جاءه طالب علم قال: «مرحباً بوصية رسول الله محمد (ص)، ثم يقول: إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجله على رطبٍ ولا يابس من الأرض إلا سبحت له إلى الأرضين السابعة».

من خلال هذه المقدمة المشرَّفة بحديثهم (ع)، أود الدخول إلى ما هو المؤمَّل أن يكون الحديث عنه، ألا وهو العلم وأهميته، والمعرفة وأهميتها، خصوصاً ونحن في مرحلة تعني النقلة بكل أبعادها، وعندما نقول: إن هنالك نقلة كبيرة تجتاح جميع الأطراف، فعلى العالم، أو من يهيئ نفسه لأن يكون ضمن هذه المنظومة المشرَّفة، أن يكون قد أعد لها من العُدة ما يكفي لتذييل صعابها والتخلص من منعطفاتها.

وفي ظني واعتقادي أن من يغادر الأهل ويستقبل ربوع مدائن العلم التي عُرفت بتاريخها العميق، لا بد وأن يكون قد رتَّب الأوراق وأعدَّ نفسه لتحمّل أصعب ما يمكن أن يعترض طريقه، وهذا هو المؤمَّل في الجميع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا في كل واحد من هذه الوجوه الطيبة، الذين ربما لم يحضر البعض منهم، مشروعاً علمياً معرفياً تغييرياً في وسط الأمة إن شاء الله.

كلنا يعرف أن العلم مهم، وأن المعرفة مهمة، لذلك جندت السماء الكثير من الآيات القرآنية التي تصب في هذا الاتجاه وتُركزّ عليه، بل المفردة الأولى التي جاءت من الوحي لتباشر قلب الحبيب المصطفى محمد (ص)، هي المفتاح لهذا المفهوم المقدّس، ألا وهي: (اقرأ)، وهذا المفتاح المقدس على أساس منه نستطيع أن نلج إلى مدينة العلم وحياض المعرفة، فمن دون القراءة لا نصل إلى نتيجة.

يقول أحدهم في واحدة من اللطائف، التي فيها الكثير من الدروس والعبر: إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أريل شارون (عليه من الله ما يستحق)، قيل له: إن مجموعة من أسرار المفاعل النووي في ديمونة تمّ تسريبها إلى خارج إسرائيل، فسأل: هل تمّ عرضها باللغة العربية، أو بغيرها ؟ فقالوا له: بل سُربت بلغة أخرى، قال وهو يستخف بالإنسان العربي والمجتمع العربي والأمة العربية: حتى وإن كان باللغة العربية! لأن الأمة العربية في هذا الزمن لا تقرأ، وإذا ما قُدِّر لها أن تقرأ فهي لا تفهم، وإذا ما شفع لها الحظ في أن تفهم فهي لا تُطبِّق، وحينئذٍ إذا تمّت لنا واحدة من هذه الثلاث، فمعنى ذلك أن شيئاً من أسرار ديمونة لم يُغادر إسرائيل!

فهل يمكن لهذا الرئيس أن يتفوّه بهذه الكلمات، لولا ما كان بين يديه من معلومات كافية تدل على أن الأمة العربية تنكّبت الطريق الذي وضع القرآن الكريم حجر أساسه الأول على أساس من هذه المفردة (اقرأ). ومن الواضع ؟ إنها السماء، ومن المنفِّذ؟ الرسول الأعظم (ص)، ومن المنتظَر فيه أن يكون قائماً بالدور ليؤمِّن الاستمرارية والتغيير؟ إنها الأمّة المضافة للنبي الأكرم محمد (ص).

وهذا العلم تارة يعني الفرد، وأخرى المجتمع، وثالثة الأمة. وهذا المثلث المهم والخطير والحساس يبتني على هذه الركيزة (الفرد)، فنحن لا نتصور مجتمعاً صالحاً مكتمل الأدوار إلاّ على أساس من صلاح أفراده. وكذلك الحال بالنسبة للأمة، فإنها لا تكمل وترشد إلاّ بناءً على استقرار المجتمع ورشده، وأما الأمة فهي الأمة، والمجتمع هو المجتمع، إنما حجر الأساس لهما هو الفرد، أنا وأنت، وهو وهم، كل فرد من أبناء الأمة يُفترض أن يقوم بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.

كلنا يعلم أن هنالك هدفاً، وأن هنالك ابتداء وانتهاء، وهذه البداية والنهاية لابد وأن تُرشد إليها بوصلة، وعلى الإنسان السالك والباحث عن المعرفة والهداية، وعن الرغبة في الوصول إلى الهدف بناء على مسار التغيير وحركيته، أن يراقب اتجاه البوصلة.

أيها الأحبة: هنالك الكثير ممن انخرط في هذا السلك، لكنه تجرّد بعد فترة منه. ربما استقر بعضهم في حياض الحوزات العلمية، وأكل من الحقوق الشرعية الشيء الكثير، ولكنه لم يُكتب له البقاء والاستمرار؛ لأنه لم يُحدِث تغييراً في النفس، لذلك لم يستطع أن يُحدث تغييراً فيمن حوله، ثم ضاقت عليه الدائرة، ثم عصرته، ثم قذفت به خارج رحم الحوزة.

أيها الأحبة: المسؤولية كبيرة جداً وخطيرة وحساسة، ولا بد من مراقبة البوصلة. فالإنسان يبدأ خاماً طيباً نظيفاً طاهراً نقياً، ليس فيه لوث ولا درن، ولكنه مع شديد الأسف، يعترض طريقه في الخطوات الأولى من يُسبب له انحرافاً، بعد أن تنحرف البوصلة به، والبعض ربما يستقر لسنوات طويلة، وفي نهاية المشوار يُخفق؛ لأن البوصلة أخذته إلى اتجاه آخر، على خلاف ما كان مرسوماً عند البدء، ألا وهو الهدف.

(الصراط المستقيم) هو ما يُفترض أن يقوم الإنسان بجميع أموره على أساس منه؛ لأن الصراط هو عبارة عن خط ممتد، نقطة ابتداء ونقطة انتهاء، فالنقطة الأولى، هي التي نسمي على أساسها باسم الله، لنبدأ مشوارنا، وأما النهاية، فهي كلمة الحمد، إذا ما تمّ لنا استكمال جميع حيثيات الصورة.

إن ما يعيننا على الحفاظ على البوصلة هو واحد من العوامل المهمة، وربما يقف في الطليعة منها، خصوصاً للإخوة الأحبة من الطلبة الذين بدأوا لتوِّهم هذا المشوار.

إن حياض الحوزة العلمية، ليست عالم المثال الخاص، الذي ليس فيه سوى الملائكة، إنما مساحة الحوزات العلمية كغيرها من المساحات الأخرى، وإن كانت هي الأقرب للطهر والنقاء والصفاء، بناء على ما يقوم به أبناؤها، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن في المجتمع الحوزوي من لا يحمل لوناً من المس الشيطاني، مما يتسبب في إرباك الكثير من أوراق المشهد.

1 ـ دور الصديق في صياغة المسار:

فالصديق، هو أول من نضع يدنا في يده، فكل واحد منا عندما يخرج من البلاد يسأل أولاً عمن هو موجود في داخل حوزة قم الكبرى، أو في حوزة النجف الأشرف (شرّفنا الله وإياكم بشرف الوصول إليها)، كلنا نسأل: من هو الشخص الذي نتصل به ونصاحبه هناك، والذي ربما نلتئم معه في مجموعة من الأفكار، ونتفق معه على مجموعة من القضايا، وربما يُذلل لنا مجموعة من الصعاب؟

فعندما نأتي إلى الحوزة العلمية لا نسأل عن المجتهدين والمراجع وأصحاب السَّير والسلوك والتربية والرعاية، وأصحاب العلم والمعرفة، وإنما نسأل: من هو الصديق؟ وهذا حق مشروع في ظني، لكن لا على أساس من انسيابية هذه المفردة، وإنما على أساس من تقييدها بما قيّدها به النبي والأئمة الأطهار (ع).

فالصديق ربما عشناه في البلاد، ولكن الصديق في داخل أروقة الحوزة العلمية يختلف كثيراً.

ورد في بعض االمأثورات: «الصديق مَن صَدَقَك، لا مَن صَدَّقَك».

ومع شديد الأسف نجد أن العلاقة في داخل المجتمع في مسار الصداقة مبنية على أساس (من صَدَّقَك)، ومن يضحك في وجهك، ومن يُحسِّن لك الفعل، وإن كان سيِّئاً، وهذا على خلاف مباني مدرسة أهل البيت (ع)، فالصديق من صَدَقَك، فإن أحسنت، قال لك: أحسنت، وإن أسأت، قال لك: أسأت، وإذا قال لك: أنت على نفس الاتجاه من البوصلة، فأنت على ذلك الاتجاه، وإذا ما انحرفت بك، قال لك: إن البوصلة قد انحرفت عن الهدف.

(الصديق مَن صَدَقَك، لا مَن صَدَّقَك)، وهذا ما نبتلي به كثيراً في حياتنا، أن الكثير من الناس يبني الصداقة لا على أساس من الصِّدق في التعامل، وإنما على أساس من التصديق، وتحسين العمل وإن كان سيئاً.

وإذا كان الصديق في المجتمع عموماً يَدفع ضريبة، ويُكلّف الآخرين ضرائب، فإن الضريبة التي سوف تُدفع على أساس من التصديق، لا الصدق في الصداقة، في داخل الحوزة العلمية سوف تكون أكبر بكثير. لأن الصديق في المجتمع يجر الويل على نفسه وعلى صديقه في أسوأ التقادير، ولكن عندما تكون الأمور متعلقة بالصداقة الحوزوية، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد، وإنما يتجاوز إلى مسافات بعيدة ومَديَات في منتهى البُعد والخطورة.

كثيراً ما كان السيد الإمام (رضوان الله تعالى على روحه المقدسة) يُكرر: إن زلّة العالِم، زلة عالَم.

وهذا هو المستوحى من نصوص أهل البيت، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله: «زلة العالِم تفسد عوالم»، ولعل السيد الإمام انتزع ذلك منه انتزاعاً.

وبالنتيجة، أنت اليوم طالب في بداية الطريق، ولكن مع مرور الأيام ستتغير الأحوال، خصوصاً مع وجود الحالة التقديسية في داخل المجتمع، التي أعتقد أنها تعيش حالة من المماهاة التي لا يُستهان بها. وبالتالي فإن أيّ إنسان يرجع إلى البلاد سوف يكتسب حالة من القدسية، وربما بكلمة واحدة يأخذ السفينة إلى ساحل النجاة، أو يُسهِم في إغراقها، ومن مسؤولياتنا جميعاً أن نصل بتلك السفينة سالمة إلى ساحل النجاة.

2 ـ أثر الأستاذ في التوجيه:

أما العامل الثاني فهو الأستاذ. وهذه واحدة من المعضلات التي نعيشها في داخل الحوزة العلمية، خصوصاً في المراحل الأولى التي يتلقّى فيها الواحد منِّا المعارف على يدي أناس هم من نفس جيله.

وأود هنا أن أذكر مفارقة لا بد من ذكرها والتأكيد عليها:

كنتُ ذات يوم أسير مع أحد فضلاء المنطقة، في هذا الشارع، في اتجاه شارع (دورشهر)، لاستقلال سيارة باتجاه الحرم، فقال لي هذا الفاضل: عند مَن درست المقدمات؟ فذكرتُ له أسماء مجموعة من رجال الدين الكبار المؤثِّرين في الحوزة العربية في قم آنئذٍ، أذكرُ منهم على سبيل المثال لا الحصر: العلامة الحجة السيد صاحب الشادگاني، وهو ممن كان يتأمل فيه المراجع أن يكون مرجعاً في يوم من الأيام، لكنه قَدَّم مسؤولية القيام بالتكليف الشرعي على حساب بقاء حصاد المسمّيات والعناوين، فانصهر في ميدان الجهاد إلى أن وصل إلى ما وصل إليه.

ثم استعرضتُ له بعض الأسماء الأخرى.

ثم قال لي: وفي السطوح، مَن كان على رأس المواد التي درستها؟

فذكرتُ له أسماء مجموعة ممن لهم الريادة اليوم في الحوزتين في النجف وقم.

ثم التفت إليّ هذا الأخ العزيز وسألني هذا السؤال: يا سيد، ولكن يا ترى من يحضر عندنا اليوم؟

قلت له: يحضر عندنا خير كثير إن شاء الله.

قال: أنا أسأل هذا السؤال مقدمة لأقتطف منها نتيجة.

ثم قال: ألا ترى يا سيد أن هذا الجيل ـ وكان هذا الكلام قبل خمسة عشر سنة تقريباً ـ مظلوم؟ فقلت له: وكيف؟ قال: لأن هذا الجيل الذي سيتلقّى السطوح، يُفترض أن يتلقاها على أيدي أناس في مرحلة المقدمات، فالمعادلة فيها شيء من الإرباك، بعبارة أخرى يقول: ما حظينا به نحن، ما عاد لهؤلاء نصيب منه، لأسباب كثيرة.

أقول: إن الأستاذ مهم، ليس فقط في حدود المادة، أيها الأحبة، فشيخنا الشيخ جعفر المبارك (حفظه الله تعالى) يقول: في جانب المادة الدراسية، على الأستاذ عشرة من مئة، وعلى التلميذ تسعين في المئة، أما في جانب السلوك فعلى الأستاذ تسعين في المئة وعلى الطالب عشرة في المئة.

لاحظوا المعادلة كيف تتم، حيث يتحمل الطالب مسؤولية عشرة في المئة من السلوك، وتسعون في المئة يتحملها الأستاذ، وهذه هي مسؤولية التربية، والعكس تماماً في التعليم، لأن الطالب هو الذي يُهيئ ويَحْضر ويتباحث ويختصر المادة، فهذه أربع مسؤوليات مناطة به.

لأحبتنا نقول، خصوصاً الجيل الناشئ منهم: هل هذه العناصر الأربعة متكاملة في مسيرتكم، ليكون بيد الإنسان أن يحكم عليه إيجاباً أو سلباً، فالمسألة ليست أن يُسطر أرقاماً فيها الشيء الكثير من الدرجات العالية، وإنما يفترض أن يكون هنالك تطبيق واقعي في الخارج.

أقول: إن جانب السلوك مهم جداً.

في الزمن السابق كان يعني فيما يعني الأستاذ جانب التربية أكثر من جانب التعليم والتلقين.

اختيار الأستاذ يكون على أساس أنه في يوم من الأيام، سوف يرفع الإنسان به رأسه عالياً شامخاً في جميع المنتديات، عندما يقول فلان أستاذي.

إنني الآن أستحضر اسم الأخ الشيخ جعفر (حفظه الله تعالى)، بعد مرور أكثر من ثمانية وعشرين سنة من الدرس؛ لأنه رجل أجهد نفسه في تربية نفسه، أكثر مما تلقينا على يديه من المادة التي قدَّمها، وإن كان له ريادة فيما كان يُعطي، فعلينا أن نلتفت لهذه الأمانة، وفي يد مَن نضعها؟!

علينا أن ننظر إلى الأستاذ، ليس فقط فيما لديه من السلطنة والسيطرة الكبيرة على إيصال المعلومة، إنما بقدر ما يقدم أيضاً من سلوك وتربية ومحافظة على الإنسان.

3 ـ المسؤول الإداري:

وكذلك الحال في المسؤول، فلم تعد المسؤولية اليوم كما هي عليه في السابق، فنحن اليوم نعيش حالة من التنظيم في حياة الطلبة. وهذا عمل جيد، ولكن الأهم من هذا وذاك: من هو المسؤول؟ وكم يمتلك من العناصر المقومة له في هذا الجانب؟

المسؤول ليس سلطاناً ولا حاكماً ولا رئيساً، وإنما هو بين واحدة من دائرتين: دائرة التشريف، ودائرة التكليف. فالمسؤول يعيش حالة من التشريف لمسمّى المقام، ولكن التكليف هو الأهم. ولا بد أن يطغى جانب التكليف على جانب التشريف، بناء على أساس من هذه المسؤولية التي هي كما تأتيك تذهب عنك؛ لأنها ذهبت عن غيرك وجاءت إليك، وما يثبتها في الوسط العام في ميدان العمل والكفاح، هو تجسيد مبدأ الخدمة للآخرين، أي القيام بالتكليف في إطار المسؤولية المناطة بذلك المسؤول، لذلك ليس من حق أحد أن يفرض أحداً على الآخر، إنما يُفترض أن يسود الموقف الحرية في اختيار من يقود السفينة ويسوسها، لا على أساس من شخصنةٍ وفئوية وحزبية، وغيرها من الأمور التي باتت تلفّ المشهد وتحيط به، فمن تكتمل فيه عناصر الشخص المسؤول الذي باستطاعته أن يصل بسفينتنا وبالقافلة إلى الهدف، هو الذي يُفترض أن يتسنّم هذا الموقع.

ويفترض أن يكون لطالب العلم، ولكل شخص في دائرة ذلك المسؤول، حق المساهمة في القرار، ولكن لا يعني هذا بالضرورة استخدام مطلق الوسائل، وإنما يُفترض أن تكون الوسائل المستخدمة ضمن دائرة الضبط الشرعي، والضبط الاجتماعي أيضاً، وكذلك التربية التي يفترض أن يتربى عليها الإنسان الذي اصطُفي وجيء به إلى هذه الحوزة العلمية ليزرع نفسه عنصراً من عناصرها.

4 ـ  القدوة:

وهو جانب مهم في داخل الحوزة العلمية.

ففي الزمن السابق كانت دروس الأخلاق لها دويّها في هذه المدينة المشرَّفة.

وعلى ما أتذكر، كان آية الله الشيخ حسين المظاهري، وهو الآن ممثل الولي الفقيه في إصفهان، يُدرِّس الأخلاق في مسجد الإمام الرضا (ع) في گذرخان، وكان يحضر في درسه أكثر من أربعة آلاف شخص، وكان لا يُترك مجال لسيارته أن تلامس الأرض بعد أن يفرغ من الدرس إلاّ بعد أن تكون على مشارف الشارع العام، فكانوا يحملونها على أكتافهم كما تُحمل الجنازة، فرحاً به، والتفافاً حوله، فكان مشهداً عجيباً غريباً، وكان ذلك في الأسبوع ليلة واحدة، هي ليلة الخميس، وكان يحضر في ذلك المحفل، حتى من لا يفقه من اللغة الفارسية شيئاً، حيث يستطيع أن يهتدي بإشراقة وجهه (حفظه الله تعالى).

وكان الشيخ النوري المحمدي في الحجتية، وكان الطلبة يُغادرون المدرسة كما يغادر الإنسان في سبيل تحصيل ثواب صلاة الجماعة أو الجمعة، من أجل الاستفادة، فكان يدرّس منية المريد، وكان يحضر في محضره الشريف فضلاء الحوزة العلمية، ممن لهم اليوم القرار في الكثير من المساحات في داخل البلاد، وكان الشيخ النوري المحمدي يفرغ عليهم الكثير.

وكذلك كان آية الله المرحوم المشكيني، فهو صاحب مدرسة أخلاقية كبيرة، وكان يلقي دروسه في المسجد الأعظم، وكان له دور كبير في هذا المجال.

وهنالك أيضاً دروس أخلاقية مختصرة، ربما تكون دائرتها أضيق من هذه الدوائر.

أما اليوم فالأمور في حالة من التراجع الذي لا نعلم ما هو السبب الذي يقف وراءه؟!

بل الأكثر من ذلك، أنه حتى في داخل الحوزة العلمية عندما أطلق السيد الإمام دعوته الصريحة والواضحة في أن يكون خاتمة الدرس في يوم الأربعاء، الكلمة الأخلاقية والتوجيهية، ما كان يتخلّف عن هذه القضية أحد من الأساتذة ممن شرب حب الإمام (رض). فكان الكلّ يُحضِّر الرواية ويجعل منها مادة متمّمة لذلك الدرس، وخاتمة لمعطيات ذلك الأسبوع، وكان الكل يتأثر. فالرواية حتى لو لم تحظ بشرح كاف، فإن مجرد وصول النص عن المعصوم من آل بيت محمد، كفيلاً بأن يجري عملية الغسيل.

كريمة أهل البيت:

إننا في مدينة قم، فما هي قم ؟ وماذا تعني؟

إنها (عش آل محمد) كما في الروايات الشريفة.

وهذا التعبير يعني الشيء الكثير، ولو أردتُ أن أستغرق في هذه المفردة وفكّ رموزها ومعطياتها، لاستغرق ذلك منا الوقت الكثير.

مدينة قم مشرَّفة بهذه السيدة الجليلة، والبعض منا، رغم أن له الشرف في وجوده في هذه المدينة بسببها، ولها الفضل الكبير عليه في ذلك، إلا أنه يعيش حالة من القطيعة معها. وبعضهم لا يرى في زيارة السيدة المعصومة إلاّ عابر سبيل، والأكثر من ذلك أن بعضهم يدخل إلى السيدة المعصومة على غير طُهر.

السيد الإمام (رض) هو خير من يُقدِّم لنا هذه السيدة الجليلة على حداثة سنها، ولكن ما جاء فيها من النصوص يُدلل على عظمتها. فعندما جاء يحمل راية الانتصار خفّاقة في يمينه المباركة، أول عمل قام به هو تكريم الشهداء في جنة الزهراء، وثاني عمل هو السجود لله شكراً، ولثم عتبات هذه السيدة الطاهرة، كريمة آل محمد.

الإمام القدوة، الإمام الفاتح الفقيه، الإمام المربي، الإمام المُحدِث لحركة التغيير في القرن العشرين، يتصاغر أمام هذه السيدة الجليلة، فماذا يعني هذا المشهد؟

أدعوكم أيها الإخوة إذا رجعتم إلى بيوتكم أن تحاولوا قراءة هذه القضية والتأمل فيها، وهي خضوع هذا الجبل والطود الأشمّ أمام السيدة الطاهرة، وانصهاره وذوبانه في نورها، فماذا يعني ذلك ؟

إنني أستطيع أن أقسم يميناً، أنه إذا كان لديّ شيء من علم أو أدب أو توفيق في ميدان من ميادين الحياة، فالفضل الأول والأخير يرجع إلى هذه السيدة الجليلة. فما نزلت بي نازلة إلاّ ولذتُ بها، فذلَّلَتْ لي الشيء الكثير.

فعلينا أيها الأحبّة أن نشدّد العلاقة مع هذه السيدة الجليلة، ولا ينبغي أن نتعامل معها على أساس من عابر سبيل، أو مع قبر من سائر القبور.

كل المراجع الذين لاذوا بقبرها، وتنقّلوا في أحياء هذه المدينة، يدينون لها بالفضل، من الشيخ المؤسس، الشيخ عبد الكريم الحائري (رض)، إلى يومنا هذا.

ومن المؤسف حقاً أن يريد المؤمن الذهاب لزيارة هذه السيدة الجليلة، أو الصلاة في مرقدها في أوقات الصلاة، فلا يجد من يدله على الطريق من أبناء هذه الجالية.

طلبتنا بين الماضي والحاضر:

كيف كانت قم في الماضي؟

في الأيام التي عشناها هنا،كان مجموع الطلبة 35 طالب علم من الأحسائيين، مع حوالي ضعف هذا العدد من الإخوة القطيفيين، ثم جرت أحداث فتقلّص عدد القطيفيين إلى ما لا يتجاوز عدد أصابع اليدين في أحسن التقادير.

وقد كان بينهم انسجام طيب وتقارب وتفاهم ومحبة، كان أحدهم يحمل العبء عن الآخر. كما كانت هناك جلسة أسبوعية يجتمع فيها الجميع، فلم يكن مبدأ الكبير والصغير سيد الموقف، ولم يكن هناك تشقيق في المجتمع على أساس مصطلحات لم ينزل الله بها من سلطان. نعم، كانت هنالك مشارب فكرية وأذواق، وكان يحصل في بعض الأحيان صراع فكري فيما بينهم، في ندوة مدرسة الإمام المهدي، ولكن عندما يؤذِّن المؤذِّن، ويتقدم أيٌّ كان من تلك المجموعة، كان الجميع ينخرطون في الصلاة والائتمام به.

فبالرغم من وجود التنافر والتقاطع الفكري أحياناً، وربما كان هناك صراع فكري في أحيان أخرى، ولكن ليس على أساس من الثوابت والقيم والمبادئ الأخلاقية، صحيح أنني لا أتفق معك في الرأي، ولكن كما أرغب أن أُحترم في فكري ورأيي، يُفترض أن أترك مساحة لاحترام رأيك وفكرك.

كان هذا هو المبدأ السائد، وكانت لأيام الحرب بركة كبيرة على كل من كان في هذه المدينة، كما قال السيد الإمام (رض): إنها نعمة من نعم الله عليه.

حقاً إنها كانت نعمة محسوسة وملموسة حتى على مستوى الشارع، فقد كان الشارع عبادياً في كثير من أبعاده، ففي ليلة الجمعة لا تسمع إلاّ دعاء كميل من المساجد والبيوت، وكانت الهيئات تقام في كثير من البيوت، وكنا نسمع دعاء كميل في الليل، ودعاء الندبة في الصباح، وفي ليلة الأربعاء نسمع دعاء التوسل، وكانت المظاهر المادية التي من شأنها أن تجر الناس إلى الدنيا أكثر، تُعطّل وتُحجَّم. وهكذا نُقلت النجف بكل حيثياتها إلى قم في السنوات العشر الأولى من الثورة. هكذا كان الوضع في تلك المرحلة.

وقد كان هنالك صعوبات معيشية كبيرة، وظرف مادي قاهر لدى الكثير من الطلبة، إذا ما استثنينا ما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فالجميع كان يعيش حالة من الضعف والفقر والحاجة، لكن روح الحميمية بين الجميع كانت تُذلل الصعاب.

وهكذا في فقدان الجانب الأمني في تلك الفترة، فقد كان الجانب الأمني عامل ضغط كبير، فالحرب من جهة، وما ينتظر طالب العلم عند العودة إلى البلد من جهة أخرى، كما كانت لوعة الفراق، تشكل عامل ضاغط كبير. وكذا الحال في جواز السفر والإقامة وما إلى ذلك من التعقيدات. وفي هذه المساحة البرزخية يتحرك طالب العلم في تلك المرحلة، لكنه كان يجعل من هذه الحالة البرزخية عاملاً مساعداً في استشعار المسؤولية المناطة به، فما كان يضيِّع شيئاً من وقته.

وما نجده اليوم من الفضلاء في داخل المجتمع، ممن تبوؤوا مقاماً معيناً، كان بفضل تلك الحقبة من الزمن، التي أثمرت الشيء الكثير من الخير.

لقد كانت عملية الاتصال بالأهل مثلاً من أصعب الأمور وأكثرها تعقيداً، بخلاف ما هي عليه اليوم، حيث يستطيع المرء في أي لحظة أن يتصل بأهله من خلال الهاتف الجوال، حتى أن البعض يتصل بأهله كل يوم، والبعض الآخر لا يكاد يمر شهر أو شهران إلا ويذهب إلى أهله، أو يأتي إليه أهله، بل إن بعض من نلتقي به منهم، لا ندري هل نودعه أو نستقبله، لأنه يتنقل ذهاباً وإياباً في فترات وجيزة متقاربة.

لقد كانت المكالمة التلفونية مع البلد تجري كل ستة أشهر مرة، ولم يكن بمقدورنا الاتصال من قم، بل من طهران، في ساحة (توب خانه)، أو (ميدان إمام) حالياً، فكنا نستقل سيارة من قم صباحاً، ونزور شاه عبد العظيم، ثم نتوجه إلى (ميدان إمام)، ونعطيهم الهوية الشخصية، ونسجل أسماءنا الساعة الواحدة ظهراً، وننتظر حتى الساعة السابعة ليلاً، ونحن لا ندري في أي لحظة تأتينا المكالمة، وهكذا نبقى متوتري الأعصاب، مشغولي البال كي لا تفوتنا المكالمة، وفي تلك الساعات الست من الانتظار، لو حدثت غارة جوية، وقُطعت الكهرباء، فمعنى ذلك انقطاع الاتصالات، وتعطيل كل شيء، وبالتالي يعود كل منا أدراجه ولم يتصل بأهله، وعليه الانتظار لستة أشهر أخرى!.

أما في حال حصول المكالمة، فربما يحصل القطع، من قبل المتصل أو من قبل أهله، بسبب رداءة الخط، فينتهي الاستحقاق في الاتصال، ولا يحق للمتصل التسجيل مرة ثانية.

لاحظوا ذلك الوضع السابق، وقارنوه مع نعمة اليوم!

انظروا إلى الغاز، هذه النعمة الكبيرة، التي لا يكاد يشعر بها أحد، فقد كنا نحمل اسطوانات الغاز من نهاية شارع (صدوق)، حيث كنت أسكن في أول الشارع أنا وابن عمي السيد علي الناصر، وهو أخو السيد عدنان الناصر، فنحمل الاسطوانة أنا من طرف وهو من الطرف الآخر، في عِزِّ الثلج، ونمشي بها إلى آخر (جبشور) ولم يكن هناك إلا محل واحد للتوزيع، طبقاً لحصة مقررة ومقننة. 

وهكذا في تحصيل الدواء، فإذا ما ابتلي أحدنا بمرض فيه شيء من التعقيد، فعليه الذهاب إلى طهران إلى صيدلية (سيزده آبان) أو (باسداران)، لينتظر أربع ساعات أو خمساً حتى يأتي دوره، وهكذا يخرج من قم صباحاً ليرجع في المغرب.

لذا يفترض من طالب العلم اليوم أن يقطع مسافات، وأن يحقق إنجازات، أكثر مما كان يقوم به طالب العلم في السابق؛ لأن الظروف مُهيئة، ولكن ربما هناك شيء من المفارقة، ففي الزمن السابق كان قبول النصيحة من الغير مفتوح على مصراعيه، أما اليوم فقد لا يستطيع أحد الفضلاء توجيه النصيحة إلى طالب علم انتسب حديثاً للدراسة، وقدم توَّاً من البلد، لأنه مُنح كلمة (شيخ) فصدّق ذلك، ومشكلتنا في داخل الحوزة أننا نرتب الآثار على العناوين، والعناوين عندنا سهلة ميسرة، خصوصاً في هذا الزمن.

أتذكر إحدى اللطائف مع أحد الإخوان من السادة، فقد أراد ذلك السيد أن يترك طلب العلم، فقلت له: لماذا تترك طلب العلم ومستقبلك جيد، والبلد في أمس الحاجة إليك، ويمكنك أن تخدم في يوم من الأيام؟

فهل تعلمون ماذا قال؟ قال: أنا لستُ بشيخ، فلا أخسر شيئاً، لأن الشيخ إذا خرج من قم رفعت منه (الشيخية) أما أنا فسيّد، والسيادة ثابتة لي، سواء كنتُ في الحوزة أم لا.

أيها الأحبة: صحيح أن (الشيخ) وسام شرف، لكنها مسؤولية، ولا يعني أن الإنسان عندما يقطع مرحلة من التعليم، وتصبح لديه حصيلة طيبة، فهذه هي البُلغة والنهاية، فما الفائدة أن تكون عند الإنسان حصيلة علمية، لكن أخلاقه في أسفل سافلين، واحترام الآخرين في أدنى درك، وعدم الشعور بالمسؤولية من أوضح الواضحات؟ ما فائدة ذلك العلم؟ وما الذي تستفيده الأمة من حوله، إذا لم تحدث توأمية عندنا بين علم يتكامل فيه، وسمو أخلاق؟!

شيخنا المكارم الشيرازي (حفظه الله)، يقول: لو راقب الواحد مِنّا لسانه، لأراح واستراح، ويستطرد قائلاً: ما ينوف على ثمانين كبيرة مفتاحها اللسان، ثم يذكر لنا قضية عن أحد التّجار، انقلب في آخر المطاف إلى أحد السالكين، كان لديه دكان في (بازار) مشهد، فخرج يوماً من الأيام إلى البازار، فرأى ناراً مشتعلة في داخل البازار، فأصيب بالذعر، لا على الحريق في البازار، بل على أن لا يكون الحريق في دكانه، فرأى دكانه سالماً، فاطمأن وقال: الحمد لله دكاننا سالم.

ثم رجع إلى بيته بعد أن خلّفت النار وراءها دماراً كبيراً في ذلك السوق، وتسببت في إرباك الكثير من وضع التجار، فجلس يؤنّب نفسه ويلومها على ذلك، وكان يقول: كأنني لم أرتكب غير هذه الخطيئة، وهي أنني حمدتُ الله على سلامة المكان، ولم ألتفت إلى ما كان يجري من حولي، وهكذا أمضى ثلاثين سنة يستغفر الله سبحانه وتعالى من الحمد الذي لم يقع في موضعه!!

فلنلاحظ اليوم ماذا يحصل عندنا، وأنا قد ابتدأت بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾، فالتقوى هي المقدمة، لا أننا نتعلم أولاً، ثم نتقي فيما بعد، بل علينا بالاتقاء أولاً ليفاض علينا العلم. فالعلم نور، يقذفه الله في قلوب الخاصة من عباده، وفي الحديث: «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء».

دخل أحدهم على صاحب الميزان (قدس سره) فقال له: سيدنا، سمعتُ منك أن من أخلص لله أربعين صباحاً، قذف الله نور الحكمة في قلبه، ولكني أخلصت لله أربعين صباحاً، وهذبت نفسي، ولكن لم أرَ شيئاً من ذلك.

فقال له السيد الطباطبائي: إنك لم تلتفت إلى عنصر الإخلاص المغيَّب.

قال: أنا مُخلِص لله، أصلي في غرفة لوحدي، فلا أحد يطلع عليّ، ولا أحد يدري ماذا أقرأ من أوراد!.

فقال له: ما تقوله من كلام إنما هو تمرد على حالة الإخلاص، وكشف لها.

فعلينا أيها الأخوة أن نلتفت إلى أن المسؤولية كبيرة، وأن من ينتظركم كثيرون، فعلينا أن نُقدّم لهم زاداً يتناسب مع الفترة التي نقضّيها في هذه المدينة الشريفة المشرَّفة بمحمد وآل محمد (ص).

والحمد لله رب العالمين.