سماحة الشيخ عبد الله بن المقدس الشيخ محسن الخليفة

سماحة الشيخ عبد الله بن المقدس الشيخ محسن الخليفة

عدد الزوار: 3680

2009-12-02

ولعلِّي أدلف قليلاً وأدَّعي ما هو باقٍ في دائرة المدَّعى والذي أرجو أن يكون له مصداقه الخارجي، ألا وهو روح الامتزاج من واقعية المنظومة الكبرى.

إنَّ يداً من وراء الغيب هي التي تنسج كل هذه المتقاطعات، وهي التي تفرغ عليها من جلال القدرة ما يؤمِّن لها ديمومة بقاءٍ وروح عطاءٍ مستمر.

وشخصيتنا هذه هي من أكثر الشخصيات تقاطعاً مع مكوناتها، سواءً كان ذلك على الصعيد الإحداثي أو الحدوثي. وهي فيما بينهما مظهر تفرُّدٍ له خصوصياته.

فالشيخ عبد الله الخليفة استطاع أن يرسم له حضوراً ثابتاً في وسط النخبة من أهل الفضل والفضيلة، وليد ما كان مفطوراً عليه من ذكاءٍ جيِّدٍ، وحافظةٍ فعَّالةٍ، ونفسيَّةٍ خلاَّقةٍ، ورغبةٍ أكيدةٍ صيَّر من نثارها المتزاحم معالم شخصيَّته كما شاء لها وشاءته الظروف الخاصَّة والعامَّة من حوله.

وُلد في الأحساء من أبوين كريمين وسط أجواء أسرة كريمة. أبوه علاَّمةٌ جليلٌ صلب الإيمان شديدٌ في ذات الله. عُرف عنه صراحة اللهجة وصلابة الموقف والتجرُّد عن مساحة المحسوبيَّات، مع علمٍ يتماشى وخصوصية تلك المرحلة. لذلك لا غرابة في أن يرسم أمام وليده صورة معالم رجل دينٍ مقدَّس.

لهذا وذاك درج سماحته متقلِّباً على يدي والد وهو بعد لم يغادر مراحل عقده الأول، حافظاً للقرآن وممسكاً ببعض أسباب المعرفة كالقراءة والحساب. وما كادت أعوام العقد الثاني من عمره الشريف تتصرَّم إلا وهو يخطو أولى خطوات الغربة من أجل التزوُّد بأنوار العلم من منابعها الثرَّة. فكان له ما تمنَّاه، حيث كانت النجف الأشرف يومها تعجُّ بأركان العلوم والمعارف الدينية.

وشاءت الأقدار أن يكون متزامناً معه في رحلة طلب العلم ابن عمِّه العلاَّمة الكبير الشيخ حسين الخليفة ليسهِّل عليه الكثير مما قد يعترض مسيرة الطالب الجديد على حياة الغربة.

ومن خلال ذلك استطاع أن يتهجَّى مفردات المجتمع الجديد ويمسك بأسباب التعاطي معه وراح يرسم معالم حركته العلمية كيف شاء لها، وما هي إلا فترةٌ وجيزةٌ وإذا به يلفت أنظار الأعلام في الحوزة النجفيَّة ويتصدَّى للتدريس بين أبناء جاليته. وهكذا كان له والتفَّ حوله جمعٌ من طلبة العلوم الدينيَّة وأخذ يفرغ عليهم من نمير عطائه المتجدِّد وعذب فُراته الصَّافي. وهكذا واصل مسيرته يقطِّع أيَّام الغربة بين محصِّلٍ يحضر ويناقش أرباب بحوث الخارج، وبين أستاذٍ يربِّي من حوله جيل المستقبل.

وعندما تسأل عنه ذوي الاختصاص لا يكاد يختلف اثنان على أنَّه العالم النِّحرير الذي بلغ من الحصيلة العلميَّة ما يؤهِّله لأن يكون رجل السَّاحة دون منازعٍ لو أنَّ المقياس كان يُحصر بالبعد العلمي.

غير أنَّ الأمر على الخلاف من ذلك، فالعلم أحد أهمِّ الأسلحة الماضية التي لها دورها الفاعل وبكلِّ قوَّةٍ واقتدارٍ، غير أنَّ ذلك يبقى في حدود حركته ومساحته التي يمكن أن يتحرَّك من خلالها وهي ليست بالضرورة المساحة الأكبر. حيث أن المساحة الكاملة تتشاطرها الكثير من العوامل والأسباب، وليس بمقدور أحدٍ أن يقلِّل من أهميَّتها. وحيث أنَّ البعض بمقدور الإنسان أن يعدَّ له عدةً، غير أن البعض منها خارجٌ عن الإرادة والقدرة الفرديَّة والنَّاس فيما هم فيه مختلفون، وليد ما هم عليه من طباعٍ مختلفةٍ، وطاقاتٍ متفاوتةٍ، ورغباتٍ متنوِّعةٍ لا يجمعها جامع. غير أنَّها تبقى قوة الدَّفع والحراك نحو كلِّ ما هو متاح. وبظنِّي أنَّ شخصيَّتنا هذه كانت ضحيَّةً مجموعةً من العوامل الطارئة التي لا دخل له بها. من هنا نجد أنَّه لم يأخذ دوره كما ينبغي، أو كما تمَّ ذلك لغيره ممَّن لا يفوقونه علماً ولا يتقدَّمون عليه استعداداً. ويبقى لله في خلقه شؤونٌ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.

وعندما حطَّ رحله في أبناء مجتمعه أيضاً عاكسه اتِّجاه الريح، حيث سارت الرِّياح بما لا تشتهي السُّفن. حيث ما إن وصلها إلاَّ وقد غادر الدُّنيا من كان بمقدوره أن يوطِّئ له الأرضيَّة ويهيِّئ له أسباب الوقوف بل المضيَّ قُدماً نحو أيامٍ أكثر إشراقا.

وبهذا يكون من اللازم واللازم جداً البحث عن موطئ قدمٍ على أساسٍ من وضع القواعد وشدِّ الجسور، لكنَّ جميع ذلك لم يأتِ بجديد، خلا بعض إضاءاتٍ هنا وهناك وعلى فتراتٍ متباعدةٍ لم يكتب لها أن تشكِّل حلقةً متواصلةً ليترتَّب عليها الكثير من دوران حركة السَّاحة من حوله.

وكم تستوقفني بعض المواقف والمحطَّات في حياته الكريمة، منها:

موقفه من مسألة الأعلمية، حيث لم يكن في يومٍ من الأيَّام يرضى لنفسه أن يكون ظلاًّ للآخرين وهو صاحب الخبرة الكافية في التَّشخيص.

وخير دليلٍ على ذلك رأيه في أعلميَّة السيِّد مهدي الشِّيرازي، وكذلك السيِّد الشهروديُّ الكبير. الأوَّل أمام مرجعية السيد الإمام الحكيم، والثاني أمام مرجعية السيِّد الخوئي. وقد كان صريحاً وواضحاً في موقفه.

وبظنِّي إنها القشَّة التي قصمت ظهر البعير كما يُقال في المثل العربي، وكم له من نظائر دفعوا ضريبة الموقف والكلمة المسؤولة. لكنَّ الصَّنائع تبقى محفوظةً عند من صُنعت له في يومٍ لا يضلُّ ربِّي ولا ينسى.

وأما حضوره العلمي، فإنَّه وإن كان لم يترك ما يدلِّل عليه من كتابٍ مؤلَّفٍ أو تقريرٍ مطبوعٍ، لكنَّ مجالس البحث والنِّقاش التي كانت تجمع كبار القوم في يومٍ من الأيام، تشهد بعلوِّ كعبه ووفير علمع ودقَّة نظره الشَّريف.

وذاكرة البعض من المعاصرين بعدُ لم تُفلتر من جميل موقفٍ كان حاضراً فيه. والحديث يأخذ المسافات البعيدة ثمَّ ما يلبث أن يحطَّ رحله بين يديه ليتعاطى معه بحرفيَّة الماهر الخبير.

إنَّه ليكبر في عينك عند التحدُّث معه، يستهويك لطيف طبعه، وبشاشة وجهه، وصفاء نفسه. يحمل بين جنباته الكثير من الأسرار والحوادث، لكنَّه ينطوي عليها حتى لا يخلًّ بالكثير من ثوابت المجتمع التي صنعتها يد المهرة من صنَّاع الموقف بناءً على الكثير من الاعتبارات التي ما كانت لتكون لولا بعض العوامل الخاصَّة، من موروثٍ مشوَّهٍ، إو إحداثٍ مفلسفٍ، وتبقى النتيجة، ضياع الكثير من الأشياء التي كان من المفترض أن تكون لها من الشأنية ما تستحق. وليت الأمر يبقى عند هذا الحد، بل تجد أنَّ المسيرة ما زالت على نفس الطريقة التي ألفتها.

"أنا وأنت وباقي الناس في النار"

 وعندما شُكِّل مجلس العلماء، ما كان بمقدور أهل الفضل والسَّماحة أن يتجاهلوا الرَّجل العَلَم المسبق بما كان يتمتَّع به من اقتدارٍ علميٍّ كبيرٍ وإن تنكَّر له البعض في بعض المساحات الأخرى.

ودارت رحى حركة ذلك المجلس وكان له في جلساته الصَّدى المدوِّي والقامة الشَّاخصة والوقفة الصَّلبة، لكنَّ الأيَّام لم تمهل المشروع طويلاً من عطائها، وإذا بالمجلس ينحلُّ ولا تسأل عمَّا هو السبب وراء ذلك، فلربَّما استوجب الجواب الكثير من علامات الاستفهام والاستدراك العريضة.  وعوداً على بدئٍ، والعلاَّمة يراوح مكانه يجد أنَّ الايَّام من حياته باتت تنسج خيوطها وتلقي بظلِّها الثَّقيل والمشبع برائحة الألم والتَّعب، وبات للمرض الثَّقيل فرصته المتاحة من جسده المنهك بثقل السِّنين وقساوة الحياة ومرارة المجتمع من حوله في بعده الخاص والعام.

وتشتد به العلَّة ويتقدَّم به العمر وينفض يده من كلِّ شيءٍ حوله إلا رحمةٍ واسعةٍ يرجوها. وتفارق روحه الطيِّبة جسده النَّحيل اتترسَّم على محيَّاه الكريم ابتسامة عارفٍ بمنازل الصَّابرين حيث الإيمان الصَّادق والأخلاق الفاضلة والصحبة الطيِّبة.

وهنا لا بدَّ من همسة:

ألم يكن هذا الفقيد من الذين عاصرهم جيل الأمس وعايشهم أبناء الكهولة الحاضرة؟؟ إذن أليس من الحقِّ المشروع أن نسأل من أنفسنا ما هو السَّبب الكامن وراء كلِّ هذا التَّجاهل حتَّى من أقرب الخاصَّة، ولو كان من أبناء مجتمعٍ آخر لكان له من التكريم الشيء الكثير؟؟.

ولا أدري ما عسى أن تكون الإجابة لو جاز السُّؤال.

قطعت بصبـرك هـذه iiالحيـاة
حــــق لـمـثـلـك أن iiيـخـلــدا
رسمت طريق الصّفاء لتبقى
تـمـد الحـيـاة بنـهـج iiالـهـدى
صريح المواقف عند iiالنقـاش
لـهـذا وذاك عـبـرت iiالـمــدى
ورحـت تحـلـل وضــع iiالـبـلاد
وترسـمُ فجـراً لـمـن iiأنـشـدا
بهـرت الجمـيـع بـثِّـر iiالعـلـوم
ورحـت بعـيـداً تُخـيـف iiالـعـدا
ولّمـا دعـاك رسـول iiالسمـاء
أحبـت سريعـاً شريـف iiالـنـدا
رحلـت وخلّفـت أهـل iiالـبـلاد
تُـــردد نـعـيـاً يُـثـيـر iiالــصــدا
وطـوَّف حولـك أهــل الــوِداد
كـأنــك ذاك الــــذي iiأنــجــدا
حـريٌّ بمثـلـك يـابـن iiالـكـرام
حـيــاة الـكــرام لـمــن iiأوردا
لذلـك غـبـت عــن العالمـيـن
لتحيـى الحيـاة وكـي iiتُخـلـدا

 

 

في مقبرة الشعبة عام 1406هـ على مقربةٍ من مرقد والده المقدَّس الشيخ محسن الخليفة أُودع جسده الثَّرى بعد مراسم تشييعٍ لا تتناسب مع شخصيةٍ علميَّةٍ لها من الثِّقل العلمي ما لها. وإذا كان ثمَّت عزاءٌ في ذلك فهو ما جرى على من هم سادة الوجود الذين قدَّموا كل ما بأيديهم لكنَّ الأمَّة اختارت لها طريقاً آخر أبعد ما يكون من ساحة قدسهم الطَّاهر، منهم من يبقى على الثَّرى ثلاثاً، ومنهم من شُيِّعت تحت ستار اللَّيل الدَّامس، ومنهم من يبقى على سطح داره ممدَّدا. لكنَّ ذلك ما كان ليكون لولا ... ؟؟؟