اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
الحث على رعاية اليتيم:
في الحديث الشريف عن المولى علي (ع) عن النبي الأعظم محمد (ص) قال: «من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار»([2]).
وفي حديث آخر عنهم (ع) : «من رعى الأيتام رُعي في بنيه»([3]).
ومن كلام للإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: «وتعهد أهل اليُتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه»([4]).
اليتيم هو من فقد أباه دون بلوغه، ويستمر اليتم حتى البلوغ، فليس بعده يُتم.
وقد حظي اليتيم بعناية خاصة من قبل السماء، وهناك مواطن في القرآن الكريم تربو على عشرين موطناً ذُكر بها اليتيم، والروايات في هذا الباب كثيرة جداً اعتنى بها الباحثون كلٌّ من الزاوية التي تعنيه.
وقد اقترب المفسرون من تلك الموارد من خلال ما يساعدهم على بيان الظاهر من النص في معظم ما تطرقوا إليه. أما المتخصصون في الشريعة وفنونها فقد تعاملوا مع هذه النصوص وفق مرئياتهم، والمدارس التي بنوا حدود معارفهم على أساسها، وهي متنوعة في عطاءاتها، مما يولد انعكاساً خاصاً على أتباع هذه المدرسة أو تلك.
إن المحافظة على اليتيم تتجسد في أكثر من جانب وجانب، وقد سار الإسلام بهذه المفردة من أجل الحفاظ على حقوق اليتيم الذي لا ولي له، ولا حاضنة قريبة منه، إلى أبعد المسافات التي يمكن أن يأخذها إليه، حال أن الإسلام في بدء أيامه كان يعاني كثيراً من قلة الموارد مع غياب واضح للرجال بسبب الحروب، إلا أن الأيتام لم يعيشوا ضياعاً، بل كانت عين النبي الأعظم محمد (ص) ترعاهم.
والنصوص في هذا الباب على ضربين: ضربٌ محبِّبٌ مُقرِّب، وضربٌ مُبعِّد مُنفِّر، فإذا كان الاقتراب مبنياً على الإيجاب فهو من النوع الأول، وإلا فينطبق عليه ما جاء من النصوص من النوع الثاني، لذا فإن الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت لهؤلاء أصحاب الفرقة الأولى، وعلى العكس من ذلك فقد سجرت النيران للجماعة الأخرى.
حفظ مال اليتيم:
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوْا مَالَ اليَتِيْمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيّ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوْا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُوْلَاً﴾([5]). وفي الكثير من الأحايين، لا سيما في الأزمنة المتأخرة، يموت الإنسان فيخلّف وراءه ثروة يُعتدُّ بها، مع مجموعة من الأولاد، بنين وبنات، إلا أنهم في حالة من القصور، وفي هذا الزمن ازداد المشهد تعقيداً وتكثرت مفرداته خارجاً، جراء الحوادث المؤسفة التي تأتي على حياة الكثير من شبابنا مع شديد الأسف، بسبب عدم الشعور بالمسؤولية، أو الإفراط في الثقة، أو عدم الالتزام بالقوانين الموجودة، حيث تحصل الكثير من الحوادث، فصرنا نصبح على حادث، ونمسي على آخر، ولا يكاد أحدنا يأوي إلى فراشه ليلاً إلا وقد قرأ عن حادث هنا أو هناك، تُحصد فيه الأرواح ويخلَّف الجرحى، ويترتب على ذلك الأيامى والأيتام، خصوصاً في طبقة الشباب، حيث تطوي السيارات في الطرقات أرواح الكثيرين منهم، فيخلف هؤلاء نساء أرامل، وأطفالاً يتامى.
ونحن كمجتمعات نندفع لتسجيل حضور في مجلس العزاء هنا أو هناك، ثم لا يعنينا من الأمر شيء، ربما نحوقل أو نتأفف أو نتحسر، ثم ماذا بعد ذلك؟ إنه سؤال مشروع يطرح نفسه على القرابة القريبة أولاً وبالذات، ثم يمتد إلى مساحة أبعد من ذلك.
أما مساحة الاقتراب من مال اليتيم فقد أولاها الشرع اهتماماً خاصاً أيضاً، فاشترط عدم الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والحسنى المتماشية مع مال اليتيم تعني مفهوماً مشككاً له قابلية الانطباق على مصاديق متكثرة، وعلى الإنسان أن يقف أمام بعض المفاهيم والمفردات كي يرتقي ويرتقي من حوله، وهذه مسؤولية الذين ينذرون أنفسهم من أجل قضية، وإلا من السهل أن يمرّ الإنسان بالقضايا وكأنها لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه خسران الصفقة في الدنيا بين أبناء مجتمعه، وفي الآخرة بين الملأ العام عندما يحشر الناس.
أولياء اليتيم:
إن الذين يتولَّون أمر الأيتام تكون مسؤوليتهم في منتهى الحساسية والخطورة. والقرآن الكريم يصنفهم إلى نوعين:
الأول: من كان قادراً مقتدراً مستغنياً عما في يد اليتيم.
الثاني: من يعيش عوزاً، لكن التوصية الشرعية من الموصي أو الحاكم الشرعي ألزمته الولاية على ذلك القاصر من الأيامى والأيتام.
ولكل من النوعين حكمه. فمثلاً لو طلب أحد قبل موته الولاية من زيد على عمرو، فمن يراد توليته ليس ملزماً بالقبول، ولو أنه اشترط لنفسه شرطاً لكان ماضياً، فلو قبل القيام بالولاية والرعاية مع اشتراطه نسبة معينة أو حصة أو مرتباً شهرياً، كان شرطه ماضياً، وهذا حق مشروع إذا اتفق الطرفان، أما إذا لم يكن ثمة شرط بين الأطراف، كما هو جارٍ بيننا في العادة، فإن تدخّل الولي سواء على النحو الأول أم الثاني هو خارج دائرة القيود والضوابط الشرعية من خلال التصرف في مال اليتيم.
يقول تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيَّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾([6])، أي يستغني عما في يد اليتيم، لأن الله تعالى أغدق عليه. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوْا مَالَ اليَتِيْمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([7])، لأن ابتعاد الإنسان المقتدر عن مال اليتيم في حاجته وشأنه كولي، يحصِّن ماله، ويُحدث النماء في رزقه، فالله تعالى بقدر ما يستعفف الإنسان يفتح عليه أبواب السموات والأرض في الرزق، أما سوء نية الإنسان في الرازق فتدخله دائرة الضيق والحرج والفقر والفاقة، فبقدر ما يحسن الإنسان الظن بالله سبحانه وتعالى، بقدر ما يدخل في دائرة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوْا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوْهَا﴾([8])، فأسباب الرزق بعدد نجوم السماء، ولكن نحن الذين نغلقها.
يقول تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيْرَاً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوْفِ﴾([9])، فهذا فقير، لكنه ابتُلي بشأن الولاية على اليتيم، فمن حقه أن يأكل، ولكن أن يأكل بالمعروف، فليس من المعروف أن يصبح الولي بين عشية وضحاها غنياً يعيش الثراء الفاحش، ويعيش عيشة الأباطرة والأكاسرة، إنما المعروف ما تعارف عليه السواد الأعظم من الناس، واتفقت عليه طريقتهم وسليقتهم في تدبير شؤون المعاش.
الرفق باليتيم:
ومن جهة أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّيْنِ ~فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيْمَ﴾([10])، ومن يدعُّون اليتيم في مجتمعاتنا اليوم كُثر مع شديد الأسف. وبقراءة سريعة تجد أن مفردة اليتم، بقدر ما أعطاها الإسلام من أهمية، بقدر ما فرّط فيها المسلمون، أما المجتمعات المتحضرة، فرغم أنهم لا يستندون إلى التشريع السماوي، إلا أنهم بقوانينهم الوضعية استطاعوا أن يحافظوا على قيمة اليتيم في نفسه.
إن مؤسساتنا الخيرية التي تتصدى لرعاية اليتيم، إذا ما قيست بما هو موجود في المجتمعات المتحضرة، تحسب أننا نعيش في مجتمعات غريبة عن ثوابت دينها مع شديد الأسف. فمن أنبل الصفات الحميدة تبنّي اليتيم ورعايته.
كما أن رعاية اليتيم ينبغي أن تبنى على أسس محكمة علمية نُفثت فيها روح العصر، فالكرامة مع الوصول إلى الهدف، لا تتم إلا وفق تخطيط وعناية ودراسة وإفادة من خبرات الآخرين.
يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً وَيَتِيْمَاً وَأَسِيْرَاً﴾([11])، وهذا الصنف من الناس هم محمد وآل محمد (ع) وقد عنيت سورة الإنسان (الدهر) بهذا الجانب، فهنالك مجموعة من صفات الكمال التي أبرزتها فيما يتعلق بشأن أهل البيت (ع) ومنها هذه الصفة، من إيواء اليتيم ورعايته.
إننا اليوم في المجتمعات التي يفترض أن تكون فيها المؤسسات المدنية هي سيدة الموقف، لكنها لا زالت خجولة. فأين يكمن الخلل؟
إنني لم أسمع حتى يومنا هذا أن ثمة (وُرَشاً) عميلة تعنى بتطوير مُنتج هذه الجمعيات التي تعتني بشأننا، لذلك نراوح مكاننا، حال أن التجارب الكبرى والناجحة لا زالت تفرض نفسها حتى يومنا هذا.
وكمثال على ذلك، المبرات التي أنشئت في زمن المرجع الأعلى للطائفة السيد الخوئي (قدس سره) في لبنان، بعناية من آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)، فقد خُطط لتلك المبرات في السبعينات، وطبقت في الثمانينات، أما اليوم فصار يتخرج من بين أبنائها أصحاب الشهادات العليا من الدكاترة والأساتذة وضباط الجيش. أما نحن فلا زلنا نرى بعض العوائل التي يحتاج أبناؤها حقيبة مدرسية، وهذا أمر مخجل، فالحقيبة لا تساوي مئة وخمسين ريالاً، وهو مبلغ لا يزعزع ميزانية أي موظف في هذه البلاد.
إن عدم قيام أبناء الأسر بمسؤولياتهم داخل أسرهم هو ما يجعلنا نصل إلى هذه النتيجة، وقد قلت أكثر من مرة، وأعيد وأكرر: لا يلزم أن ينفق أحدنا من أمواله الخاصة، ولينفق من الحقوق الشرعية المتعلقة بذمته، والقرابة أولى بذلك.
لماذا لا نرى أموال الحقوق في الضعفاء من القرابة؟ إن مراجع التقليد جعلوا لهم وكلاء، وهم معنيون بهذا الأمر، ويفترض أن تكون هناك شفافية ووضوح في التعامل، والرؤية بينة لا ضبابية فيها. فالمرجع إنما يعيّن الوكيل لخدمة الناس.
أقول: إننا إلى يومنا هذا لم نجد مؤسسة تعنى بشأن اليتيم، مع كثرة اليتامى في مجتمعنا.
ومع هذه الحال التي نحن عليها إلا أننا مع شديد الأسف نجد وراءنا ألف هادم، وهناك من يشكك في النوايا. لكننا نقول: لا بد من خطة عمل، ولا يمكن أن تجري الأمور عشوائياً، ومن يحسب أنه يسير بلا تنظيم لن يستطيع الوصول إلى هدفه، لأن الأهداف السامية والقضايا الكبرى تحتاج إلى جهود متظافرة، لنصل من خلالها إلى الأهداف.
إن أول من وضع حجر الأساس للعناية باليتيم هو المولى علي (ع) وأول طبقة شعرت بفقده هي طبقة الأيتام في الكوفة، إذ كان يكفلها ويفترش الأرض معها، ويقدم لها الطعام بيده الشريفة. فعلي أيقونة الحياة، ولا قيمة لحياة يجرد منها علي، فهو الرحمة والهدوء والسكون والمحبة والسلام والحنان، فلا تجد مثل قلب علي الذي كان يوصي بإطعام قاتله وسقيه مما يشرب([12]).
لقد عُرف علي (ع) بكافل اليتيم، فقد غرس تلك الشجرة، ثم رعاها الإمام الحسن (ع) وكفل وشيّد، وهكذا استمر هذا النهج في حياتهم. ففي وقعة الحرة استبيحت ألف عائلة في المدينة، لم تجد مأوىً سوى علي بن الحسين (ع) حتى بنو أمية دارت عليهم الدائرة يوماً فلم يجدوا سوى بيت علي (ع). فالإمام زين العابدين (ع) يؤوي قتلة أبيه ليضرب للبشرية أمثلة ودروساً. ثم يأتي بعض (الدراويش) ليحاول تشويه واقعة كربلاء بما فعل المختار.
إن تاريخنا الإسلامي ملغَّم بالكثير من الأحزمة الناسفة، لذلك نرى الأحزمة الناسفة اليوم.
أيتام وأرقام:
لو سألنا أنفسنا عن اليتم، وهل أنه يعيق الإنسان أن يكون رقماً مهماً في المعادلة؟ أو أنه قد يدفع به نحو الصدارة؟
لنأخذ هذه الأمثلة: وأولها وأشرفها النبي الأعظم محمد (ص) الذي يقول فيه القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيْمَاً فَآوَى﴾([13])، فقد آواه الله تعالى على يد أبي طالب. وهذه الآية الشريفة تكفي جواباً لمن يحاول أن يقول شيئاً في أبي طالب. فهل أن النبي (ص) هو الذي حمل نفسه بنفسه إلى أبي طالب وقال له: اكفلني؟ إننا نلاحظ أن النص القرآني يسند الإيواء إلى الله سبحانه وتعالى، فهل أن أبا طالب كان الرجل الوحيد في مكة لتسند إليه هذه المهمة؟
ليس هنالك من تفسير سوى أن أبا طالب كان يمتلك من المواصفات والمؤهلات والملكات ما لا يمتلكه غيره، والنبي (ص) أشرف البشر وأكملهم، فلا بد أن تكون الحاضنة مناسبة لهذا الواقع، فكانت كفالة أبي طالب أحد الأركان المهمة لهذا الدين، فلو تصورنا أن أبا طالب لم يكفل النبي (ص) فماذا يمكن أن يكون مصيره؟ وهذا ما نطرحه في إطار فلسفة التاريخ والحسابات الطبيعية، وإلا فإن لله تعالى حكمه وأمره، أما نحن في هذه المفردة فنقرأ ما بين أيدينا من معطيات، ونبني حساباتنا على أساسها.
وهنالك أمثال أخرى كثيرة، وإن كانت دون هذا المستوى بكثير.
فمن الأيتام الذين غيروا مسار التاريخ السيد الإمام (قدس سره) الذي نعيش ذكرى وفاته، فقد قلب المعادلات والموازين، لكن ذلك لم يأت من فراغ، فقبل أن يدخل الجهاد الأصغر اجتاز مساحة الجهاد الأكبر مع نفسه، حيث روض نفسه وبناها وصقلها فأشرقت على الوجود من حوله، فاستطاع أن يغير مسار التاريخ. ومن يبلغ الخمسين اليوم يدرك ما فعله الإمام الخميني (قدس سره) لأن عاش الحدث بنفسه.
ومنهم المتنبي، وهو رجل يتيم، لكنه أصبح فيما بعد يتيم الدهر، إذ لم يأت من الشعراء من يعفي أثره، وبقي القامة السامقة الشامخة على مدى الدهر.
لقد كان المتنبي يدخل على السلاطين والخلفاء فيقول: أجلس من حيث أنا، ولا أجلس إلا حيث أقف.
ومن الأمثلة العالمية أيضاً «نيلسون مانديلا»، وهو رجل عظيم في أمته وشعبه، فقد كان يتيماً، لكنه حرر شعباً بأكمله، وضرب للعالم أعلى الأمثلة في التضحية، إذ أمضى ربع قرن من الزمن سجيناً، ثم خرج ليقلب الموازين، فيضطر العالم إلى منحه جائزة نوبل للسلام.
أيها الأحبة: إن مال اليتيم نارٌ مؤججة لمن أراد أن يأكل منها أو يتلفها، وهو رحمة منزلة لمن أراد أن يحصّنه.
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.