المؤمنون إخوة وإن اختلفوا في وجهات النظر
جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي (ع) لكميل بن زياد (رضي الله عنه): "يا كميل: الدين لله، فلا تغترنّ بأقوال الاُمة المخدوعة، التي قد ضلت بعدما اهتدت، وأنكرت وجحدت بعدما قبلت".[2]
ترادف الأحداث والمناسبات
ليلة مباركة مضافة لعلي (ع)، في هذه الليلة وصبيحتها أحداثٌ ترادفت، المحور فيها: علي؛ المنطلق فيها: علي؛ البدءُ والخاتمة في كل ذلك: علي. فمن ليلة المبيت على فراش النبي، التي جاء في حق صاحبها نص عن الرسول الأعظم (ص) قال فيه: >لو وزن عمل عليٍّ ليلة المبيت بأعمال الخلائق لرجح عمله عليه السلام على أعمال الخلائق<[3]، في مثل هذه الليلة وصبيحتها ذكرى التصدّق؛ التصدّق بالخاتم، وهي القضية التي شغلت مساحة كبيرة عند ارباب التاريخ والمحدثين ولم تكن حصة الادب هي الحصة الأقل في هذا المضمار؛ بل كانت تضرب قدحاً معلّى ولها الصفقة الراجحة لذلك ما استطاع ارباب التاريخ ان يصرفوا هذه القضية عن علي كما تلاعبوا في غيرها من القضايا. ومن هنا نوكّد على ما للأدب بجميع فروعه، المنظوم منه والمنثور، من قيمة عُليا؛ هذه القيمة التي من شأنها أن تثبت المفاهيم والقضايا والاحداث في ذهنية الاُمة لكي تتشكل منها دروساً يستفاد منها في استضاءة المستقبل واستشراف الآتي.
المناسبة الثالثة: وهي المناسبة الأهم والأشرف والأكمل والأتم، والمرآة لأهل بيت النبوة كمنظومةٍ متكاملة؛ ذكرى المباهلة. المباهلة لها قيمتها أيضاً عند المسلمين قاطبة؛ حيث تعرّضوا لهذه القضية وتفننّوا في إخراجها، كلٌّ بحسب الآليات التي انتهجها والمقدمات التي رتبها والاهداف التي كان يصبو الوصول اليها، لكن في النتيجة بقيت هذه القضية أيضاً ثابتة، راسخة، مستقرة، فيها معنى العطاء والتجدد ونحن ربما نمرّ على هذه القضايا والاهداف مروراً عابراً على ان كل واحدة منها تستدعي التوقف الطويل وعندما اقول نحن أي: أتباع مدرسة محمد وآل محمد.
عدم الاغترار بالمخدوعين
أيّها الاحبة في الحديث الذي استفتحت به من وصية علي (ع) لكميل عليه الرحمة، نستظهرُ امراً يستدعي منا أن نتأمل فيه قليلاً، استخدم الامام في النص مفردة الغرور: "فلا تغترنّ بأقوال الاُمة المخدوعة".
الامام يصف حال امة قبل قرون طويلة، أصلاً ربما يكون الحال الموصوف عفا عليه الزمن، لكن الواقع هو أن الزمن في حركته وفي جريانه وفي سيره يولّدُ مع مرور أيامه الكثير من الشواهد التي تحكي إما عن استجرار التاريخ الجديد أو عن توليد مولودٍ جديدٍ ربما لا يقلّ تشويهاً عن ذلك الذي تقدم.
ونحن لا ندري هل من النعم المرسلة أن نكون في هذا الزمن ام من النعم المقيدة ان نكون فيه؟ لكن في النتيجة هذا هو القدر الذي أراد لنا ان نكون في هذا الزمن مما يشكل واقعاً وعلينا ان نتعاطى معه بما هو عليه، بما له من حلاوة أو مرارة (كما اسلف الاخ الفاضل السيد قاسم أو الاستاذ ابراهيم ابو المعلى) ونحن في النتيجة مع واقع صحيح هو مُرٌّ أحياناً لكن لا يُعدم الفقرات التي تتصف بالحلاوة، الحلاوة التي يستشرفها الانسان ولا يرفع يده عنها في الكثير من المواطن لا لشيء الا لأن الاصل في تكويننا وأساسه هو الذي يولّد هذه الحلاوة التي نحن في مسيس الحاجة ان نحافظ عليها.
مفردة الغرور مفردة قاتلة وهي تطارد النخبة من أبناء الاُمة في كثير من الاحيان، وبقدر ما يسمو الانسان بقدر ما يحتّم عليه أن يضع أمامه الكوابح في حالةٍ قصوى من الاستعداد للتوقف عند الضرورة. ورد في الدعاء عن المعصوم (ع): {اللهم صل على محمد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها}[4]؛ فلا ينبغي للإنسان أن يسترسل في سلم الصعود دون ان يلتفت إلى ما خلفه للأمن من الوقوع في شرك الغرور ولو بعد حين، فعلينا ان نلتفت إلى ماضينا وتأريخنا لنقرأ ما نحن عليه اليوم وما نأمل ان نكون عليه في المستقبل, ومن السهل ان يحقق الانسان نجاحاً وتقدماً وتفوقاً وتميزاً، لكن ليس من السهل ان يحافظ الانسان على هذه المقامات وعلى حالة التفوق والتقدم والسيطرة على مجريات الامور.
أيّها الأحبة ينبغي علينا الشيء الكثير إذا ما كنا نسخّر جهوداً كثيرة ومتشعبة، وإذا ما كنّا نستمد العون من هنا وهناك في سبيل قضية وهدفٍ سام، ونحن سنصل في نهاية المطاف، وما تعاقبت هذه السنوات فيما يؤمن لنا عقداً إن شاء الله نجتمع عليه في السنة القادمة إلا دليل النجاح، والنجاح لا يأتي الا وفق خطة مرسومة محكمة الاطراف والجوانب.
ايها الاحبة إن الغرور الذي يحذر الامام منه، هو ما أضيف إلى حالةٍ أو صفة محمولةٍ على جماعة يعبّر عنها الامام يعبر بالاُمة المخدوعة. ايها الاخوة! ايها الاحبة! إن الجماعة أو المجموعة أو الفرقة أو الشعبة، فما شئت فعبّر؛
عباراتنا شتى وحسنك واحد *** وكلٌ إلى ذاك الجمال يشير
فبالطبع، إن هذا في احسن حالاته يشير إلى ذلك الجمال، والا، فما دام يتصف بأنه مخدوع فالحسابات في مسارٍ، ولكن من باب حسن الظن في اقل التقادير.
ضرورة الدقة والتشخيص الصحيح للمخدوعين
ايها الاحبة! ايها الشباب! من العقبات التي تعترض طريق النشاط الاجتماعي أو الثقافي أو الرياضي أو غير ذلك، هو وجود جماعة الطرف المقابل، ووجودها في الطرف المقابل لا يشكّل بالضرورة عائقاً وتحدٍّ للانطلاقة أبداً.
فالجماعة التي تشخّص الوضع كما ينبغي هي الجماعة القادرة على أن تحرّك دفّة السفينة إلى حيث اُريد لها ان تصل، والقادرة على ان تتخطّى جميع العقبات، وان كانت هذه العقبات تتمثل في مجموعة انطلقت من خلال معطيات هذه المفردة المخدوعة. والخديعة هي أنّ الانسان ربّما يخدع نفسه متوهّماً أنه على شيء، بينما في الحقيقة هو ليس على شيء، أو أن هذا الانسان يقرأ الطرف المقابل قراءة خاطئة بناءً على مقدمات ناقصة وغير منتجة، ثم يلتفت بعد فترة إلى انه كان في حالة من الضياع والشتات، وانتهى إلى ما كان مخدوعاً به، ما كان ليلتفت إليه في بادئ الأمر.
وحديث الامام (ع) مع كميل حديث طويل وعريض، ومن الجميل ان يلتفت الشباب إلى هذه الوصية ويأخذوا منها الدروس والعبر، لكن هناك ثمة حقوق أملاها الامام علي(ع) على اصحابه، والامام زين العابدين(ع) لخّص هذه الحقوق، وبوّبت بعد ذلك بدءاً من حق الله سبحانه وتعالى ومروراً بمجموعة من الحقوق التي تتعلق بالإنسان في نفسه أو قوله أو عمله، يعني: في العلوم الثلاثة المحمولة على الناسوت فوق هذه الارض، إلى المشاركة مع الآخرين في الفضائل العامة.
فهناك حقوق لله سبحانه وتعالى يطول استعراضها، وهناك حقوق للرسول الاعظم النبي الاكرم محمد (ص)، وهناك أيضاً حقوق للمؤمنين تنتظم فيها الجماعة، وهي الحقوق التي يُعبّر عنه بالطليعة الرسالية أو ما اُعطي للمؤمنين ـ بما للألف واللام من قابلية في استغراق الافراد خارجاً ـ ، ففي النتيجة هناك جماعة تشترك في صفة؛ هي صفة الايمان، صفة الايمان لو اجتمعنا عليها لما قرأنا طرفاً مقابلاً لنا بسوء هنا أو هناك على انه يشكل حالة من الخصومة، أبداً صدقوني ايها الاحبة! ايها الاخوة! فمتى ما افترضنا في الطرف المقابل انه يشكل لوناً من ألوان الخصومة فهذا يعني أن هناك خللاً في البناء الإيماني، إما عندي أنا كقارئ أو عند الطرف الآخر كمقروء، غاية ما في الامر: سيحصل هناك التفات وتشخيص ومحاولة لوضع حل، وأحياناً انسان يسير في الاتجاه المعاكس لهذه القضية، وتأخذ الاُمور مديات أكثر بُعداً، وفي النهاية يسقط الجميع، أي: ربان السفينة، والسفينة، ومَن في السفينة؛ كلهم يذهبون ادراج الرياح.
أيها الاحبة المؤمن صدره واسع، ويتمتّع بما يتمتع به الشباب الطليعي، وهم من تغذوا في مثل هذه القلعة المحكمة البناء في تأسيسها على ما وقفت عليه، ومن خلال مسيرتها فيما طوته ووقفت على بعض فصوله.
وها نحن نودّع السنة التاسعة من عقدها الاول، وهي ـ بحمد الله ـ تعالى لا زالت تحافظ على موقع الصدارة، وهناك امور أرغب الاشارة اليها اطلعت عليها من قبل الاخوة الافاضل في زيارتي لهم في الدار، فأشاروا إلى مجموعة من المسارات التي استطاعوا ان يفتحوها ويتحركوا من خلالها، نسال الله سبحانه وتعالى ان يأخذ بأيديهم.
لزوم التواضع ومد يد العون للآخرين
اقول: إنّ للمؤمن حقوقاً على أخيه المؤمن؛ سواءً كانت في دائرة من الفرد إلى الفرد، أو من الفرد إلى الجماعة، أو من الجماعة إلى الجماعة، فهناك منظومة من الحقوق لابد وان نقوم بها، وإن عدم قيام الانسان بحق أو عدم قدرته بالقيام بأكثر من حق، لا يترك له مندوحة في عدم القيام بحق واحد منهم، فإذا استطعنا ان نقوم بحق، فعلينا ان نقوم به وأن ننهض به، وهكذا الاُمور ترتقي.
لكن لا مبرر للإنسان حينما لا يجد في نفسه القدرة على المساعدة في تحقيق حق من حقوق المؤمن، ان يتخلى ويرفع يده حتى عن الحق الاول، لهذا جاء في حديث عن أحدهم ^ حول سلّم الايمان الذي يتشكل من عشر درجات أو عشر مراتب، ففي الحديث الشريف: لا يقولنّ صاحب الدرجتين: ان صاحب الدرجة الواحدة ليس على شيء، ولا يقولن صاحب الدرجة الثالثة: صاحب الدرجة الثانية ليس على شيء، حتى يصل إلى الدرجة العاشرة، لا، مَن كان في الدرجة الاولى فهو على شيء ولكن من هو في الدرجة الثانية فهو على شيء وشيء ثاني، وهكذا الاُمور ترتقي والامور بأيديكم.
ومن تلك الحقوق: حفظ الجميل والمعروف بين المؤمنين، فأحياناً لا يشعر الانسان ما للخدمات المسداة إليه من اهمية كبيرة؛ لأنه ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لم يقف على حجم الصعوبات التي تواجه منظومة المؤسسات الخيرية، واحياناً ما يبذله المسؤولون بوجاهتهم وجاههم في المجتمع لأجل تقديم المساعدات والمعونات بين يدي ذلك الانسان المتلقي سائغة، وهذا ما يحصل في جميع المؤسسات الخيرية سواءً كانت خيرية بالمعونات المادية والعينية، أم خيرية بالمعونات غير المادية.
ففي مثل هذه المؤسسة الطيبة والمشرّفة باسم الصادق من آل محمد× نجد شيئاً مهماً؛ ألا وهو أن جهوداً كبيرة جداً تبذل وراء الكواليس، والافضل من هذا وذاك: إن القائمين لا يسألون الناس جزاءً ولا شكوراً، وهذا ليس من باب الشهادة التي فيها ضربٌ من المجاملة؛ فأنا لم اتعود المجاملة مع احد، لكن المفردات المتعاقبة والمتراكمة البعض على البعض الآخر، يدلل على أن هؤلاء لا ينشدون ضرباً من هذا، لكن هذا لا يلغي مسؤولية الطرف المقابل في تقديم صورة صادقة من صور المدح والثناء بما امكنه؛ لأن الكلمة الطيبة فيها ترضية للنفس، وأنا لا اقول: تزكية، وانما ترضية للنفس؛ حيث إنّ هؤلاء المحسنين يبذلون جهوداً أحياناً ليحسنوا من وضع مجتمع ما أو يرتقوا بمستواه الثقافي إلى الأفضل، وهم بمسيس من الحاجة لكلمة واحدة ولا اكثر من ذلك، فلو ربّت الانسان على كتف واحد منهم أو تفوّه بكلمة واحدة ولو بمفردة طيّبة تشكل شيئاً من هذا القبيل، فإننا سنوفي ولو بشيء من حقوقهم علينا، وخصوصاً اُولئك الذين لأجلهم تم صب الجهود وإسداء المساعدات بغية للنهوض بهم إلى المقامات المتقدمة، فهذا الشيء يتحتّم عليهم اكثر غيرهم أيضاً، ولكن في النتيجة إن الاُمور نسبية بحسب ما تُضاف اليهم. وينبغي أيضاً الوقوف إلى جانب هؤلاء الطليعيين عند الضرورة، أيها الاحبة! فنحن حينما يطلب منا المساعدة أو النهوض بشيء.
فعلينا ان لا نقصر في هذا الأمر، وهذا أيضاً جزء من سلك الجماعة، يعني: لولا وجود هذه الخاصية وتفعيل هذا الجانب لما شخص الاسلام، ولما وصل الاسلام إلى ما وصل اليه.
ومسألة المؤاخاة التي مرّت علينا قبل ايام هي واحدة من المصاديق التي كانت لتلك الفترة والتي اوجبت دفع الحركة للأمام وبقوة، هو ان الانصاري كان يتنازل عن جزء من مكتسباته المادية في سبيل الانسان المهاجر من اجل النهوض بحال ذلك المهاجر، فكان لا يقبل من نفسه ان يكون بمقام في حال أن ذلك المهاجر يسأل الناس، وانما اراد أن ينهض به لما اقتربت مساحة المهاجر من الأنصاري في نقطة واحدة، انطلق منها الاسلام في اندفاع وبقوة استطاع من خلالها ان يحسم الموقف لصالح الاسلام في الحروب والغزوات، حينها وقف المهاجرون والانصار وقفتهم المعروفة أيضاً المفعمة بالعطاء والتضحية للآخر، أن يقف الواحد منّا إلى جنب الآخر بالانتصار على النفس، النفس الامارة بالسوء بصريح القرآن، والجهاد الاكبر انما موضوعه هو النفس؛ فمتى ما طلب منا البعض ان نقف إلى جانبه فعلينا ان لا نقصر معه، كل ذلك بالتغلب على دواعي النفس ونوازعها.
فالإنسان أحياناً لا يحتاج منا ان ندفع له مالاً، فالسفينة سوف تسير والقافلة سوف تندفع، سواءً اندفعنا أم لا، أو أن الآخر سوف يندفع، لكن مسألة الوقوف إلى جانب الآخر المؤمن، أو وقوف الأخ الشاب الرسالي إلى جانب الشاب الرسالي الآخر، اذا ما وقف إلى جانبه بتقييد هذه النفس حتى لا تجمح، ففي الواقع إن هذا من أعلى درجات النصرة من حيث التصديق الخارجي.
المؤمنون إخوة حتى وإن اختلفوا في وجهات النظر
هناك أيضاً النصرة على العدو، ومن المعلوم أن المؤمنين لا عداوة بينهم، لكن هناك اختلافاً في وجهات النظر، وهذا حق مشروع، كما انني لا ارغب في ان يفرض احد رأيه عليّ أيضاً، فأنا اُعطي هذه المساحة للطرف المقابل على ان اترك له هذه المساحة في ان لا افرض عليه افكاراً تختلف، ربما تتلاقح في يوم من الايام أو تعثر في المسار في يوم من الايام، وتحل مجموعة من المشاكل، ربما نكون في مسيس الحاجة أصلاً لوجود هذه الحالة من الاختلاف في وجهات النظر، فلو كنا على مسلكٍ واحد وعلى مشربٍ واحد، واطرح هذا الشيء على واقع الحوزة وهو من المواقع المتقدمة في هيكلة البناء الشيعي؛ فالحوزة في مسارها العلمي لولا الاختلاف في وجهات النظر على البناء الذي سار عليه اولئك العلماء، لما شخصت الحوزة ووصلت إلى ما وصلت اليه الآن.
ومع شديد الأسف ففي هذه الفترة الاخيرة يريد البعض منا ان يمارس دور الجلاد على ارباب الفكر والعقل في سبيل ان ينصهروا تحت منظومة من الآراء التي اكل الدهر عليها وشرب، بحجة اننا لا نريد شق الصف ولا نريد خلافاً، فالمسألة ليست مسألة شق صف أو ان يقع خلاف في الخارج، فلو وعى الانسان ما للفكر وحركة العقل من قيمة لما تفوّه احد بمثل هذه الكلمات، وهذا قصور في الرؤية ونقص في الثقافة، والاستشراف لما هو الآتي غير تام وغير واضح؛ لأنه مبني أيضاً على مقدمة لا يمكن ان منتجة اصلاً؛ لأن البناء لم يكن بناءً متكاملاً ولا بناءً منفتحاً لذلك تكبو بالإنسان راحلته.
يجب أن ننتصر على من؟ علينا أن ننتصر على العدو الذي لا نتفق معه في الاسس والثوابت والاصول والقواعد، وأما من اشترك معه في كل هذه الاُمور وأختلف معه في قضية، فمن حق أصغر الناس أن يجتهد فيها ويطرح فيها رأيه، وأن ينظّر في مقامها. أمّا إذا أجعل منها قضية القضايا وأصرف النظر وآتي بجهود وأحرق كثير من الطاقات في سبيل أن أنتصر على زيد من الناس أو على المجموعة الفلانية أو المدرسة الفلانية أو الموقع الفلاني أو الفريق الرياضي الفلاني! فهذا ليس منطقاً متقدّماً يتماشى مع روح المرحلة التي نعيشها نحن الآن في فترة نُحسد عليها، يعني المرحلة التي لو بعث فيها مَن في القبور من آبائنا أو أجدادنا لحسدونا على ما نحن عليه، لكننا في الواقع، لو التفتنا إلى ما نحن عليه في الكثير من مساحاتنا، سنجد انه لا موجب لهذا الحسد؛ لأن الفرص أصبحت تضيع من عندنا، والقدرات تُهدر، وقد خسرنا أيضاً الكثير من المكتسبات أيضاً في الكثير من المناطق، قد خسرناها لا لشيء إلا لضيق الاُفق والتحجّر الفكري مع شديد الأسف، والله المعين على ما سيأتي.
الترحم وأصنافه
من الحقوق المهمة أيضاً: الترحّم على من نفقد من الأعزة في هذا الزمان، خصوصاً وأنّ أسباب الخروج من هذه الدنيا أصبحت عجيبة وغريبة، ففي بعض الأحيان نفقد أحدنا بشكل مفاجئ، حيث كنّا قبل بُرهة من الزمان جالسين معه وكانت الاُمور طيّبة، وبعد أن نودّعه ونفترق عنه، وحينما نذهب إلى أداء صلاة الفجر فإذا بهم يقولون: رحم الله من شيّع جنازة فلان بعد صلاة الظهر! أنا أقول: والله البارحة كنّا معاً، وكانت الاُمور طيبة والرجل لم يكن فيه شيء!! وتدخل إلى بيت أحد لتسلّم فاتورة الكهرباء أو الهاتف فترى صاحب البيت ميتاً، ماذا يجري في هذه الدنيا؟! كم من الشباب مضى في هذه الفترة!
وبإحصائية بسيطة، انظروا من المشاهد: نحن قبل يومين في المبرز خمسة في قبر واحد، ومن بيت واحد، يعني: صورة باتت مروعة ومخيفة.
الترحم على صنفين: الترحم على الميت؛ وهذا النوع من الترحم معروف في طرقه وأساليبه، والأهم من الترحم على الميت: الترحم على الحي: لأننا نرى اُناساً يغرّدون خارج السرب، فهؤلاء بمسيس من الحاجة إلى أن نرحمهم ونعطف عليهم ونأخذ بأيديهم وندلّهم إلى الطريق.
الإنسان الذي يحمل همّ تفحيط سيارة في الشارع تجرحه في قلبه، والانسان الذي يحمل همّاً عندما يذهب إلى المدرسة وينظر إلى مجموعة من الاطفال أو الشباب لم يتجاوزوا الفصل لذي هم فيه يؤذيه هذا الأمر، والانسان الذي يشعر بالمسؤولية ويعرف معنى الرسالية في الحياة حينما يجد خلافاً بين الجماعة الواحدة في البلد الواحد أو البيت الواحد أو المدرسة الواحدة أو المؤسسة الواحدة، إذا لم يشعر أن هناك نوعاً من الخسارة، فهو واضح وبيّن المعالم، عليه أن يراجع الحسابات.
مدرسة الامام الصادق (ع) مدرسة أثبتت قدرتها على بناء الفرد، وأنا اتمنّى من هذه المدرسة أن تخطو خطوة، وإن كان القائمون عليها ـ بالطبع ـ لهم جهودهم الكثيرة في أكثر من مجال، لكن أتمنّى أن تكون القفزة نوعية في المساحة الأوسع من بناء الفرد، وكأنما اُريد أن أقول: الثقافة التلقينية لا غير.
فأنا اُريد مِن كلّ مَن يخرج من عندي بعد هذه الدورات المركّزة والمبوّبة والموجّهة والتي في نهاية ومنتهى الإحكام، أن يكون كلّ واحد يحمل في ذهنه مشروعاً، يعني: لا يخرج من عندنا إلا ونحن قد جعلنا في داخله مشروعاً بالصورة التي حينما يذهب إلى البلد ويقرأ للأفراد، من المفترض أن يتخرّج بجهوده مئة قارئ، ولا نُريد أن يكون كلّ هذا العدد يعمل بمشروعه، طبعاً لو حصل فهذا نور على نور، لكنني حينما أطلب هذا الشيء قد يكون ضرباً من الخيال، لكنني لو حصلت على نسبة واحد وخمسين في المئة؛ أي: نصاب الأغلبية، وكما يقولون: النصف زائد واحد، فلو طرحت هؤلاء في المجتمع وكان كلّ واحد يحمل في داخله مشروعه ويسعى من أجل تحقيقه في الخارج، فإني أتصور مدرسة الإمام الصادق(ع) سوف لن تكون مدرسة واحدة؛ بل ستكون واحد وخمسين مدرسة للإمام الصادق(ع)، فعلينا نحن أن نسأل أنفسنا خلال فترة تسع سنوات: كم مدرسة للإمام الصادق أصبحت عندنا؟ ستبقى هي الاُم الحاضنة ويبقى الجيل الأول الذي هو جيل التأسيس والجيل المرشد والموجّه والقريب من هذه الطاقات الموجودة.
أشكر الإخوة القائمين على هذا المشروع الطيّب المبارك؛ الرسالي في هدفه، أتاحت لي الفرصة ان أتشرّف بالمثول بين أيديكم، وأسأل من الله سبحانه وتعالى أن يكمل لهم العقد الأول، وأن يردف هذا العقد بعقود إن شاء الله، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيّئ أسباباً لتحلّ المدرسة في مقام آخر أو محلّ آخر، وأن يكون لها من القدرة على أن تحلّق في مسافات أوسع، وفّقهم الله، أشكركم جميعاً، والحمد لله ربّ العالمين.
.