العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (23)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث المروي عنه (ص): «أكثروا الصلاة عليّ فإن الصلاة عليّ نورٌ في القبر ونور على الصراط ونور في الجنة»([2]).
وقفة مع السنة المطهرة:
أسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى ميلاد السبط الأول المجتبى من آل محمد (ص) الحسن بن علي (ع) وبارك الله لنا ولكم هذه المناسبة، وتقبل الله منا ومنكم، وأعاد الله المناسبة علينا وعليكم إنه ولي ذلك.
في الحديث الشريف عن النبي (ص) أنه قال: «من حفظ من أمتي أربعين حديثاً مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله عز وجل يوم القيامة فقيهاً عالماً»([3]).
وفي رواية أخرى: «من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شفيعاً يوم القيامة»([4]).
هذا الأجر العظيم والهدية الكبرى المنتظرة لحملة الحديث كانت مدعاة أن يتحرك الكثير من أصحاب النبي (ص) والتابعين ومن جاء بعدهم لتدوين ما خطر لهم، إما مما سمعوه بالمباشرة ممن وُفق للحياة في أيام وجوده الأقدس، أو ممن سمع من سمع منه (ص). أو أو ممن سمع من التابعين، ومن هنا اتسع الفتق على الراقع.
لقد توقفت مدرسة الحديث من حيث الإنشاء في عصر الغيبة، بمعنى أن ما يؤخذ من المعصوم بالمباشرة أغلقت أبوابه، ودخلت مرحلة من لا يتمتع بالعصمة من علماء الأمة، فهؤلاء أيضاً نقلوا كمّاً هائلاً من الأحاديث، بعضها تحظى بالسماع مباشرة، وهم أولئك الذين تشرّفوا برؤية الإمام العسكري (ع) ومن كان بعد ذلك بقليل جداً، وما بعد ذلك ما هو إلا عن فلان عن فلان، أو تواقيع تصدر من هنا أو هناك، تحتاج المزيد من البحث والتحقيق والتنقيح، لأن طابع التّسييس عليها بيّن، والتوجيه والمصلحة أجلى وأوضح، وهذا لا يعني أن ننسف كل ما وصل إلينا، لكن ذلك يجعلنا ضمن حدود دائرة تحمّلنا الكثير من لزوم البحث والتنقيب في ذلك الكم الهائل الموروث.
وخير دليل على أن مصانع التفريخ للروايات عند الفريقين لا زالت إلى اليوم منتجة، أننا قبل أيام قليلة، وفي شهر شعبان، شهدنا انعقاد مؤتمر في لندن، لإحدى المؤسسات، فخرج رئيس المؤسسة ليقول: إن مجموع الأحاديث التي صدرت فيما يتعلق بالإمام المهدي تنوف على ستة عشر ألف حديث. وهذا خطأ فادح وقع فيه، إذ إن عددها أقل بكثير من هذا المقدار، كما أن بعضها موضوع بلا أدنى شك.
إن عصر الغيبة في أيامه الأولى عصر عاصف، لأنه لم يكن مألوفاً عند أتباع مدرسة أهل البيت (ع) فما هي إلا أيام حتى فتحوا عيونهم على غياب الإمام المعصوم (ع) وهذه الحالة تحتاج الكثير من التروي، وإلى حراك أهل العلم والحكمة، لذلك دخل الكثير من أتباع المدرسة في الكثير من الهرج والمرج، لولا وجود النخبة التي آمنت بربها واستنارت بنور العلم ووجهته بالاتجاه الصحيح، ورغم ذلك بات قسم منها مغلوباً على أمره لا يستطيع أن يقدم أو يؤخر في تثبيت قواعد المعادلة كثيراً.
فحركة أصول الفقه بُذرت بذرتها الأولى مع الغيبة الكبرى، بل وقبل ذلك بقليل، لكنها لم تجد الآليات الكافية في دفع عجلة حركة الاستنباط بناءً على الأصول والقواعد لا على أساس النص المنقول صرفاً.
وفي طليعة هؤلاء الأعلام ابن الجنيد الإسكافي رضوان الله تعالى عليه، العالم المجهول القدر عتد الكثير، وابن عقيل العماني رضوان الله على روحه المقدسة، وهو أيضاً يمثل واحدة من فلتات الدهر وحسناته، إلا أنه لم يعطَ أيضاً من الحق ما يستحق.
وثالثهم الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان رضوان الله عليه، الرجل العظيم الذي ربما بسط له البساط فيما هو الممكن المحدود، ورغم ذلك ملأ علمه الخافقين، وحافظ في الكثير من الأحايين على اتجاه البوصلة في مدرسة أهل بيت محمد (ص) حديثاً وفقهاً وأصولاً وكلاماً وما يدور في فلك ذلك أو ينحلّ عنه.
جبة خبر الواحد:
في تلك الفترة طرأ على السطح صراع حول حجية خبر الواحد، ومدى هذه الحجية وما يمكن أن يترتب عليه.
وقد استجد هنا طرفان أمسكا بحبل البحث والنقاش، فخبر الواحد يحتاج إلى مقومات لا بد من توفرها في ذات المخبر نفسه أولاً، ثم في النص المنقول مادةً وهيئة من خلال دلالته على المراد منه، وهنا تتحرك الآليات التي يفترض أن يكون الفقيه أمسك بها لينطلق منها إلى ما هو الأبعد.
وقد اعترضهم في الطريق أن الخبر الآحادي في مقابل الخبر المتواتر. وبما أن الخبر المتواتر يكتنز في داخله القدرة على الحجية الذاتية بلا جعل جاعل، فهل تتعداه الحجية إلى خبر الآحاد فنقول: إن الملاك فيهما واحد؟ أو أن خبر الآحاد يحتاج إلى أمر آخر يتكئ عليه ويستند إليه ليؤمّن حالة الحجية عندما يرغب الفقيه في الرجوع إليه وانتزاع الحكم من خلال معطياته؟
يقول الأعلام: إن خبر الآحاد لا يمتلك القدرة على تكوين الحجية من الذات، إنما هي باعتبار معتبِر وجعل جاعل، ثم صاغوها بما يسمى بمتمم الجعل، فمتمِّمُه أن تجعل الحجية للعمل بخبر الواحد من خلال ما يضفيه الشارع المقدس على ذلك الخبر، ليكون الخبر المذكور متمتعاً بصفة الحجية. وإلا بما هو هو ذاتاً ليس فيه القدرة ولا الشأنية على توليد مثل ذلك.
إن الذين نقلوا أخبار الآحاد كثر، وهي تملأ بطون الكتب والأسفار، وتحتاج إلى غربلة، ولا غربلة إلا مع جرأة، يعترض هذا الجرأة المشهور والموروث، وما ادُّعي في حقه الإجماع، فهل للفقيه القدرة على تخطي تلك الأسوار ليصل بعد ذلك إلى نتيجةٍ، المراد منها أولاً وبالذات أن يسيّر ما هو الصحيح على حساب ما يحتمل فيه الكثير من التأمل والتوقف والتنظر بل الرد؟.
إن هؤلاء الذين نقلوا الأحاديث، سواء كانوا صحابة أم تابعين أم أصحاب للأئمة (ع) أم علماء لا يتمتع أحد منهم بعصمة. ومعنى ذلك أن الأبواب مفتوحة على كافة الاحتمالات، وأن قلم الشطب والتشفير والحذف المباشر سوف ينتاب الكثير من ذلك، وسوف تسقط الكثير من الأحاديث. وسوف يشعر أحدنا لأول وهلة أن خللاً واضحاً قد حصل، أو أن ديناً جديداً يراد له أن يسوَّق، لكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً، فلا دين إلا ما جاء به نبينا الأعظم محمد (ص) وهو ما تمثل في رافدين: قرآن كريم أحكمت آياته، منزل من عزيز حكيم، مؤمّن الطريق من السماء إلى الأرض، محفوظ في صدر النبي (ص) بلا زيادة ولا نقيصة، وما يتداعى للأسماع من الزيادات والنقائص وما إلى ذلك ما هو إلا من صنع من أشرنا إليهم من صناع الأحاديث في دائرة أصحاب الخبر الواحد.
وأما الرافد الثاني فهو السنة المطهرة الصحيحة الواردة بالطرق المعتبرة، وأما السنة ومدرسة الحديث في إطارها العام فإنه لا يؤمّن لنا سنة صحيحة بالمطلق، إنما الصحيح منها ما خضع للبحث والغربلة، وانتهى إلى أرباب الفن من علماء الرجال والدراية، لنقف على الصحيح من غير الصحيح، على أن يكون القرآن هو الركيزة الأولى التي نرجع إليها عند الاختلاف والاضطراب.
فهؤلاء الرجال لهم عناية كبيرة، ويشكرون على الجهود التي بذلوها، ولأنهم لا يتمتعون بعصمة نلتمس لهم عذراً فيما وقعوا فيه، وإلا فليس بمقدور الإنسان أن يغمض عينيه أو يضع يده ليجمد حالة من البعث الحركي في دائرة الفكر أمام هذا الزخم الهائل المتكثر إلى اليوم، كما أشرت في أول الكلام.
مقومات الراوي:
1 ـ أن يكون ثقة في دينه، فمن لا يتمتع بالوثاقة في الدين، كما لو كان متجاهراً بالفسق، لا يحفظ شيئاً من ثوابت الشريعة في أحكامها امتثالاً لما وجب، ونأياً عما مُنع، فلا يمكن أن يركن إليهم ويؤخذ عنهم. وفي الطوابير المتقدمة من رواة الحديث من يصدق عليه عنوان الفسق والفجور في أجلى صوره.
2 ـ أن يكون معروفاً بالصدق، فربما تكون جميع الملفات سليمة لكنه كذاب مفترٍ، لا يردعه رادع عن الكذب على الله ورسوله وأهل البيت (ع) فإن ثمة من وضع الأحاديث في هذا الباب، وقد أشرت إلى بعضهم في الخطبة السابقة.
3 ـ أن يكون مدركاً لما يحدّث به، فأحياناً تستغرب أن يكون الصحابي أو التابعي أو الناقل للحديث على درجة عالية من الوعي والفهم والعلم والمناظرة، لكنه ينقل أحاديث تُضحك الثكلى وتخجل القارئ، فكيف مرت من تحت طاولته؟ فما لم يكن مدركاً لما ينقل لا يمكن أن يرتب الأثر على شيء مما ينقله.
4 ـ أن يكون على درجة عالية من العلم بحيث يعلم معاني الألفاظ المنطبقة أو المندرجة تحت مركباتها.
فبعض الأشخاص حتى في حياتنا اليومية يستخدم ألفاظاً لكنه لا يفقه مداليلها، فلا يقف على مشتركها ولا يفرز مترادفها، لذلك يقع في الكثير من الأحايين في الكثير من الإشكاليات. وبعض رواة الحديث من هذا الصنف.
5 ـ أن يكون النقل باللفظ لا بالمعنى، وهذا مما دُهيت به السنة المطهرة ومدرسة الحديث. فعندما يصعب على المحدث أو الراوي أو الصحابي أن يأتي بالألفاظ، فإنه يأتي بما يقرب منها ليوصل المعاني، وهنا تحدث حالة من الإرباك الواضح.
تصوروا أيها الأحبة المؤمنون أن حرفاً واحداً يمكن أن يغير على أساسه حكم شرعي كامل، فكيف ببناء طويل عريض يراد من خلاله إيصال المعنى؟
6 ـ أن يكون حافظاً للحديث، أو للكتاب الذي ينقل عنه. فأما عن حفظ الحديث فحدث عن الإشكالية فيها ولا حرج، فتراه يقول: سمعت من رسول الله (ص) وحدثني فلان، وجلست عند أبي الحسن (ع) وهكذا، لكن واقع الحال ليس كذلك، فالأحاديث تكتنفها قرائن، وربما يكون السائل أو من توجّه له الخطاب على دراية كافية بتلك القرائن التي تكتنف الحديث، ويعيش حالها، لكن الآخر ليس في حدود تلك الدائرة من المعرفة التي ترتفع على أساسها حالة اللبس، وهنا تقع الإشكالية، فلا بد أن يكون الراوي حافظاً للحديث والمصدر الذي ينقل عنه. وكم هي الأحاديث التي لا أصل لها.
7 ـ ينبغي أن يكون على درجة عالية من الضبط حتى لا يقع في دائرة التدليس في الأحاديث، فليست المسألة في خطورتها تكمن في وضع الحديث، بل في تدليسه، بل ربما يحظى التدليس بمساحة أوسع من وضعه وإسناده مباشرةً. فهنالك تدليس في الكثير من المواضع، بل هنالك معارضة بأحاديث أخرى مصطنعة في مواضع أخرى.
بعض العلماء جعل ضوابط كثيرة من أجل أن يحافظ على الشريعة في كينونتها وموادها الأولية.
فلا ينبغي أن نحني رؤوسنا احتراماً للكمّ الهائل من الأحاديث، بل في أي مجال من مجالات الحياة، بل ينبغي أن نعتني بالكيف، وعلينا أن لا ننخدع بصحاح هنا أو هناك، أو أصول عند الإمامية هنا أو هناك، وإنما علينا أن نقف أمام ما ينبغي أن نقف أمامه مطأطئي الرؤوس احتراماً لما كان على قدر كبير من الصدق، وأن نرفع رؤوسنا بحثاً عن الحقيقة فيما جاوز ذلك.
مجال تأثير الخبر:
أما المساحة التي يشغلها الخبر، ويترتب عليها الأثر، وربما زج بنا إلى مساحة الخطر أن للخبر الواحد اليوم مدخلية في تحديد عقيدة الناس، حال أن العقيدة لا تؤخذ من الآحاد، إنما تؤخذ نتيجة بحث من إنسان يقوم به هو بنفسه، فلا تقليد في أصول الدين والعقيدة، إنما هذا شأني وشأنك وشأن الآخر، والحديث بذلك يطول.
وكذلك في المساحة الفقهية، فكثير من الأحكام الشرعية تم بناؤها على أساس خبر الواحد وحجيته، وهذا أيضاً يحتاج إلى إعادة صياغة وغربلة، ربما تكون بعضها مشهورة بحيث لو توقف فيها أحد أو أضاف إليها شيئاً لأحدث انقلاباً حتى في داخل الحوزات العلمية نفسها، وهي التي يفترض أن تكون أرحب صدراً فتتقبل الرأي والرأي الآخر.
والأمر الثالث هو المساحة التاريخية، وكم رزئنا بها، وأخجلنا من خلالها، وانتُقص أئمتنا (ع) على أساس نص تاريخي جاء به مجهول الهوية ساقط الديانة والاعتبار. فهل نجعل من تلك القضية المتوارثة الأولى والأخيرة في قضايانا ؟ وعلى هذا فقس ما سواه.
والأخطر من هذه وتلك وما قبلها، هو الخلط والمزج بين المساحات الثلاث، بأن تبنى عقيدة أو مدرسة فقهية على ذلك، أو أن تبنى مدرسة تاريخية والسوس ينخرها من قواعدها. ثم يأتي رابع ليجمع هذا المولود المشوّه.
نسأل الله تعالى أن يمتعنا وإياكم بالعلم والعرفة والتوفيق والتسديد إنه ولي ذلك.
والحمد لله رب العالمين.