الحوراء زينب (ع) أيقونة المرأة المسلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
غفر الله لنا ولكم جميعاً، وأسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى ميلاد عقيلة آل محمد (ص).
في الحديث الشريف عن الحبيب المصطفى محمد (ص): «لا تؤدي المرأة حق الله عز وجل حتى تؤدي حق زوجها»([2]).
وفي حديث آخر عنه (ص) في بيان مقام المرأة التي هي الأم والزوجة والأخت والبنت: «الجنة تحت أقدام الأمهات»([3]).
ويقول شاعر العرب الكبير:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
زينب (ع) غصنٌ في دوحة الهدى:
السيدة زينب سلام الله عليها النسخة المصغرة من أمها الزهراء حبيبة المصطفى محمد (ص) عالمة غير معلمة فهمة غير مفهمة. أهم صفاتها الشجاعة، التي قارعت من خلالها واحداً من أعتى السلاطين الذين مروا في عالم البشرية. والوفاء للإمام المفترض الطاعة، وهذه الصفة تعطي المتصف بها تقدماً في الكثير من المساحات والميادين.
والحياء والعفة، وكم هي المرأة اليوم في مسيس الحاجة أن تستحضر عقيلة آل محمد لتسير وفق معطيات مدرستها والمحافظة على هذا الجانب ورفع الراية عالياً.
والعلم والمعرفة، فهي ربيبة علي وفاطمة عليهما السلام، وفوق هذا وذاك، هي ربيبة وحيٍ يباشر أسماع النبي (ص) لتكون زينب واحدة من الظل في ذلك.
هي زينب (ع) زينة النساء، والمرأة الكاملة الخفرة التي إذا أرادت المرأة عبر التاريخ فيما مضى، أو في الحاضر وما تتمناه، أو في المستقبل وما تتعلق به، أن تتأسى بها، فإن الأيقونة الأقرب والأجمل والأقرب والأصفى الحاكية عن الوجود الأتم للزهراء هي زينب بنت علي بنت فاطمة بنت محمد (ص).
أما بلاغتها فتشهد على علوّ مقامها، فهي نسخة ثانية عن أبيها، فقد وقف علي من فوق أعواد منبر الكوفة ليشرق العالم بالعلم والثقافة والمعرفة والأدب والفصاحة في أوسع مجالاتها.
وأخذ الزمان دورته، فإذا كان علي (ع) تكلم وهو خليفة المسلمين، والقائد العام للقوات المسلحة في الدولة الإسلامية آنذاك، فإن زينب (ع) وقفت أسيرة مقيدة، لكن لسانها كان يفرغ عن لسان أبيها.
استحضرت أباها للمشهد، فتكهرب الوجود من حولها، فأخرست طاغية الكوفة ابن زياد، وألقمته حجراً، وترتب على ذلك أن أنقذت من تبقى من آل محمد (ع) الحامل لناموس العصمة، ألا وهو الإمام السجاد (ع) والباقر (ع) كذلك.
هذه هي زينب (ع) التي نعيشها ونذوب فيها، وهي عمتي وأكتفي بها فخراً.
المرأة أيها الأحبة نصف المجتمع، ولا سلامة للمجتمع ما لم يسلم طرفاه، الرجل والمرأة. فالمرأة أعطاها الإسلام عناية خاصة، وسما بها إلى أعلى المراتب، بدءاً من خديجة التي تحييها السماء تحية خاصة على لسان الأمين جبريل (ع) عندما أُرسل مبعوثاً ليبلغها السلام عن الله عز وجل إلى الحبيب المصطفى محمد (ص). فتكون الرسالة كما يلي: «العلي الأعلى يقرئك السلام». فكم هو من مقام سامٍ! يوجد حالة ربط بين السماء والأرض، وبين الأرض والسماء، ولولا أنها المرأة الكاملة لما عنتها السماء بهذه العناية الخاصة وأقرأتها السلام من أعلى العرش، وعلى لسان أشرف مخلوق شرّف الوجود بوجوده.
وأما الزهراء (ع) فحدث عن فضلها ولا حرج، كيف لا وهي بضعة النبي (ص)؟ كيف لا وهي زوج الوصي؟ كيف لا وهي أم السبطين الحسن والحسين؟ كيف لا وهي أم زينب التي نعيش ذكراها؟
الزهراء (ع) هي الكمال الإنساني في جانبه النسوي، وهي شمسٌ مشرقة، وبكلمة مختصرة: إنها كمال في كمال، لا ينحل عنه إلا الكمال. لذلك جاءت الكوكبة النيرة للأئمة المعصومين (ع) منها حصراً.
أما زينب فما عسى أن أقول؟ وهي التي تمثل الضلع الثالث في الجانب النسوي كمالاً في منظومة الإسلام والمسلمين: خديجة، والزهراء، وزينب.
المرأة في ظل الإسلام:
لقد مرت المرأة بالكثير من التقلبات والتحولات، منذ بدء خليقتها. والتاريخ الذكوري أقصى المرأة وقسا عليها، وهمّش دورها، وفرغ الكثير من المساحات التي ينبغي أن تضاف إليها، لأنها الأجدر على القيام بها.
وجاء الإسلام، الدين الوسطي، دين السماحة والتوازن، فوضع المقاييس وأعطى للرجل دوره، وأطلق له العنان، وأعطى للمرأة دورها، وأطلق لها العنان فيه. وثمة مربعات مشتركة قارب فيها بين الخطين ليخلص إلى خط مستقيم، هو صراط الاستقامة الذي عندما تمثلته الأمة سمت وارتقت ووصلت إلى حيث أرادت. لذلك توسعت رقعة الدولة الإسلامية من شرق الأرض إلى غربها على أساس العلم والأخلاق والمبادئ والتعاون والسماحة، لا كما يقول أصحاب النوايا المغرضة والأقلام المشبوهة بأن الإسلام لم يمض إلا بحدّ السيف، وهي كلمة كبيرة وثقيلة على من يحمل حسّاً إيمانياً.
المرأة قسيم الرجل، والعلاقة بينهما علاقة تكامل، هكذا هي نظرة الإسلام للمرأة. لذلك أسندت إليها المهام الخاصة والأدوار الهامة. فلأهمية دور المرأة في الحياة أولاها الإسلام المزيد من الاهتمام، ووضع القوانين الخاصة من أجلها ليحفظ حقوقها ويدفع التعدي عليها، لأن جانب القوة دائماً وأبداً لصالح الرجل على حساب المرأة، ومن هو الأولى بحمايتها وصيانتها من الاعتداء عليها في البعدين المادي والمعنوي إلا المشرّع الذي يعرف الأمور بكل حيثياتها، حيث إن الحكمة، وإن توزعت أجزاءً على الأمم، فلها ساداتها.
ولتلك الأهمية المسندة للمرأة بنودٌ ومساحات. فقد جعل المشرّع مهمة الإعداد النفسي الشخصي موكلةً إليها، لا أنها تأتي وليدةَ قسرٍ ممن له الولاية عليها، فالمرأة إذا تحررت من قيد الرقيّة، وأمسكت بحبل الحرية الذي كفله الإسلام، سعت لبناء نفسها. وبناء النفس يرتكز على مجموعة من الأمور التي تشكل فيما بينها منظومة واحدة، لا يعني الإخلال بجانب منها إلا إسقاط وإفشال تلك المنظومة التي يراد من خلالها أن ترتقي المرأة وتسمو.
لذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن نعطي للبنت التي سوف تصبح أمّاً في يوم من الأيام ورائدةَ بناء، المساحة الكافية لتعدّ نفسها الإعداد الكامل، كما كانت الزهراء وعلي (ع) يعدان زينب للمهمات الصعبة الخطيرة، بدءاً من التربية ـ وهي أم القضايا ـ إلى ما قد يلزم من طوارئ الأيام وحوادثها.
وبالنتيجة لنهيئ الأسباب ونوفر المواد الأولية من معنوي ومادي لتحرك المرأة عناصر ذلك الشيء هنا وهناك لتصل بعد ذلك إلى المبتغى. فإذا أكملت نفسها أمكن أن نتوخى من وراء ذلك الكمال في جميع الجوانب.
كما أسندت الشريعة للمرأة مهمة تربية وإعداد النشء من أبناء الأمة، وعندما نعود بنظرة خاطفة إلى حلقات تاريخنا الإسلامي الماضي، نجد أن ثلّةً من النساء قد تقدمن في المواقع من حيث صور الكمال، على الكثير من الرجال، وزينب (ع) أنموذج يُرفع ويسار به وفق معطياته. لذلك جاز للشاعر أن يختصر ذلك بقوله:
ولو أن النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
دور المرأة في حفظ الأسرة:
والأمر الآخر المناط بالمرأة أيها الأحبة هو ضبط الإيقاع الأسري، وهذا أمر مهم. وهنا أهمس هذه الهمسة فأقول: أريد من وراء الضبط الأسري أن الرجل عندما يأوي إلى بيته بعد يوم طويل من العناء أفرغ فيه جهده وقوّته، عليها أن تؤمّن له المساحة التي من خلالها تستفرغ جميع الطاقات السلبية التي ترتبت على ذلك العناء والبذل لتهيّئَهُ لتفجير الطاقة الإيجابية، كي يستشرف حياةً سعيدة في بيته ويوماً عملياً ناجحاً في دائرته، وضبطاً عاماً في علاقاته مع المحيط من حوله.
ومن تلك الأدوار أيضاً الاهتمام بأفراد العائلة. فبعض الأمهات أو الأخوات لا يرين من الاهتمام بأبنائهن وبناتهن إلا ما كانت ماركته تمثل الجودة التي لا يتحصل عليها في الكثير من الأحيان قليل الدخل. وأحياناً لا ترى المرأة من مسؤولياتها إلا أن يمثلها هذا الولد أو هذه البنت في الخارج، على أن حالة النظم والانتظام والنظافة موجودة. وهذا جانب مهم، لكنه لا يمثل كامل الصورة، لأن الجانب المعنوي أهم بكثير من الجانب المادي. فما عساني أن أنتفع بمن حسُن مظهره الخارجي وهو ينطوي على روح لا تعرف إلا الخبث والحقد والضغينة. فالاهتمام بأفراد العائلة يكون من خلال غرس القيم والمبادئ والآداب والأخلاق الرفيعة.
والأمر الآخر: الدفق العاطفي، على أن يُقسَّم حصصاً لكلٍّ ما يناسبه، وأن تكون العاطفة المسيطَر عليها عقلاً، والموجَّهة من خلال العقل الذي بني أيضاً على مبادئ أصيلة، هي قيم الإسلام الأصيل التي جاء بها الحبيب المصطفى محمد (ص).
ومن ذلك أيضاً حفظ الأسرار: وهذه تمثل ثغرة خطيرة ـ أيها الأحبة، من الإخوة والأخوات الطيبات المؤمنات ـ فكشف أسرار المنزل يعني الضياع والطلاق، والدمار بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وعلى المرأة أن لا تستصغر القضية الصغيرة التي تحكم عليها من خلال رؤيتها الضيقة، لأن الصغيرة سرعان ما تكبر، فهي أشبه ما تكون بكرة الثلج التي تزداد كتلتها عندما تتدحرج.
فكوني ـ أيتها الأخت ـ حريصة شديدة الحرص على حفظ الأسرار، في الجانب المادي والمعنوي، ففي الجانب المادي لا تكشفي ضعف الزوج، ولا تكشفي مواطن القوة أيضاً في هذا الجانب. فلا تقولي عندنا وكذا وكذا، فالمتربصون كُثر، وأنت أيها الرجل كذلك، كن واقعياً مع نفسك، وعلى المرأة أن تكون واقعية أيضاً، فالكثير من البيوت سُرقت لأن المرأة كشفت الأسرار في الخارج فتصيّد من تصيّد ورسم الخُطط ولو بعد حين، حتى أنزل النازلة وأحدث النكبة في تلك الأسر. وهذا في الجانب المادي، فما بالكم إذا سرى الأمر في الجانب المعنوي؟ وما عسى أن تكون الأمور؟
فصمام الأمان الوحيد هو الدين، وعليك بذات الدين تربت يداك، كما يقول النبي الأعظم محمد (ص) أي المرأة الخفرة التي تربّت في بيت الصلاح والتقى والورع والعفة والسلامة.
فحفظ الأسرار أمر مهم في بعديه المادي والمعنوي. فإذا تم هذا الأمر تقدمت المرأة في البيت وعاش الزوج استقراراً، واستطاع أن يمارس دوره في الخارج بكل ثقة واطمئنان. فإذا بَنت المرأةُ نفسها ما عسى أن ينعكس الأمر على ذلك البيت؟ لا شك أنه يرفع المستوى الثقافي بكل تشكلاته الأدبية والفنية والنقدية وغيرها. ومفتاح ذلك كله أن تكون المرأة قد بنت نفسها، وأن تكون واعية مدركة لجميع نواحي المشهد من حولها، وعليها أن تقرأ لسائر مكون النسوة من حولها، لترى كم تقدمت المرأة وكم ينبغي أن تتقدم لترفع من مستوى الأسرة، فما لم يتحقق لها كأم قد يتحقق لها على يد واحدة من بناتها أو أبنائها ليصبح قرة عين.
الأمر الآخر: وضع حدٍّ للزواج المبكر الذي يتسبب في إسقاط الكثير من مشاريع الزواج، لا لأن الإسلام لم يحثّ على ذلك، لكن الأحكام لا تفصل عن قوالبها الزمانية والمكانية. فالبنت اليوم منصرفة للتقدم في مسارها العلمي على حساب الكثير من مكونات المرأة عند الجيل السابق، فقد تكون البنت في زواجها المبكر قبل عقود مهيأة قابلة لبناء الأسرة والحفاظ عليها، أما اليوم إذا ما زُوّجت فيما كانت المرأة تُزوج فيه آنذاك، فربما تكون العواقب وخيمة، وما لم يرتفع مستوى الوعي فلا يمكن أن نصل إلى شيء من ذلك.
أيها الأحبة: إذا ما درست المرأة وتقدمت فهذا يعني أنها ستؤمّن وضعاً صحياً أفضل لأبويها، وهو ما لم يتسنَّ للكثير منهم تحقيقه، لأننا تأخرنا كثيراً ـ أقصد الجيل المتقدم ـ في الدخول في جانب الضمان الاجتماعي، ولا أدري على من تلقى المسؤولية في ذلك. هل على أرباب فكرٍ أشغلوا أنفسهم في مواضيع لا محصّل من ورائها؟ أو على رجال دين صرفوا الكثير من طاقاتهم فيما لا محصل من ورائه؟ أو على آباءٍ وأمهات وأولياء أمور لم يكن الشغل الشاغل لهم قراءة ما حولهم؟
إن اليوم يختلف عن الأمس، وينبغي أن لا نجلد أنفسنا كثيراً، بقدر ما ينبغي أن نرنو للأمام، وأن نتلمس مواقع القوة فيه. فتحسين الوضع المعيشي للأسرة حقٌّ مشروع للجميع، والإسلام شرع أحكاماً ليرتقي بالمرأة، لا ليصادرها ويضيق عليها، فأعفاها من ضريبة الحرب ووضعها على الرجال، فلا معنى لادعاء من يدعي أن منع المرأة من الجانب العسكري يعني التهميش وحكاية الثقافة المتخلفة، ولا أدري إلى أين يريد هؤلاء أن يأخذوا المشهد؟
وخفف الإسلام عنها بند الشهادات ليحافظ على عفتها وكرامتها، وهذا واضح وبيّن إلا فيما هو النزر اليسير من الموارد التي لا تتحقق الشهادة إلا على يديها، وأبواب الفقه تكفلت بذلك.
وكذلك إعفاؤها من المواقع القيادية في وسط الأمة، لا على الإطلاق، إنما وفق ما هو المقنن، لذلك وجدنا أن الكثير من النساء عبر مسيرة الإسلام، تَقلدْنَ الكثير من الأمور.
وكذلك رفع أعباء النفقة عن الأسرة، وإلزام الرجل بذلك. وهنا لا بد من إشارة مهمة، هي أن المرأة الموظفة ليست ملزمة بالإنفاق على بيت زوجها، وإنما تقع المسؤولية على الزوج، ولكن من الجميل أن يتعاون الزوج والزوجة في بناء الأسرة، فالأبناء ليسوا أبناء للرجل دون المرأة، إنما هم للرجل والمرأة. وها أنت ترى أن حالة الطلاق إذا وقعت تجد أن الأم أكثر تمسكاً بالأولاد من الأب، لكنها تشح في الإنفاق، وترى أنها ليست مسؤولة عنهم.
نسأله سبحانه وتعالى أن يفتح على بنات اليوم اللواتي هن زوجات وأمهات في المستقبل القريب، وأن يأخذ بأيديهن في التطور في جانبهن العلمي والمهني، وأن يفتح أمامهن الآفاق ليحافظن على الأُسر، وأن يقوم أولياء الأمور بواجباتهم كلٌّ بحسبه، والمسؤولية المناطة به، فالمرأة لا تصل إلى مقامات أعطاها لها الشارع المقدس ما لم تتكاتف الجهود، وما لم يتعاون الجميع في الوصول إلى الهدف. فبنات اليوم بتن يتقدمن في مجال المنافسة الفكرية مع الرجال، وهذا مؤشر محفز، لا أنه مؤشر خطر كما يتوهم البعض. وهنا ﴿فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُوْنَ﴾([4]). فإذا تطورت البنت فعلى الولد أن يتطور.
فقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.