نص كلمة بعنوان: مداراة الناس طريق لكمال الإيمان
تكلّمنا في الاسبوع الماضي حول السنّة الاولى التي يستقيها الانسان من ربه وهي الستر، حيث كنا قد تحدثنا عن هذا الموضوع طويلاً. أمّا السُّنة الثانية التي لابد ان تتوفر عند المؤمن حتى يكمُل ايمانه، فهي من سنن النبي الأكرم (ص) وهي مداراة الناس، ولهذه الصفة أو هذا المفهوم قيمةٌ عالية جداً.
الظروف الصعبة التي كان يعيشها العرب زمن البعثة
قد شاء الله تعالى أن يبعث النبي (ص) في أمةٍ هي من اصعب الأمم واشدها مراساً وصعوبةً، ألا وهي الأمة العربية، والسبب من وراء ذلك هو طبيعة البيئة التي كان يعيش فيها المجتمع العربي آنذاك مما حتّم على هذا المجتمع ان يكون قاسياً في شتى جوانب حياته. فالصحراء التي تكاد تكون فاقدة لخصائص العيش قد شغلت المساحة الكبرى من جزيرة العرب، والعرب أيضاً في هذه الجزيرة يتكوّنون من قبائل متناثرة في مساحات واسعة وتفصل بينها مسافات شاسعة ويصعب التنقّل بينها آنذاك، أمّا اليوم فقد تذللت تلك الصعاب بفضل النعم التي أغدقها الله سبحانه وتعالى على عباده، فصار التنقل بين الأماكن البعيدة سهل وميسور، وبمقدور المرأة قبل الرجل والصغير قبل الكبير على ان يتنقل من موقع الى آخر ببركة هذه النعمة.
فبالأمس لم يكن هذا الأمر موجوداً، ويحتاج الانتقال من قبيلة إلى قبيلة أخرى إلى طي الايام والليالي والمفاوز والقفار وتحمل الكثير من الصعوبات بما فيها انعدام الأمن من أخطار الطريق كما جاء في شروط الحج ان يكون الحاج مخلّى السرب، أمّا اليوم ولله الحمد فالسرب مخلّى فالمرأة مثلاً تسطيع ان تخرج من الأحساء الى اقصى نقطة في المملكة وتعود الى أهلها سالمة في وقت قصير. وهذا الكلام غير موجود في ذلك الزمن، فالإنسان آنذاك إن تخلّص من غائلة اخيه الانسان ربما تربص به حيوان مفترس حكمت البيئة الخشنة وضراوتها وأضناه الجوع، والجوع لا يقتصر على الانسان فحسب بل إن الحيوان أيضاً يشارك الانسان في هذه القضية، وهي اشكالية الجوع، فيخرج احياناً طلباً لرزقه المقسوم هو وابن آدم.
وتوجد في التاريخ والمدونات وحتى أجهزة الدفاع المدني وما يصطلح عليه اليوم في الحياة المدنية الحديثة، سجلات ذكر فيها من يذهب ضحية لحيوان مفترس، أما اليوم فحتى الحيوانات قد صارت عندها النعمة مبذولة فلا تهتم بالشكل الذي كانت عليه حيوانات تلك العصور، لذلك فإن الحيوان اليوم روض وذلل بسهولة على العاب السيرك، فترى الحيوان الذي كان يخشاه الانسان، اصبح في طوع يد هذا الانسان.
وفي النتيجة كان المجتمع في تلك الأيام يعيش في مثل هذه الصعوبة، حتى انعكس ذلك على اسمائهم، فلا ترى الوالدين مثلاً يختاران لابنهما في تسميته ما يحمل اللين والعمق والدفق العاطفي؛ بل غالباً ما يستشرفان الاسود ـ أي: العدو ـ نصب أعينهما في ذلك، فيضعان الكوابح بوجه ذلك العدو المفترض، فتبدأ هذه الحالة من الاسم، انظر مثلاً إلى هذه الأسماء: حرب، سقر، لا أعلم ما هذه الأسماء التي إذا نودي بها المنادي أحدهم في ميدان المواجهة فيقول: يا حرب، فيهز الواقع، أو: يقظان مثلاً يعني الذئب، انظر إلى هذه الحالة: حينما تذهب إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة وتسمع بأسماء بعض الهجر مثل: صلبوخ، جلمود ... فتراها منتزعة من طبيعة البيئة التي كانوا يعيشون فيها، وهكذا.
وماذا تتوقع أن تكون نفسيات الناس في ذلك المجتمع مبنية على شيء غير الصعوبة والجهل والفقر، والخوف، والظلم! يعني: إن العربي كان يوماً من الايام لا يأنس ولا يتناول طعامه بهدوء ورغد كما يأكل ابناء الحاضرة حتى ولو تحضر.
الدور الايجابي للمداراة في طبقات المجتمع المختلفة
ففي مثل تلك الأجواء، بعث النبي (ص) إلى ذلك المجتمع الصعب، فكيف يتصرف مع هكذا مجتمع! فلابد أن تكون هناك مداراة، وأن يفرغ الله سبحانه وتعالى عليه من هذه الصفة ويشحنه من هذا البعد، وهذا المفهوم ـ المداراة ـ هو أن يداري النبي الطبقة ولنقل الطبقات وهذا لا يضر، لكننا نتكلم عن فترة ما، أما اليوم فنقول: الطبقات، فلكلّ والحمد لله له اعتداده بنفسه واحترام لشخصيته وقيمته، لكن الطبقة العليا مثلاً في المجتمع المكي الذين يرون في انفسهم علو المرتبة، فلابدّ للنبي من مداراتهم، لذلك ترى النبي (ص) حتى في اروع ساعات الانتصار يقول: ومن دخل دار ابي سفيان فهو آمن، لماذا؟ لابدّ له من أن يداري ابا سفيان، وإلا فسوف يسبب له مشكلة، بل نرى أنه لم يستقم للنبي (ص) وسبب له مشكلة مع أنه قد قام بمداراته، أي: لم تنته القضية بعد، فما بالك لو لم يكن النبي قد داراه؟! وماذا كان يفعل أبو سفيان حينئذٍ؟! نعم، لكان يأوي إلى كهف من الكهوف ويجند الجنود من جديد ويخرج مع حمالة الحطب رقم اثنين وتقرع الطبول وتجتمع العرب من هنا وهناك، ثم يذهب النبي ضحية ذلك، ولا يكون غير هذا لان الطابور سيتحول من الشرك الى النفاق، والنفاق اخطر من الشرك، لأن الشرك مكشوف وجهاً لوجه، أما النفاق فلا شيء من ذلك، فالمنافق يصلي وراءك ولا تعلم بنفاقه، ويزورك في بيتك لكنك لا تعرفه، فهذا هو المنافق ـ البعيد من مجالسكم الشريفة مجالس المؤمنين ـ لكن المشرك يقول لك وجهاً لوجه: إذا كنتم تريدون عبادة الله فاعبدوه لكن دعوني أعبد ربي ولا شيء أكثر من هذا، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}([2])، فلابدّ للنبي (ص) من أن يداري هذه الطبقة.
أما الطبقة الثانية الذين لابد من أن يداريهم النبي (ص)، فهم الفرسان الذين بلغ بهم الموقف مبلغاً أن يأتي الاعرابي إلى النبي (ص) فينطق بالشهادتين على يد الرسول ويتلبس بلباس الدين لينال من بيت المسلمين بلغته، فلم يكن هدفه من ذلك هو الإسلام، لكنه يقول لنسلم ولنقل هاتين الكلمتين، لنأخذ العطاء من بيت مال المسلمين ولنضمن سلامة أهلنا في قراهم ومدنهم وباديتهم آنذاك.
فهؤلاء تلزم مداراتهم أيضاً، لأن منطق هذه الجماعة الثانية ليس بأقل من منطق الجماعة الأولى، فهذا ابن الصحراء البكر، أما ذاك فلم تمسّه غلواء الصحراء وحدّتها ولهبها كما في هذا، فاُتي بالغنائم بين يدي النبي (ص) في احدى الغزوات التي صار النبي يوزع غنائمها بما له من الولاية، وكان منفذ هذا الأمر ابو رافع خازن بيت مال المسلمين يوزع عليهم بالسوية، وبطبيعة الحال اذا جاءك آخر هذا الأمر العربي باسم قبيلة كاملة ودخل إلى الاسلام فإذا وضعه النبي في مصاف عمار بن ياسر فهذا لا يمكن، وإذا جعله مع جندبة بن جنادة أو مع بلال فلا يمكن أيضاً، لذلك فما كان منه إلا أن وضع يده وجمع ثياب النبي (ص) الى رقبته وقال له: اعدل يا محمد، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} فماذا ستفعل الأمة { لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }([3])، يعني: لتركوك وحدك، وهذه رسالة النبي (ص)، حينها التفت إلى علي (ع)، وهو من يرضى الله لرضاه، ومن الصحابة الذين هم طبقات والغالبية العظمى بنفس الوقت كانوا بداة، طبعاً منهم من تحضر ومنهم من تثقف قليلاً مثلما نراه اليوم في مساحات العرب فالبدوي لا لانه من الجزيرة العربية فقد يكون بدوياً في المغرب أو بدوياً في الصومال أو في ايران، فهؤلاء اعراب، يعني: في النتيجة هذا قابل لأن يتثقف أو لا يتثقف حسب الجو الذي يعيشه.
وفي النتيجة جاء هذا الى النبي (ص) ـ لا اله الا الله ـ فأعطأه مالاً، فقال: لكن انت ما انصفتني. فنحن أحياناً ـ مع شديد الأسف ـ لا نقيّم الناس الا وفق المظهر، وهذه كارثة لأنها تصطدم مع النص الشريف: (إن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة :... وأخفى وليه في عبادة فلا تستصغرن عبداً من عبيد الله، فربما يكون وليه وأنت لا تعلم)([4])، ذلك لأن ولي الله سبحانه وتعالى قد صلحت المضغة التي في داخله، فلا أنا أعلم ما في نفسك ولا أنت تعلم ما في نفسي، لكن في النتيجة يوجد هناك تمايز بيني وبينك، وبينك وبين الآخر، وهكذا، فهذا أمر موجود لكنه غير منكشف، ومتى ما انكشف الأمر ووضع الحساب يوم القيامة وعرضت ملفاتك تلك الساعة فحينها لا السيد محمد رضا الذي أم الجماعة افضل من المأمومين ولا فلان الآدمي الذي صار رئيساً افضل من المرؤوسين، أو الأب افضل من عياله، أبداً، فنرى حسابات ذلك اليوم حسابات مختلفة، ونتائجها نتائج مختلفة.
حسناً، فأراد أحد الصحابة حسب ما يحمله من ثقافة، أن يقطع لسان ذلك الاعرابي لأن النبي (ص) الذي كان يملأ الكون خُلُقاً وسماحة، حينما التفت الى علي (ع) قال له: اقطع لسانه! فنشاهد الامام علي (ع) وكما نقول نحن اليوم: الحر تكفيه الاشارة، فكان هو على نفس الاسلوب أي: هلا قطعتم لسانه يعني: هلا كففتموه عني، فلم يكن معنى ذلك هو التقيد بالمعنى الحرفي للجملة، فالامام علي كانت له قراءة تختلف عن قراءة ذلك الصحابي، ونحن حينما نأتي إلى نصوص اهل البيت فإن نصوصهم تحتاج الى التنوع في القراءة، وكل منا ينهل منها بحسب ما عنده من بضاعة، فماذا أراد أن يفعل ذلك الصحابي طبقاً لما يحمله من بضاعة؟ أراد أن يقطع لسان ذلك الأعرابي وأن يجري له عملية مستعجلة وعلى حسابه الخاص! لكن الامام علياً(ع) بالقراءة الثانية التي نحتاجها اليوم في هذا الزمن العسر، أخذ ذلك الاعرابي وأشرف به على بطن الوادي المملوء بالخيرات والغنم المجلوب من المعركة التي حسمت لصالح المسلمين، فيقول له: خذ ما تبلغ به بُلغتك، ـ خذ من قطيع الغنم الذي امامك؛ خذ الحاجة وانصرف الى اهلك معززاً مكرماً، وفي النتيجة فما ظنك بهذا الأعرابي أن يكون للنبي والامام علي؟ نعم، يكون لهما كالحديدة المحماة أينما يوجهانه يتوجه، فتكون نفسه التي بين جنبيه أرخص شيء يقدمه للنبي’.
دعونا نطبق درس علي(ع) في حياتنا، فما ظنك لو جاءنا أحدهم وقال لي كلمة اقل من تلك الكلمة، ماذا كنا لنفعل به؟ فعلى أقل التقادير كنا لصفعناه، وهو ما يحدث احياناً من الأب مع ولده، وولده في الواقع قطعة من كبده، ويحدث هذا لأتفه الأسباب، وعينه يحدث للأسف مع هذه المرأة المسكينة التي جاءت الوصية بها: (... رفقاً بالقوارير)([5])، يقول النبي (ص) هذه امانة في يدي ويدك، بينما نشاهد في مجتمعنا على اقل هفوة أو خطأ منها ترى الرجل يأخذ بهذه المسكينة ضرباً لماذا؟! فيجب علينا أن نعتبر من ذلك ونستلهم درساً نطبقه في حياتنا. فالمدارة مع العيال أمر لابد منه، فلا يذهب بك الأمر إن رأيت ولدك قد جعل له قصاصتان من الشعر مثلاً أن تجعله افسق الفاسقين، لا، فالنبي’ كانت له ذؤابتان من الشعر والحسن والحسين (ع) كانا كذلك أيضاً ـ اللهم وجهنا للاتجاه الصحيح ـ وماذا ينفعني لو كان ولدي مستجيباً لدعوتي تلك لكنه لا يعلم أن يقع المسجد، بل إن كان شعره طويلاً لكنه مرتب ويأتي إلى المسجد، فهذا بلا شك أفضل بكثير من ذلك الأمر، لا، هذا هو ولدي الصحيح، ولا داعي إلى جعل الأمر أكثر تعقيداً.
فلنرفع هذا الشعار (مداراة الناس): مع الزوجة، والاخوان، والاصحاب، وشركاء العمل، وهو سنة من سنن النبي (ص).
اللهم اجعلنا من المدارين لأنفسهم ولإخوانهم ولمن يعز عليهم، وفقنا الله واياهم.