نص كلمة بعنوان: رمزية الشيخ الأوحد (قدس)
ذكرى العروج الملكوتي
في مثل هذه الليلة عرجت روح شيخ المتألهين احمد بن زين الدين الاحسائي (رضوان الله تعالى عليه) الى بارئها، واذا كان للشيخ الاوحد حق على الامة قاطبة وهو كذلك فمن باب اولى ان يكون له الحق المؤكد على اهل هذه القرية لأن الشيخ (رضوان الله تعالى عليه) ولد فيها ودرج على ترابها وتنسم من هوائها وشرب من مائها وتقلب بين اوساط المؤمنين فيها.
الشيخ احمد بن زين الدين رحمه الله شخصية طاردتها اقلام الذين لا يتفقون معه طريقة ومذاقاً ومشرباً علمياً في حال ان القواسم المشتركة بين المؤمنين اكثر من ان تعد وتحصى.
الاشكالية التي نعيشها في الكثير من ميادين الحياة التي نتنقل بين جنباتها هي اننا لا ننظر الا الى المساحة الفارغة من الكأس اما المساحة المملوءة من الكأس فكأنها لا تعنينا من قريب ولا من بعيد ولسوء حظ الامة وتقديرها أن لا تقرأ الاشياء الا من خلال هذه النظرة القاصرة وهي ان تنظر الى الجهة الفارغة او المساحة الفارغة من الكأس ومنها تجعل انطلاقة للتعامل مع مجمل القضايا من حولها وعلى هذا الاساس فهي لا ترى في الرجل كريم كرمه وانما تبحث عن نقاط الضعف في شخصية الكريم كذلك هي لا تعطي لفاعل الخير مكانته في وسط الامة ولا تقدر له جهده الذي يبذله في الصالح العام من حوله وانما تتعقب نقاط الضعف التي لا يستطيع ان يدعي احد انه ليس في رصيده ما يعني هذه الصفة صفة السلب أو النقص. نعم، ان الكمال المطلق محصور فيمن اختصهم الله بالكمال المطلق وهم محمد وآل محمد وما عداهم يتفاوتون في مدارج الكمال وفي رتب الفضيلة وفي مواقع السمو والرفعة وبقدر ما يتقي الانسان وبقدر ما يتعلم وبقدر ما يحظى بلطف من الله سبحانه وتعالى، فهذا الانسان يرتقي، اما اذا زرع الانسان العقبات بينه وبين نفسه وبينه وبين مجتمعه وبينه وبين ربه فالنتيجة محسومة بلا شك وحينئذ يقرأ الانسان كأساً فارغاً من رأسه الى قدمه والعكس الصحيح ونحن وُجدنا على وجه الارض اصلاً من اجل ان نسير لكي نصل الى ارقى الدرجات.
ان شيخ المتألهين رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة، كانت بين جنباته روح اودعها الله سبحانه وتعالى في هذا الجسد وهي من القوة بمكان بحيث يجد ان من الجناية ان تصرف هذه الطاقة في غير موردها لذلك سعى لاستثمارها منذ اليوم الاول، والمسار الاول الذي عنى به هو تزكية النفس، والإنسان في مرحلة الطفولة صحيفة بيضاء ينقش فيها حتى الخيط الذي لا يرى عادة وهو النور فأن يحافظ الانسان على هذه الحالة من الصفاء فهو بحد ذاته انجاز وانجاز كبير لأنها المساحة المطلوبة والمطلوب توفيرها من اجل استقطاب الفيض من قبل الله سبحانه وتعالى، والشيخ الاوحد هو ممن حافظ كثيراً على ان يبقى صافياً في هذه المساحة، والروح صافية قابلة للاستقطاب، ومن ضمن الاشياء التي حُرب بها الشيخ (رحمة الله تعالى عليه) هو انه (رضوان الله تعالى عليه) لم يتقلب على ايدي الفحول من العلماء وليت شعري هل هي خطيئة ام حسنة؟! فمن يحتاج الى الأساتذة هو من بحاجة الى الاساتذة واما من يمتلك قدرة ذهنية هائلة اكثر من مساحة التوجيه فلا يحتاج الى استاذ والتشرف بحضور محضره, وكل من ترجم للشيخ الاوحد يجمع على ان الشيخ الاوحد حينما وصل الى العراق واراد الاستجازة من اقطاب الطائفة واركانها في الحوزتين كربلاء المقدسة ـ التي كانت تعيش عصراً ذهبياً وقتئذ ـ والنجف الاشرف ـ التي كانت تستعيد قواها من جديد ومرت في مثل هذه الايام ادوار على النجف غير طبيعية لكن بوجود مولى المتقين وسيد الوصيين الامام علي (ع) فالحوزة متماسكة وبجهود الاعلام ايضاً تم الحفاظ على هذه البذرة ـ أجازه اقطاب هاتين المدرستين وأفاد بعضهم مبيناً الاجازة: لقد استجازني من هو بالإجازة حري، فاذا كان كذلك فمن باب اولى ان يستغني هذا من الاستاذ، وعليه فمن يقول ان الشيخ الاوحد لم يتقلب على ايدي الاعلام والاقطاب هو مشتبه جداً فالشيخ الاوحد تقلب على ايدي الاعلام في هذه المنطقة يعني الاحساء مسقط رأسه ورحل الى البحرين رغبة في تحصيل العلم ولكن مع ان البحرين كانت تحظى ايضاً بكم هائل من رجالات العلم والفضيلة الا انه لم يجد ما يشبع نهمه فقد كان لديه حب غير طبيعي في تحصيل العلم فرأى ان جلوسه في البحرين لا يقدم له خطوة إلى الأمام وهذا موجود في الاحساء فلماذا يتغرب؟ فذهب إلى جانب العراق باعتبار أن الشيخ يؤكد على جانب تهذيب النفس والمحافظة على حالة الصفاء من جهة أن للمعصوم (ع) انعكاس على النفس فمن الطبيعي أن نحس انا وانت بتلك الحال أن الركعتين اللتين نصليهما في البيت غير الركعتين التي نصليهما في المسجد وهاتين الركعتين غير تلك الركعتين التي نصليهما عند مولى المتقين وهكذا...
فالشيخ الاوحد (قدس سره ونور ضريحه) قد حظي بهذه الخاصية في النجف الاشرف وفي كربلاء المقدسة ان عاش انساً بالمعصوم (ع) مما ولد عنده اشراقاً في ظني اما قصر البضاعة في التعاطي مع نصوص القرآن او الاعراض لحاجة في نفس يعقوب قضاها البعض يتعامل مع بعض الرموز مديراً ظهره لهذه الثوابت القرآنية ماذا يقول القرآن؟ القرآن يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}([2]) فالقرآن لا يقول وتعلموا لتكونوا من المتقين بل القرآن يجعل من التقوى ومن الورع ومن التوجه الى الله مقدمة لتحصيل مساحة على اساس منها يحصل الاشراق وتتفجر ينابيع الحكمة كما هو معطى روايات اهل البيت (ع) في قلب الانسان فنحن نقول من يستكثر ذلك على شيخنا الاوحد (رضوان الله عليه) هل يستكثرها في عطاء الله سبحانه وتعالى؟ وهل يستكثرها على معطيات النص القرآني؟ جاء في روايات اهل البيت (ع): (ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)([3]) وفي حديث آخر: (من أخلص لله أربعين يوماً فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)([4]) في نص ثالث: (من أخلص العبادة لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)([5]) فلم يقل الحكمة بل قال ينابيع الحكمة يعني جذوة الحكمة واساسها وانت لا يمكنك ان تحيط بالمعلومات كلها لكن الاصول والقواعد والعناصر المشتركة فيما بينها التي تولد نتيجة هذه وليدة النور اللطف نحن دائماً نقول فلان موهوب لما ترى فيه شيئاً من المدركات الخاصة المتقدمة على الآخرين فنقول موهوب، وهنا أسأل سؤالاً ومن حقي ان اسال باعتباري احسائياً هل قدر للموهوب حتماً وجزماً ان لا يكون من اهل الاحساء؟! يعني هل حصر على الموهبة ان تكون خارج الاحساء والا لما صارت موهبة؟ عجب رغم ان ارض الاحساء الاكثر استجابة واهل الاحساء الاسرع مبادرة والاكثر ليناً ومسالمة قلب صفحات التاريخ ما من بقعة من بقاع الارض خاطبها النبي بالإسلام الا وقاطعته وحاربته الا هذه المنطقة استثناءً اعرض الارض اعرض التاريخ امامك فلا ترى إلا الاحساء حيث خرج منها وفد من بني عبد القيس الى المدينة يحملون الهدايا معهم ويشهدون لله بالربوبية ولمحمد بالرسالة لكن من المعلوم ان النجاح يغيض بعض الاطراف خصوصاً اذا كان الانسان يرفد النجاح بنجاح آخر وهذا يشكل مشكلة في نفوس البعض وبذلك يجنون على أنفسهم فتكون عندهم حالة مرضية لا صحية في وسط الامة، والا فإن الامة التي تحترم نفسها وتقدر شأنها يقتضي ان تجعل من ذلك الانسان الذي يرفد النجاح بالنجاح رمزاً يعتز باسمه وبعنوانه وبرسمه وبعطائه ويفاخر بينه وبين المجالس الاخرى.
الشيخ الاوحد (رضوان الله تعالى عليه) طرق باب الادب وله فيه قدم صدق ثابتة ومن الجميل انه لم يكتب شعراً خارج دائرة محمد وآل محمد حتى في باب الحكمة يتخلص في النهاية الى واحد منهم (عليهم الصلاة والسلام) فعلامَ يدل هذا؟ هذا دليل على الارتباط الوثيق بهم (عليهم السلام) وكذلك طرق باب التفسير وطرق باب الحكمة وطرق باب العرفان في ابعاده الثلاثة وطرق باب الفقه وآراؤه في هذا المجال خالدة وثابتة كما طرق باب الاصول أيضاً، فترى هذا الكمال وهذه العظمة لم تسلم من المطاردة والمقاطعة والمحاربة الى اليوم، التي نعيش طرفاً منها في هذه الايام ولا يتصور احد ان هذا شيء جديد بل هو كتاريخ يتجدد مع كل اشراقة فحينما ترى انساناً يحقق في الفضاء العام شخوصاً وحضوراً وبروزاً ويبز الاقران ويصبح ككوكب بين مجموعة من النجوم فهو أمر طبيعي وحالة طبيعية لان الامة هذا نصيبها وليس لها حظ اكثر من هذا ولا يستدعي هذا الأمر إلى التسقيط حيث صدرت اليوم في حق الشيخ الاوحد فتاوى ضده بالتضليل وبالكفر وهذا الشيء الذي اقوله لا اريد ان استدر به عاطفة احد فهذا موجود في كتبهم ومن تعرض للشيخ الاوحد بالترجمة نعته ونقل أقوال بعضهم عنه وثبت قول بعض العلماء مع شديد الاسف وهؤلاء غابت اسماؤهم ودرست آثارهم ومحيت قبورهم لكن الشيخ الاوحد (رضوان الله تعالى عليه) بقي اشراقه يقطع التاريخ كلما امتد.
نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يروح روحه الطاهرة وان يجمع بينه وبين من احب وذب من اجلهم وجاهد من اجلهم وكافح من اجلهم وبذل الغالي والنفيس في سبيلهم، رحمك الله يا شيخ المتألهين وجمع الله بينك وبين محمد وآله الطاهرين ونفعنا الله بعلمك وجعلنا ممن يرفع رأسه بك لعظمته، أما اولئك فقد حاروا فيه فمرة قالوا: اصولي واخرى قالوا: لا اخباري ومرة قالوا: عارف ومرة قالوا: لا فيلسوف واخرى قالوا: لا اصلاً ما عنده شيء في الفلسفة! عجيب وغريب، لكن لا تُرمى الا الشجرة المثمرة فكم من شجر امريكي يملّونه فيقطعونه لكن شجرة التوت أو شجرة الرمان تبقى شامخة والشجرة المثمرة مثمرة، ومما نفتخر به هو انه من هذه الارض وتشكلت من تراب هذه الارض نطفته الاولى وسقيت بماء هذا البلد اكل من ثمارها وكانت استراحته وخلوته وجلوته ـ فعند اهل السير توجد امور غير طبيعية مثل خلوة وجلوة مع الله سبحانه وتعالى ـ في مسجد البابه والذي ربما ان تسعين في المائة من اهل المطيرفي الآن لا يعلمون أين. هذا حض الدنيا بعد. وفقنا الله واياكم، الفاتحة لروحه وروح من مضى علينا وعليهم.