نص كلمة بعنوان:جانب من سيرة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم

نص كلمة بعنوان:جانب من سيرة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم

عدد الزوار: 493

2013-02-19

في الحديث الشريف: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»([2]).

تمرُّ بنا هذه الأيام ذكرى رحيل المرجع الكبير آية الله العظمى الإمام الحكيم (قدس سره الشريف) وهو أحد المراجع الذين رجع إليهم أبناء هذه المنطقة الطيبة بأهلها، في تقليدهم، في فترة من الزمن.

والإمام الحكيم (قدس سره) قامةٌ علميةٌ كبيرة، ورجلُ جهادٍ مقدس، وصاحبُ نفسٍ كبيرة، تتلمذ على يد أقطاب المدرسة الأصولية والفقهية في النجف الأشرف، الحوزة الكبرى لأتباع مدرسة أهل البيت (ع)، فنهل من نمير علومهم، وصُقلت مواهبه، وبزغ كالشمس في رابعة النهار.

انخرط في صفوف المجاهدين بوجه الإنكليز عندما أرادوا استعمار العراق، وذلك تحت راية الحوزة العلمية المتمثلة في المرجعيات الكبرى وقتئذٍ، كالسيد محمد سعيد الحبوبي وغيره.

وتأثر بأساتذته كثيراً، وهكذا عندما تفتش عن الأسرار التي تقف وراء الشخصية الكبيرة، التي جعلتها توصف بذلك الوصف، تجد أنها قد ارتوت من منابع صافية، وتقلّبت في أحضان قامات كبيرة جداً، بل لا يمكن أن يصبح العظيم عظيماً ما لم تكن هنالك أرضية مهيأة له، وما لم يكن في تلك الأرضية أيضاً من ينهض بالمسؤولية تجاه الشخصية التي يُفترض أن تكون في يوم من الأيام رقماً يحسب له ألف حساب.

لقد تصدى الإمام الحكيم (قدس سره) لكرسي التدريس في حوزة النجف الأشرف، والتفّ حوله جمهرة كبيرة من أهل الاجتهاد والتحصيل. وامتاز بمدرسة الفقه، حال أنه خلّف وراءه تعليقة على أهم كتب الأصول، وهي تحت عنوان: حقائق الأصول، وهو تعليقة على كفاية الأصول، للشيخ الكبير الآخوند الخراساني.

ومما يدلل على سعة أفقه في التفريع الفقهي، وفي استنطاقاته لروايات أهل البيت (ع) ما تضمنه كتابه الكبير النافع، الذي أوصى به السيد الإمام (قدس سره) وصية خاصة، ألا وهو (مستمسك العروة الوثقى)، وهو عبارة عن خلاصة مرئيات هذا الإمام الكبير في استنباطاته الفقهية.

والعروة الوثقى من أكثر المتون الفقهية تفريعاً، كتبه السيد محمد كاظم اليزدي (رحمه الله)، وهو أحد أقطاب مرجعيات الطائفة، وكان في النجف الأشرف، وهو الذي تخرج على يديه فطاحل وجوه مدرسة أهل البيت (ع) في القرن المنصرم. ولمستمسك العروة الوثقى من الأهمية ما يُقرِّبه لنا أصحاب الفن، فلا يكاد فرع فقهي يطرح من خلال بحوث الخارج، التي يتصدى للقيام بها مراجع الطائفة وعلماء البحث الخارج من المستوى العالي، إلا ويكون لهذا الكتاب حضور، بل لا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً، إذا ما أراد طالب العلم أن تكتمل لديه الصورة وهو في طريقه لاستنباطاته للأحكام الشرعية، ما لم يقف على مرئيات هذا العَلَم الكبير. ويمكنك من خلال تصفح ذلك السِّفر، أن تقرأ فيه أكثر من مرجع ومرجع، وأستاذ وآخر.

وقد منَّ الله تعالى بهذا السيد الجليل على الطائفة في واحدة من أكثر الانعطافات خطورة وعصفاً بالمجتمع، ألا وهي فترة المد الأحمر الشيوعي. فكانت له في هذا الجانب فتوى شهيرة، كان لها الكثير من الصدى والأثر والتحصين للجيل الواعد من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) في تلك الفترة، من أن تنزلق بهم الأمور إلى الهاوية.

كما منَّ الله تعالى عليه بمجموعة من الأبناء، وليس كل الأبناء أبناء، فقد لا يكون للمرء إلا واحدٌ من الأولاد، إلا أنه يعادل الآلاف، وقد يكون الأولاد كثيرين، لكنهم غثاء كغثاء السيل، وقد يكون له أبناء كثيرون، وفي الوقت نفسه على درجة عالية من القيمة والأهمية، وهذا الصنف الثالث هو الأفضل بلا شك، والإمام الحكيم كان من هذا الصنف، فقد أنعم الله عليه بأبناء كانوا في القمة.

فمن أبنائه آية الله السيد يوسف الحكيم، وهو ممن عرضت عليه أمور المرجعية قبل أن تؤول الأمور للسيد الخوئي (قدس سره) وهو الآخر أحد مراجع الطائفة، وممن رجعت له هذه المنطقة أيضاً، لكن السيد يوسف نأى بنفسه عنها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما كان يحمله ذلك السيد الجليل من حيطة وحذر لنفسه.

يقول السيد الإمام (قدس سره) بحق هذا السيد الجليل، السيد يوسف الحكيم: رؤيته تذكّرك بالله سبحانه وتعالى. فأي مقام رفيع هذا؟! فهو نموذج فذٌّ في هديه وعبادته وسلوكه وطريقته.

ومن أبنائه أيضاً آية الله السيد محمد حسين الحكيم (رحمه الله)، الذي تربى على يديه أيضاً جيلٌ من فضلاء الحوزة العلمية، وهم اليوم في مرحلة التصدي للبحوث العليا في الحوزات العلمية في النجف وقم.

وقد أُشخص هذا السيد الجليل مع ستة عشر كوكباً من ذرية الإمام الحكيم (قدس سره) وقتلوا صبراً وهو ينظر إليهم. فأي قلبٍ صابر ثابت هذا؟!

ومن أبنائه أيضاً شهيد المحراب، آية الله المجاهد المظلوم السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) وهذا الرجل العظيم يُعدّ واحداً من حملة التفسير الحركي للقرآن الكريم، وله في هذا الجانب دروس، طبع جزءٌ منها. وقد أجيز في الاجتهاد وهو دون العشرين عاماً من العمر، من قبل آية الله العظمى الشيخ مرتضى آل ياسين، خال الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) وتلك الإجازة مكتوبة بخط الشهيد الصدر (قدس سره الشريف).

كان شهيد المحراب (قدس سره) قامة علمية وجهادية من الطراز الأول، وقد شعر أعداء أهل البيت (ع) وأعداء الإسلام والإنسانية أن هنالك خطراً يكمن في بقائه في الوسط الحوزوي النجفي، لأنه سوف ينهض بمسؤولياته كما ينبغي، مع انسجام وانصهار منقطع النظير في المرجعيات النجفية. فقتل في ذلك المشهد المأساوي مع قرابة 180 ـ 200 فرد ما بين قتل وجرح، وهم يخرجون من صلاة الجمعة في الأول من شهر رجب، وكان القسم الأكبر منهم صائمين، وطويت صفحة مشرقة بعد مسيرة جهادية طويلة.

ومن أبنائه أيضاً آية الله الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، وهو من قرر أبحاث آية الله العظمى السيد محمد الروحاني (رحمه الله)، تحت عنوان كتاب المنتقى، الذي يعتبر من الكتب المهمة في دورة الأصول. وكان يُقرأ فيه مشروع مرجعية تعيد المشهد ودورة التاريخ من جديد، فكان يحمل معالم شخصية والده الإمام الحكيم، مع حالة من النبوغ، وقد انفتح على أكثر من لون من ألوان العلم والمعرفة خارج دائرة الفقه والأصول، وتأثر وتربى على يديه جيل من طلبة الحوزات العلمية.

والخطر إنما يُشخَّص في الإنسان، لا سيما في طالب العلم، عندما يكون بارزاً مبدعاً، يفرض وجوده في الواقع، وعندئذٍ تبدأ عملية الاستئصال، كما لو كان مؤلفاً، أو مربياً لجيل من التلامذة، أو نشطاً اجتماعياً، أما إذا كان خاملاً فلا أحد يشعر بخطره وأثره.

لذلك شعر البعثيون أن بقاء السيد عبد الصاحب الحكيم، يعني رجوع الإمام الحكيم إلى الواقع من جديد، وهم يعلمون أن الإمام الحكيم هو الذي ضربهم في مقتل فأوجعهم، وأقضّ مضاجعهم، فبادروا إلى التخلص منه مع كوكبة من أسرة الإمام الحكيم (قدس سره).

ومنهم أيضاً آية الله المجاهد الشهيد السيد مهدي الحكيم، الذي مارس العمل الاجتماعي والسياسي والجهادي، وكان له الدور الكبير في ذلك، حتى ختم حياته بالشهادة على يد الظالمين، حيث اغتيل في السودان عام 1987 م .

إن أسرة الإمام الحكيم، أسرة علم وشرف وتقوى وأخلاق وإيمان وصبر وتضحية منقطعة النظير.

وقد ارتبطت منطقتنا هذه بمرجعية الإمام الحكيم، وكان مرجعاً واعياً، لذلك التفت للكثير من القضايا، وحاول أن ينهض بالمجتمع الأحسائي، ولكن لم تكن الذهنيات آنذاك تتماشى مع سعة أفق ذلك المرجع العظيم.

فمثلاً، كان الإمام الحكيم في تلك الفترة يؤكد ضرورة إقامة الحوزة العلمية في الأحساء، وإعادة أمجاد الماضي فيها، وهي واحدة من لفتاته الكريمة، لكنها لم تجد أذناً صاغية تتماشى مع قوة الطرح، أما ما هي التبريرات؟ وكيف كان الوضع آنذاك، فهذا أمر آخر، ولكننا لا بد أنت نقلّب تلك الصفحة التاريخية ونقرأها.

كما أنه كان يأمل في إقامة مشروع ينهض بالمجتمع من واقع تراجعي إلى واقع تقدمي، وكان يضع يده على الدائرة التي يكمن فيها موطن الاستصلاح، فيما لو أراد المجتمع أن يصلح، ألا وهو البعد الاقتصادي.

ورحل الإمام الحكيم رضوان الله تعالى عنه، وآلت الأمور بعد ذلك إلى غيره، ووفاء لحقه علينا في ذكراه، اخترت هذه اللمحة لأنتزع منها درساً، وهو أننا لا يكفي في تقليدنا أن نقول: إننا نقلد المرجع الفلاني أو الفلاني فقط، إنما يجب أن نعرّف مراجعنا لأبنائنا وبناتنا، ولو بصورة مختصرة بسيطة، فها نحن نرى أبناءنا يحفظون الكثير عن رموز كرة القدم مثلاً، أو بعض المشاهير في العالم، لكنهم يجهلون الكثير عن مراجعهم، وهي ظاهرة غيرة محمودة.

من هنا فإنك إذا عرّفت ولدك على المرجع ازداد له حباً، وتمسك به، وتفاعل مع آرائه، وهو ما نريده ونصبو إليه.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.