نص كلمة بعنوان: القرآن الكريم هدية السماء للرقي بالأمة
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ ([2]).
بارك الله لكم جميعاً ذكرى المولدين الشريفين، مولد منقذ البشرية الحبيب المصطفى (ص) وذكرى ميلاد حفيده الأكرم، الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) .
وبين المناسبة والمناسبة صراط مستقيم، حلقاته أنوار ملكوتية تجسدت في عليٍّ وأبناء علي (ع) فمن عليٍّ (ع) إلى الحسن (ع)، ومنه إلى الحسين (ع)، ومنه إلى السجاد (ع) فالباقر (ع) فالصادق (ع)، صلوات الله عليهم أجمعين.
صراطٌ لو فتشت عن حدود معالمه، فلن تهتدي إلى مرشد يدلك على الطريق، إلا من أُمرت بالأخذ عنه، وهو الأسوة والقدوة. فنحن لا نحارُ عندما نفتش عن المرشد، ولا عندما نبدأ بوضع أقدامنا على الطريق، ولا عندما نرسم الهدف أمامنا، ولا عندما نقترب من الهدف، ولا عندما نأتي يوم القيامة ونحن نحمل بين أيدينا ملف أعمالنا؛ لأننا افتتحنا الملف حين التكليف باسم محمد (ص) ونختمه عند الوفاة باسم خاتم الأئمة، الخلف الباقي من آل محمد (عج).
نقرأ في زيارتهم (ع): كلامكم نور. فكل البشر يتكلمون، لكنهم يتفاوتون فيما بينهم، من حيث البناء الكلامي، لكنّ هناك معيناً صافياً لن تقف على ساحله إلا عندما ترنو إلى هذا الجانب، ألا وهو ذات اليمين. ففي اليمين يباشرنا الهدى، ويضيء طريقنا نور الولاء.
أيها الآباء ... أيها الشباب الطيب المبارك... أيها النشء الجديد، يا من نقرأ فيك الكثير: إن نبينا (ص) وأئمتنا (ع) قدموا الدعوة لنا قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فلنسارع إلى حضور مجالسهم، وأن نجتمع على مآدبهم، لأجل شيء واحد، هو الوصول إلى الرضوان الأكبر.
فأهل البيت (ع) نورٌ واحد، تتعدد المراحل زماناً ومكاناً وأشخاصاً، لكن النور واحد، هو الذي يعني فيما يعنيه: أولنا محمد، وأوسطنا محمد، وآخرنا محمد (صلوات الله عليهم أجمعين).
وقد تعطلت الاستجابة لهذه الدعوة لحقب من الزمن، وربما قرون، لكنها في هذا العصر باتت تشكل تجسيداً واقعياً يحمل من السمو والرفعة ما لا يقاس به ما مضى، لأننا نقترب شيئاً فشيئاً من ساعات الفرج الأكبر.
أيها الأحبة: من غاب من أئمتنا عن ساحة الوجود الخارجي، فهو لا زال يكلَأُنا بعنايته، لأننا نعتقد أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، يسمعون الكلام، ويردون السلام، فالسلام عليك يا رسول الله، وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين.
أما الخلف الباقي فيعيش في أوساطنا، ويتحرك معنا في كل مكان، ويبارك جمعنا، ويأخذ بأيدينا، ويساعد العاجز منا، ويضيء الطريق لمن شذَّ به المسار، لأننا نعتقد فيه في غيبته كما نعتقد به في حضوره بين أوساطنا:
يا غائباً لم تغب عنا عنايتُه كالشمس كلَّلها داجٍ من السُّحبِ
فالمهدي (عج) يرعى مسيرتنا وحراكنا، وهو الأمين على كل لفظة قول، أو حركة تصدر منا، فلنراقب المولى في ذلك.
ولادة النور:
ولد النبي (ص) في مكة المكرمة، وهاجر إلى المدينة المنورة، وفيها وُوري جسده الطاهر الثرى، وبين المدينتين مسيرةٌ طويلة، كانت ملأى بالمصاعب، لكنه ذلَّلها ليمهد من وراء ذلك طريقاً لمن يأتي من بعده.
وقد تحمَّل النبيُّ (ص) الكثير، سواء في الجانب المادي أم المعنوي، ولم يصل بهذه الرسالة الملأى بالمبادئ والقيم والثوابت والأسس والقواعد والأصول التي تأخذ بالإنسان باتجاه السعادة الكبرى، إلا بعد أن ضحى بالكثير.
نبزوه بالألسن، وسلقوه بألسنة حداد، ورموا عليه ما لا يحسن التصريح به، لكنه صبر. ورموه بالشوك والحجارة، وجُرح في أكثر من موضع في جسده، حتى كسرت رباعيته، لكنه بقي ذلك النبي الذي بعث للأمة رحمة، وكان يقول: «اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون» ([3]). فالكلمات النابية لم تعرقل المسيرة، إنما بقيت القافلة مندفعة باتجاه الهدف، يأخذ بزمامها نبيٌّ معصوم، يتحرك إلى جانبه إمامٌ معصوم، يلتف من حوله صحابة تعرفوا الحق فذابوا فيه، وماتوا من أجله.
إن النبي الأعظم (ص) وهو الداعية الأول الذي يتحرك مع كل نبي في دعوته باتجاه التوحيد، ما كان ليتراجع قيد أنملة كلما صعب الحدث الذي يواجهه. فقد تمت المؤامرة على شخصه في أكثر من موطن وموطن، إلا أنه بقي يمثل أمةً، لو صُبَّت على رأسها جهنم لبقيت واقفة. فالنبي (ص) بهديه القرآني، وسيرته النورانية، وعطائه المتواصل الذي لا يتوخى من ورائه مصلحة، ولا يريد من ورائه جزاءً ولا شكوراً، أعطى ولم يأخذ، حيث أعطى في الجانب المعنوي الكثير، وبقيت أسراره إلى يومنا هذا تمثل كمّاً هائلاً من الكنوز المعنوية، متمثلاً بالثقل الأول، وهو القرآن الكريم.
ومن حقنا أن نسأل: كم اقتربت الأمة من القرآن الكريم، الذي فيه النجاة والصلاح والفلاح؟ وأي المساحات التي يشغلها القرآن الكريم من بيوتنا ومجالسنا واستراحاتنا، والأهم من هذا وذاك، من قلوبنا؟
إننا يُفترض أن نتحرك مع القرآن الكريم، لأن له القابلية أن يتحرك معنا في كل صغيرة وكبيرة.
لذلك أقول: أيها الأحبة، لا سيما الشباب والنشء الجديد، علينا أن نلتصق بالقرآن الكريم قدر الإمكان، وإذا ما أردنا أن نصافح السماء، ونتحدث مع الله مباشرة دون واسطة، وأن نستجيب للنبي الأعظم (ص) في دعوته للقرآن، فعلينا أن نقترب من القرآن.
ويمكننا أن نمنح أنفسنا فترة من الزمن قصيرة، نسترجع فيها الحسابات، فعندما نذهب لاقتناء أحد الأجهزة، ولتكن الأجهزة الذكية في أيامنا هذه، فإننا نتفحّصها وندقق فيها، ونسأل أصحاب الخبرة، ومن اقتناها قبلنا: كم تحمل من الخصائص؟ وأي الماركات أفضل؟ وما هو القادم الذي يمكن أن يسقطها بعد فترة وجيزة؟ فنبذل جهداً كبيراً وعناية فائقة، في حين أن الجهاز ما هو إلا أيام وينتهي، حيث تفاجئك الشركة ذاتها بمنتوج جديد. أما القرآن فهو نتاج السماء، وهدية النبي محمد (ص) ومنشؤه ومنطلقه السماء، وحركته على يدي نبي السماء، وحدوده هي اللا حدود، فلا الزمان يقيده، ولا المكان يحدُّه، لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين ذكر وأنثى، ولا عالم وجاهل. فهو كالنهر الجاري، يستقي منه من يعرف ما للنهر من قيمة ومن لا يعرف، فيمكن أن يقترب منه الكبير فيأخذ منه بقدر ما هو متصف به من هذه الصفة، كما أن الصغير كذلك، ولا صغير في أوساطنا؛ لأننا كبارٌ بمحمد وآل محمد (ص) لكن الأمور تبقى نسبية إذا ما أضيفت للعامل التكويني، فمن يكبرك بسنة إذا سارت الأمور معه كما هو مطلوب، فلا بد أن يتقدم عليك بحصيلة سنة. فما يمتلكه الأب من خبرة حياتية، لا بد أن يكون بحالة من التقدم على الابن بحدود تلك المفردة.
فالقرآن الكريم، يصفه الإمام المفترض الطاعة على بني البشر، أمير المؤمنين (ع) بأوصاف تليق به، حتى أنه أوصى به ليلة شهادته، حيث قال: «والله الله في القرآن، لا يسبقنَّكم إلى العمل به غيركم» ([4]). فالقرآن الكريم، مدرسة مفاتيحها بيد الأئمة (ع) وهم الذين يفتحون لنا مغاليق الأسرار، ويشرعون أمامنا أبواب الأفكار، فهل من استجابة؟
إننا نصلّي لله واجباً، ونؤدي بعض النوافل، ولكن ما ضرنا لو أننا عقدنا ميثاقاً مع كتاب الله، وقرأنا منه صفحة واحدة بعد كل فريضة، وتدبرناها وتأملناها؟ إننا لو فعلنا ذلك وتعاهدناه كل يوم، لوجدنا الحصيلة كبيرة، سواء في جانب الأجر أم الأثر، فالنظر إلى القرآن عبادة، وتلاوته عبادة.
يقول رسول الله (ص): «القرآن مأدبة الله، فتعلموا مأدبة القرآن [الله] ما استطعتم، إنّ هذا القرآن هو حبلُ الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، فاقرأوه، فإنّ الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات. أما إني لا أقول (الم) حرف واحد، ولكن ألف ولام وميم، ثلاثون حسنة» ([5]).
وسئل قامة الفكر الإسلامي الكبير الشهيد المطهري (قدس سره) وهو مجتهد في الأصول والفروع، وإمام مدرسة في فلسفة التاريخ: ما هو العامل المساعد الذي جعلك تصل إلى ما وصلت إليه من القدرة في غربلة الأفكار والخروج منها بالأصفى؟ فأجاب: إنها خمسون آية من القرآن الكريم، أتلوها كل يوم.
فلو أن أحداً تعاهد هذا الأمر في كل يوم لما بلغ الزمن الذي تستغرقه أكثر من ربع ساعة، ولكن فيها من الفيض الإلهي ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
فعلينا أن لا نكتفي بمصافحة السماء بما نقرأه في الفواتح، وإن كنا قصرنا في ذلك حتى في الفواتح، التي ننشغل فيها بالسلام على بعضنا، والسؤال عن أحوالهم. فالفواتح أصبحت مناسبات للتلاقي والتعارف.
أتذكر في الماضي، أننا إذا دخلنا مجلس الفاتحة، نرى الرجال الذين كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، يحمل كل واحد منهم بيده قرآناً ينظر فيه. فالقرآن جلاء العيون، ونحن اليوم نرى الكثير منا يلبس النظارات، والسر في ذلك أننا أعرضنا عن جلاء العيون، وهو القرآن الكريم، واتجهنا إلى دمار العيون مع شديد الأسف، في ما نشاهده على صفحات النت والفضائيات.
نسأله تعالى أن يقدح إشعاعة النور في قلوبنا، وأن يجعلنا ممن يعيشون محمداً (ص) من خلال الكتاب المنزل.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، وأعاد المناسبة علينا وعليكم، وأقدم شكري للإخوة الأحبة الذين شرفوني بشرف المثول بين أيديكم.
أسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.