نص كلمة بعنوان:العلم واهميته في بناء الأمة ورشدها
فضيلة العلم:
قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرٌ﴾([2]).
وفي الحديث الشريف عن الحبيب المصطفى (ص): «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»([3]).
للحديث عن العلم والعلماء قيمته وأثره على سلوك الإنسان بصفة عامة. فالعالم الذي يعيش الله في كل شيء، ولا يتحرك إلا من أجل الله تعالى، لا يعنيه أن يقترب منه الناس أو ينأون عنه، فهو لا يوجّه وجهه إلا لقبلة واحدة ارتضاها لنفسه بعد أن ارتضتها السماء للإنسان.
في الحديث الشريف: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير...» ([4]).
فالهدف الأول إذن من وراء التعليم وتحصيله ـ وهو الوسيلة الفضلى ـ أن يرسم الطرق المتصلة والمتواصلة والموصلة إلى الهدف، ألا وهو النهوض بالأمة مما قد تقع فيه عن غفلة أو سوء تقدير.
والروايات عندما تصلنا عنهم (ع) ترشدنا للتمسك بهذا الجانب وتفيض بالدرجات الموعودة للعلماء، وتجعل ميزان الرجحان لصالح العلماء، تحتمُ علينا حقيقة ثابتة مستقرة، ألا وهي أن هؤلاء الذين يفترض أن يكون لهم هذا التميز، والذين يُناط بهم مسؤولية النهوض بالأمور، أن لا ينهلوا إلا من ذلك المنبع الصافي، ولا يدعوا إلا لتلك الجهة المعلومة الشاخصة، وهم آل بيت النبوة (ع).
أيها الأحبة: أي خير أفضل من أن ينهض الإنسان بهذا المشروع، ألا وهو تحصيل العلم، أو إيجاد المحافل التي تقدِّم الخدمات في هذا المسار. فالعلماء الذين ساروا على نهج المعصومين (ع) تحركوا من حيث ذلك الأمر الذي أعدوا له عدته، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما استطاع أولئك الأعلام عبر تاريخنا المشرق المتصل بهم (ع) أن يصلوا بالأمة إلى ما وصلت إليه، مما نعيشه اليوم من فتح في أكثر من مكان ومكان.
بالعلم نعيش نورانية خاصة، وبه نخرج من عهدة التكليف، ونضيء الطريق من حولنا، ونصل إلى أهدافنا، ونحقق المراد الأكبر، وهو رضوان الله تعالى، والمجاورة في جنان الخلد مع محمد وآل محمد (ع).
الشيخ الفضلي نموذج العالم العامل:
ونزولاً عند رغبة ملحة لأحبةٍ على نفسي، سوف أتعرض لواحد من تلك الكوكبة، وهو نجم مشرق غاب عن عالم الوجود، وما زال إشراقه يضيء الكثير من المحافل، ويوقد في أكثر من موضع وموضع الشموع التي تُرسل نورها المعنوي، ونحن بمسيس الحاجة لذلك. ذلك هو العلامة الكبير الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي (قدس سره الشريف).
فإن أردتَ أن تقول في هذا الرجل: إنه مدرسة، فأنت على حق، وإن قلت: موسوعة، فهو كذلك، وإن قلت: جامعة، فهو جدير بهذا الوصف، لأنه شخصية متعددة الجوانب، وحيث تعددت الجوانب فلا يجمعها إلا العنوان الجامع.
فهذا الشيخ الجليل له رحلة بين العراق وهذا الوطن، عنوانها: رحلة العطاء المتواصل، فرغم أنه تجاوز الثمانين عاماً، ورغم ما حلّ به من أوضاع الامتحان الإلهي للمؤمن، إلا أنه لم يدع القلم يوماً، وإذا ما تعذّر عليه ذلك، كان مصغياً لما يتلى عليه من العلوم من هنا أو هناك، ثم يمزج بينها ويرتبها ويستخلص منها ما يقدمه زاداً معنوياً صافياً من منابعه، يعرض ما حضرته أنامل رجل عظيم أجهد نفسه في سبيل الإمساك بالقواعد والأصول الموصلة إلى الفوائد.
أسرته:
أما عن بيته وأسرته، فهو من بيت عريق هنا، من هذه الواحة الخضراء الطيبة بأهلها، الأحساء الحبيبة. بيت عرفتموه وعرفه علماء النجف، ودخل في الموسوعات من أوسع أبوابها.
إن ما قدّم هذا البيتَ على الكثير من البيوتات هو العلمُ والأدب، وكلنا سمع قول الشاعر:
العلمُ يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرفِ
فكيف إذا اجتمع العلم والأدب والشرف والشهامة والشجاعة والنخوة وصفات الكمال الأخرى؟ وما عسى أن يكون شأن ذلك البيت؟.
وخلاصة الأمر أنه كان من بيت عريق عرف بالعلم والأدب. فمن أبرز رموز هذا البيت آية الله العظمى الشيخ عمران السليم العلي، وهو ممن تصدى للفتوى ورجع إليه جمعٌ من الناس، رغم أنه انخرط في سلك الحوزة العلمية متأخراً، ولكن لأنه كان يمتلك ذهنية وقّادة، وإخلاصاً، وجهداً متواصلاً، استطاع أن يتخطى تلك المراحل ليُتوَّجَ بوسام الاجتهاد الشريف الرفيع القيمة، حتى رجع إليه من رأى فيه مرجعاً.
أما الرمز الثاني في هذه الأسرة فهو آية الله العظمى الشيخ معتوق السليم العلي، وهو من فلتات الدهر، وكانت له قيمته وحضوره العلمي، يشهد له في ذلك الكثير، في المحافل والقامات العلمية التي لها قيمتها وحضورها، وقد رجع إليه جمعٌ من المؤمنين في التقليد، وفي المسائل الاحتياطية لمن سبقه من الأعلام. ولولا خشية الإطالة لأسهبت في ذكر العديد من الشواهد.
أما الرمز الثالث فهو الميرزا محسن الفضلي (رحمه الله)، والد الدكتور الفضلي (رحمه الله) وهو ممن لا يختلف اثنان في اجتهاده، وقد أجيز من أقطاب المدرسة النجفية، وحضرت شخصيته من خلال ما سطّره الأعلام في كتب التراجم وغيرها، فكان قمة في التواضع والسلوك والعبادة، وكان صريحاً صادقاً في ذات الله تعالى، لا تأخذه في الله لومة لائم، لذا فإن من يقترب من حياته يجد أن هذه الخصوصية، وهي الصدوع بالحق، لها ضريبة ومردود على صاحبها، فربما لا يجد صاحبها صديقاً له في نهاية المطاف. وقد قالها الإمام علي (ع) قبل ذلك: «ما ترك الحق لي صديقاً»([5]). فقليل هم أولئك الذين يُذعنون للحق، فإذا ما اقترب من ساحتهم نفروا منه، أما إذا كان صاحب الحق يحوم حول الحمى فربما قبلوا منه مناصفةً، أما إذا رمى بقوله الطرف الآخر فلا شك أنهم سوف يصفقون له.
فكان للميرزا الفضلي مكانته عند من يدرك قيمة العلماء، وهذه مهمة لا يعذر في التقصير فيها أحد منّا اليوم، لوجود الوسائل التي نستطيع من خلالها أن نستكشف ونستنطق ونستجلي سير الأعلام الذين عاشوا في هذا المجتمع وتخرجوا من هذه الحاضنة.
دراسته:
أما عن الحاضنة العلمية الكبرى التي ترعرع في جنباتها فهي النجف الأشرف، أيام مجدها العلمي، فجميع الحوزات العلمية انتابتها حالة المد والجزر، وليست النجف بدعاً من ذلك، فقد تسيدت الموقف في الكثير من الفترات الزمنية، ولكن اعتراها الضعف لعوامل خارجة عن إرادتها وإرادة القائمين بشأنها، وربما عاش الكثير منا ما كانت تعانيه هذه الحوزة إبان حكم الطاغية المقبور، الذي شرّد من شرّد من العلماء وقتل من قتل منهم، وضيّق على من بقي في داخل النجف، حتى باتت تشكو حالها، ولا تجد من يمدّ لها يد العون، رغم أنها قدمت الكثير. أما اليوم فهي تتهجى المفردات لتستعيد مجدها، وما ذلك على الله بعزيز، ما دامت النوايا صادقة، والرجال المخلصون ينهضون بمسؤولياتهم، ونسأل الله تعالى أن تأخذ النجف موقعها الذي عُرف عنها. فالنجف بأعلامها، ومجتهديها، وحلقات الدرس المترابطة فيما بينها، والبحوث التي تزخر بها المكتبات.
لقد منَّ الله تعالى على الشيخ الفضلي أن يصل النجف وهي تعيش أوجَ مجدها العلمي والأدبي والسلوكي، وهذه الموارد والروافد الثلاثة متى ما تمازجت فيما بينها أخرجت لنا نتاجاً طيباً، وها نحن أمام هذه الشخصية العظيمة الجليلة ذات القيمة السامية.
ففي زمن الشيخ الفضلي تمازجت هذه الروافد الثلاثة في النجف الأشرف، فكان منتدى النشر في معطياته المعروفة، حيث تخرّج منه فحول سوف أستعرض بعض أسمائهم سريعاً. وكذلك كلية أصول الفقه التي شكلت فتحاً على الحوزة النجفية، حيث أساليب البحث العلمي المتقدم الذي يلامس لوناً من ألوان التحديث الذي نعيشه اليوم، إذ عاشه هؤلاء في الخمسينات والستينات الميلادية، واستطاعوا أن يوقدوا شموعاً، وبفضل تلك الحركة كان التمازج بين تلك الروافد الثلاثة (منتدى النشر، كلية أصول الفقه، ورؤوس الأعلام، وهم الآيات العظام في النجف الأشرف) فقد تمازجت هذه الروافد في تلك المرحلة فيما بينها، وخلّفت وراءها الكثير، والشيخ الفضلي من ثمارها. لذا نجد فيه العالم المحقق، والأديب، والمؤلف، والمنفتح على الآخر، والإنسان الفاعل.
إن الجمع بين الحوزة والأكاديمية بات اليوم واحداً من أهم المطالب، فنحن لا نستطيع أن نحلّق بجناح واحد، ولو قُدّر لنا أن نحلّق بجناح واحد فسوف نتعب ونهبط ونرضى أن نبقى في أدنى المراتب وأسفلها، أما إذا ما فعّلنا كلا الجناحين وطرنا بهما، عندئذٍ نحن الذين نقرر مستوى التحليق علواً وانخفاضاً.
جوانب لامعة في شخصيته:
فالشيخ الفضلي علّامةٌ جليل ليس على نحو التبرّك، إنما هو علامة بحقّ، تشهد له كتبه بذلك، فقد أعطى الكثير ما تزخر به المكاتب، فهو علَمٌ من أعلام الأحساء الذين قدموا نتاجهم وطرحوه على الأمة من حولهم، ليخطو بأناسٍ ربما استجدّ في داخل كينونة البعض ممن ألف منهم ثم كَنَز، حالةٌ من الاندفاع في سبيل أن يبصر نتاجهم النور، ونسأل الله تعالى أن يكون ذلك في ميزان أعماله.
والجانب الثاني في شخصيته أنه الأديب المحلّق، وشهد له قلمه بذلك، وإن حاول البعض أن ينتقص منه في هذا الجانب، بدعوى أنه يتمايل إلى السبك الأدبي، أو يبرز نتاجاً شعرياً. وليت شعري! كيف ينسب هؤلاء للإمام علي (ع) ديواناً من الشعر لم تثبت نسبته، ويجعلون ذلك واحداً من الشواهد على بلاغته وعلوّ كعبه في مساحات العروض، وعلوم البلاغة بأقسامها الثلاثة، المعاني والبيان والبديع، ويأخذون ذلك على غيره؟ فإن كانت تلك من صفات الكمال ونسبت لعلي (ع) فلماذا نقلل من شأن الآخر إذا ما نُسبت إليه، وإذا كانت تعني المشغلة فكيف يصح نسبة النقص للمولى علي (ع) حيث نضعه في دائرة الانشغال بالمهم عن الأهم في أحسن التقادير؟ إنها شنشنة أعرفها من أخزم، وكثيراً ما تأتي ممن لا يمتلك صفة كمال في جانب ما، فيندفع في التقليل من قيمتها ويحاول أن يضع من حولها خطاً دائرياً كي لا تتسع فيفتضح حاله.
لقد كان الشيخ الفضلي أديباً محلّقاً يشهد له قلمه، فرغم أن كتاباته تأخذ جانب التحقيق، إلا أن الأدب ألبسها ثوباً جمالياً رائعاً.
أقول: إن من يأخذ على شيخنا الجليل هذه الحالة، فعليه أن يؤاخذ الإمام الشهيد الصدر أيضاً، الذي كتب أعقد المطالب الحديثة والحوزوية الصرفة بلغة تتعذر على الكثير ممن حاولوا أن يحاكوه، لكن أسلوبه كان السهل الممتنع، وصفة السهولة مع الامتناع تؤمّن لنا ميزة خاصة تضاف لأفراد يحسبون ولا يقاس عليهم، ومنهم هذا الشيخ الجليل (رحمه الله).
ثم إنه الخطيب المفوَّه، رغم إنه لا يزعج نفسه كثيراً، إذ كان هادئ الطبع في خطابه، بل حتى لو كان السؤال الموجه له يولِّد صدمة في الحالة الطبيعية عند الآخرين، إلا أنه كان يتعامل معه بكل سلاسة وبساطة، لا لشيء إلا لأنه يعي ما يكون، ويبصر إلى أين يريد أن ينتهي بالمستمع في خطابه، وهذا ما نحتاجه اليوم. ويشهد له بذلك منبره الذي تعدد في أكثر من موقع وموقع، وأكثر من موقع ومحفل، حيث طرق من خلاله الكثير من جوانب التراث المقدس لأهل البيت (ع) وكافح وناضل وجاهد في سبيل تثبيت الصحيح منه، ودفع الدخيل عليه الذي يجعلنا ندفع الكثير من الضرائب، وهنا تبرز قيمة المنبر إذا ما أراد الإنسان أن يأخذ به إلى ما هو المراد منه.
ثم التقوى والورع والابتعاد عن بهارج الدنيا، وهذه ميزة مهمة، فقد يصبح الإنسان رئيساً في دائرة فيرى نفسه فرعوناً دون أن يعلن عن ذلك بين الملأ، إلا أن الممارسات تشير لذلك، أو قد يصبح عالماً، إلا أنه لا يمازج بين العلم والعمل، إنما يجعل العلم سمةَ تفوُّق على الآخر، لا على الحسابات الربانية، إنما وفق المقاييس الشيطانية، فهو لا يرى من دونه في العلم إلا كسائر من لا يُحسب له حساب، ولا أحسب أنّ ثمة من ليس له حساب، فلكل إنسان حسابه وقيمته وواقعه.
فهذا الرجل يشهد له تاريخه، ولسنا ندعي دعوى لصالحه، ولا نبحث عن مكسب لأنه في عالم الخلد، ولسنا نتصل به لا من قريب ولا من بعيد، إلا برابطة الولاء لمحمد وآل محمد (ع).
ثم تأتي رساليته التي يكشفها نشاطه في وسط المجتمع، فحيث وقف أحدث حالة من التجدد، وحيث نطق بعث الكثير من الإشارات للمتلقي.
أيها الأحبة: هنالك ممازجة بين الرسالية والورع والتقوى، فمن الجميل أن تجتمع في من يريد أن يصل إلى المبتغى.
لقد كان بمقدور الشيخ أن يؤمَّ الجماعة في أكبر جوامعها، وأن يتسيّد المجالس في أكثر مواضعها، لكنه لم يزاحم أحداً. فليت شعري! على أي أساس كان حساب من لم يرُق له حال هذا الرجل؟ هل هو الحساب الأخروي؟ فالحساب هنا على رب الأرباب. أو كان الحساب الدنيوي؟ فعلام نافَسكم؟ وعلى أي حطام زاحمكم حتى تصل النوبة بكم إلى ما وصلت إليه من نعوت وأصاف قاسية وصفتموه بها؟
ورغم أن بعض الأوصاف قاسية جداً، إلا أنني سوف أذكرها هنا كي نعرف تلك الخفافيش التي تتحرك بين أوساطنا دون أن نحسب لها حساباً، رغم أن خطرها على جيلنا القادم وشبابنا الطليعي الرسالي المؤمن الملتزم في منتهى درجات الخطورة. فقد تقدم أحد الفضلاء للصلاة على جنازة الشيخ، فقال بعضهم: صلى الفاسق على الفاسق!. ولكن، هل طرحها القائل على موازين نفسه فضلاً عن الموازين الإلهية؟
إلا أن الشيخ الجليل مع كلِّ ما ترامى لأسماعه في حياته من تلك الأمور، لكنه لم يزدد إلا عفواً عن المسيئين، فلم يجدوا منه ردة فعل سلبية، إنما احتضنهم وفتح لهم أساريره، وقدّم لمؤلفات بعض المؤلفين منهم ممن لا يرتضونه، لكن حيث إنه قيمة أرادوا أن يتشرفوا بالإضافة إليه ليقال: إن الكتاب الفلاني قدم له الدكتور الفضلي.
أساتذته ونتاجه العلمي:
أما نتاجه العملي فتمثل بالبحث والتحقيق، وهو ما تشهد به المكتبات، وكذلك العرض والتبسيط، فمن دخل الحوزة العلمية استعان ببحوثه في هذا الجانب. ثم التنوع والإبداع، فلم يقتصر على الفقه مثلاً، إنما أبحر في سفينته في الأمواج المتلاطمة تحت عناوين العلوم والأغراض المتعددة. أما أدبه وشعره فأمر شاخص وبيّن.
أما أساتذته فعلى رأسهم ثلاثة، كانوا مصداقاً لقول الشاعر:
حلف الزمان ليأتينّ بمثله حنثت يمينك يا زمان فكفّرِ
وهؤلاء الثلاثة هم: الإمام السيد محسن الحكيم، وزعيم الحوزة العلمية الإمام السيد الخوئي، والإمام الشهيد الصدر، رحمهم الله جميعاً. فمن هذه المنابع الثرّة استقى علومه، وأخذ بأسباب الاجتهاد، ثم انفتح على المدارس من حوله، ليضيف إلى مخزونه وثرائه العلمي والثقافي أبواباً جديدة، أوصدها البعض على أنفسهم ظلماً لها وعدواناً، لذا لم يتقدموا كثيراً.
أما أترابه الذين عاشهم وعاشوه، وتكلم معهم، وتكلموا معه، وتباحث معهم، وتباحثوا معه، وأشكل وأشكلوا، وقدّم وقدَّموا فكثيرون.
أيها الأحبة: إذا أردت أن تفكَّ شفرات إنسانٍ ما، فعليك أن تقترب من دائرة الذين يجلسون من حوله لتقرأ واقعه، فأي الطبقات يقرّب؟ وأيها يُقصي؟ وما هو سلوكه وأخلاقه؟ وما هو موقعه العلمي؟ وفي أي المطالب يبحث؟ وعلى هذه فقس ما سواها.
فمن أقرانه آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله) الذي كان من أترابه وأقرانه وكانا في مسار واحد، وجمعتهم مدرسة واحدة. وكذلك العلامة الدكتور الوائلي، عميد وزعيم المنبر الحسيني. والعلامة الجليل السيد علي الناصر، والعلامة السيد مصطفى جمال الدين، أمير شعراء زمانه، والعلامة الشيخ علي الكوراني، وهو لا يخفى على أحد، والعلامة السيد جعفر مرتضى، صاحب كتاب: الصحيح من سيرة النبي المصطفى محمد (ص).
أيها الأحبة المؤمنون: بعد هذا السبح الطويل نسبياً، مما هو دون المختزن في ذهني بكثير، نقول: إذا كان الإنسان يعيش في هذه الأجواء التي وصفناها ومررنا بها جميعاً من أساتذة وتلاميذ وحاضنة، فما عسى أن يكون عليه؟ وبماذا يخرج؟ وماذا يقدم؟
إن للعلم أهمية في تشكيل المجتمعات وبناء الأمم وتشييد الحضارات، فقد أسهم في بناء حضارات روما والهند وبلاد فارس، ثم في عالمنا الحديث أوربا وروسيا والصين وغيرها، ولا ندري ما هو القادم المشرق.
الموقف من النجاح والناجحين:
وثمة سؤال هنا لا بد أن يطرح وهو: لماذا هذا العداء للنجاح؟ ولم لا نفتخر برموزنا؟ ولم لا نقبل إلا الوافد إلينا؟ ولم لا نعطي لعلماء وأدباء ووجهاء وكبّار هذه المنطقة ما يستحقون من التكريم؟ ثم لماذا ننتظر رحيل الواحد تلو الآخر من بين أيدينا لنحتفي به، ونقدم له التكريم؟
والسؤال الأهم: هل في الرموز الذين ندعو لتكريمهم نقص يمنعنا من ذلك؟
صدقوني أيها الأحبة، أن الكثير من رموز بلادنا لا يقلّون شأناً عما هو في الخارج، إن لم يتقدموا على بعضهم. والعلَم الذي نحن في صدد الحديث عن سيرته واحد من هؤلاء. فلمَ نجد أن أسماء غيرهم تطبق الآفاق فيما لا نجد لهم شيئاً من ذلك؟ هل للحسد نصيب يدير العجلة في أوساطنا دون أن نشعر؟ ثم علام نحسد؟ ولماذا نحسد؟ وما هي النتيجة المتواخاة من ذلك؟ هل هي هدم الطرف المقابل؟ وإن حصل ذلك الهدم، فلصالح من؟ وهل أريد لنا أن نعيش هذه الحالة من الكره للنجاح والتفوق وتسيّد المواقع المتقدمة وارتقاء المنصات الرفيعة؟ وهل مردّ ذلك للجهل برموزنا والتعرف عليهم؟ ثم من يقف وراء هذه الحالة من الجهل والتقصير؟ هل هم علماؤنا أم خطباؤنا أم مثقفونا أم أصحاب الحل والعقد فينا؟ أو هو إسقاط علينا من الخارج؟
إن الأحساء، الواحة الخضراء، ولودٌ بكل ما تعني الكلمة من معنى. ففي يومٍ من الأيام كان في الأحساء أربعة من المراجع في وقت واحد. واليوم أصبحنا نستورد حتى الخطيب والشاعر. وأنا لا أدعو للانغلاق وإقصاء الآخر، فالجميع مرحّب بهم، ولكن علينا أن نقدم أبناءنا ونعتزّ بهم، فإنك لو لم تقدم أبناءك وتسعى لرفعتهم، فلن يقوم بهذا الدور أحدٌ نيابة عنك، وإن قرب معك في لُحمةٍ، واتحدَ معك في مسار، واتفق في رؤىً، فإنه بالنتيجة لن يقدم ابنك على أبنائه. وهكذا نحن، فهل رأيتم إذاعات أو صحفاً أو مجلات أو محطات من خارج دائرتنا تقدم علماءنا؟
إن مسؤوليتنا تقتضي أن نقدم أعلامنا ورموزنا بما يتناسب وموقعهم الذي هم عليه.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.