نص كلمة بعنوان: الأئمة (ع) سفينة النجاة وحجج الله
سفينة النجاة:
في الحديث الشريف: «إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق»([1]).
بعث النبي (ص) رحمة للعالمين، ورحمته على الأمة متعددة الجوانب، لا يمكن حصرها في جانب واحد، وأحد تلك الجوانب، هي كون النبي (ص) خاتم الأنبياء بين أوساط هذه الأمة، فهذا بحدِّ ذاته رحمة، لأنه (ص) وُصف في ذاته أنه رحمة للعالمين كافة. ويخطئ من يحاول أن يختصر النبي (ص) ضمن حدود ضيقة.
دخل أحد الأعراب المسجد يوماً، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فالتفت إليه نبي الرحمة، وقال له بكل رحمة وشفقة ورفق: «لقد تحجّرت واسعاً»([2])، أي أنك بخّلت كريماً. تلك هي تربية السماء، فقد واجهه بعبارة سلسة مرنة قادرة على أن تتسلل إلى جميع جوانب قلبه.
والرحمة الثانية هي الرسالة التي جاء بها النبي محمد (ص) وهي الرسالة التي امتازت عما تقدمها من الرسالات بصفة السماحة، فهي رسالة سمحة، ليس في تكاليفها ما يشقّ على الإنسان، حتى فيما اختص به جانب النبوة: ﴿طَه ~ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى﴾([3]). فقد كان (ص) يطوي الليل قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً وخضوعاً وخشوعاً وابتهالاً وتقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.
كما تتمثل الرحمة في آل النبي محمد (ص) لأن وجودهم وعطاءهم رحمة، بل إن صبرهم على الأذى كان رحمة بالأمة، فلو أن الزهراء (ع) لم تتحمل الأذى بعد النبي (ص) فما عسى أن يحصل في هذه الأمة؟ ولو أن الإمام علياً (ع) لم يتحلَّ بالصبر في المواطن التي تنهدّ لها الجبال الرواسي، فما عسى أن يحصل لهذه الأمة التي يفترض أن تكون مرحومة بمحمد وآل محمد (ص)؟
بل إن صبرهم يتجلى في أبرز الزوايا ضيقاً وحرجاً، وذلك في كربلاء، حيث دخلت السيدة زينب (ع) على الإمام الحسين (ع) وهو يبكي، فقالت: يا بن أمّ، ما الذي يبكيك؟ قال: والله ما على نفسي بكيت، ولكن على هؤلاء الذين يدخلون النار بسببي.
فالأذى الذي صُبَّ عليهم لا تُوفّي بيانه العبائر، إلا في جزء قليل جداً، ونعم ما قال الشاعر على لسان الزهراء (ع):
صُبت عليَّ مصائبٌ لو أنها صُبَّت على الأيام صرنَ لياليا
فالشاعر يتناهى في حالة الإشراق، بحيث يجري على لسانه ما يجري على صاحب المصاب. صحيح أن محمداً وآل محمد (ص) لا يقاس بهم بشر أياً كان، لا في سابق الأزمنة ولا في حاضرها، ولكن في زاوية من الزوايا يمكن للإنسان أن ينقّي داخله ويصفّي ذاته، ويقترب من مساحتهم (ع)، فيحظى بلطف الإشراق، وعندما تتسلل تلك الإشراقة اللاهوتية إلى قلب المرء بعد التزكية، فإنه يجري على لسانه ما يتوافق ومعطيات مدرسة أهل البيت (ع).
إن السلسلة النورانية ابتداءً من النبي محمد (ص) مروراً بالأئمة المعصومين (ع) حتى آخر تلك السلسلة التي تختتم بالخلف الباقي من آل محمد (ص) هي عبارة عن منظومة واحدة، لا تختلف بدايتها عن وسطها وآخرها.
أئمتنا حجج الله:
في الحديث الشريف عن النبي (ص) أنه قال: «الأئمة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل وحواريِّ عيسى، من أحبهم فهو مؤمن، ومن أبغضهم فهو منافق، هم حجج الله في خلقه، وأعلامه في بريته»([4]).
وهذه الرواية لم يتفرد بها الشيعة، إنما يشاطرهم بها أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى الذين رووها في مدوناتهم الحديثية ومسانيدهم([5]).
فحبهم إيمان، وبمجرد الحب يدخل المسلم حظيرة الإيمان بالله تعالى، فكيف إذا صاحب الحبَّ السيرُ على نهجهم، والتمسكُ بعروتهم، ومحاولة تجسيد أقوالهم وهديهم في سلوك عملي في الخارج؟ هذا منتهى وأجلى مصاديق المحبة لهم، فإذا أحبهم الإنسان، وأخذ بقولهم، وجسده عملاً واقعياً في الخارج، فلا يمكن لأحدٍ أن يدّعي حبهم، وفي الوقت نفسه يكذب، ولا من يدعي السير على نهجهم، ويرفع لواء مدرستهم، ثم يستخدم سلاح البهتان والحقد للنيل من غيره. بل قد يبستخدمه أحياناً حتى في محل العبادة كالمسجد والحسينية.
إن كلمات أهل البيت (ع) في بعض الأصحاب، كعمار وسلمان والمقداد، بأنهم منهم، لها دلالاتها الدقيقة، فهذه الإضافة إليهم ليست عبثية، لأنها جرت على لسان المعصوم (ع)، فعندما يصف النبي (ص) سلمان المحمدي فيقول: سلمان منا أهل البيت، فهذا يعني أنه دخل في تلك المنظومة قولاً وعملاً، وإلا فهو رجل فارسي، وكذا عمار والمقداد، كلٌّ منهما ينتمي إلى قبيلة معينة وبلد معين. فالإضافة ناظرة للعمل، وإلى الصدق والواقع.
ويقول الإمام الصادق (ع) صاحب هذه المناسبة في المعنى ذاته: «شيعتنا منا»([6])، فما هي صفة التشيع التي تجعل فلاناً وفلاناً يدخل في هذه المنظومة؟ هل من صفات المدرسة الشيعية الغدر مثلاً؟ حاشا وكلا، وإلا لكان بمقدور مسلم بن عقيل أن يقتل ابن زياد منذ البداية، ولكن العبرة بالخواتيم.
فمعنى قول المعصوم: (منا)، أي أنهم على طريقتنا ونهجنا وهدينا، فمن لا تعنيه التكاليف من قريب ولا بعيد فلا يمكن أن يدّعي التشيع والولاء، لذلك يقول مسلم بن عقيل، المتربي في مدرسة أهل البيت (ع): الإيمان قيد الفتك، أي أنه كان بإمكانه أن يبطش ويقتل، لكن الإيمان قيّده، فلو أنه قَتل فإن الرسالة سوف لن تكون لها مصداقية في وجدانه، وهو يبحث عن المصداقية لا عن الشكليات، إذ لا قيمة عنده أن يقال: إن مسلم بن عقيل تمكن من ابن زياد في بيت هانئ بن عروة فقتله، فسوف يقال أيضاً: إن الرجلين تآمرا عليه وهو آمِن فقتلاه، فيكون ابن زياد مظلوماً، وابن عقيل ظالماً، وابن عروة غَدّاراً.
فنحن عندما نقدِّس أهل البيت (ع) والصحابة الملتزمين بنهج أهل البيت (ع) ونرفع من شأن علمائنا الذين نذروا أنفسهم لإيصال مدرسة أهل البيت (ع) إلى أيتام آل محمد (ع) فإنما نقدس فيهم الجوهر لا الشكليات، نقدسهم لأنهم يعنون شيئاً يحمل في طياته أسمى القيم وأعلاها وأرفعها.
من هنا فإن من يعيش ذكرياتهم ينبغي أن يهتدي بهديهم، فمن أحبهم فهو مؤمن، ومن أبغضهم فهم منافق أو كافر. والبغض قد يكون جهراً بالقول والفعل، وقد يكون بالفعل فقط.
هؤلاء هم أهل البيت (ع) كما يعرضهم الآخرون من المذاهب الأخرى، وقد كنت ولا زلت أدعو إلى الإفادة من تراث الآخرين من أي مذهب أو نحلة، ورحم الله آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي، الذي جمع مجموعة من الأحاديث في سفره العظيم «فضائل الخمسة من الصحاح الستة»، وهو كتاب في منتهى الروعة، وكذلك العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري في معالم المدرستين، الذي فتح فتحاً كبيراً لهذه الطائفة. ولا يظنن أحدٌ أننا صرنا نعرض مدرسة أهل البيت من خلال قناة أو قناتين فقط، فلولا جهود علمائنا الذين مضوا، وتمهيدهم لهذا الدور، لما استطاع أحدٌ ممن هم اليوم في الواجهة أن يقدم هذا القدر الرفيع من الثراء العلمي والتصحيح للكثير من الاعوجاج. فأولئك أصَّلوا وهؤلاء يفرّعون، فدور علمائنا اليوم بالقياس إلى من تقدمهم، كدور الأئمة (ع) بالقياس للنبي (ص) ، فالنبي (ص) أصّل والأئمة (ع) فرّعوا. فعلماؤنا الماضون، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي، والحلّيان والشهيدان الفاضلان، والشيخ الأعظم، وسيد الطائفة وأمثالهم، أسسوا لما يقدمه الجيل اليوم من عطاء مهم.
ونحن اليوم في مرحلة صعبة حرجة، وما لم يأخذنا الاتزان والاحتياط في العرض، فإن العواقب ستكون وخيمة جداً.
نسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يذوب في أهل البيت (ع) حباً وشوقاً وولاءً مع مصداقية لذلك.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.