نص كلمة بعنوان :أهمية الرجوع إلى الأصالة
في الحديث عن الامام الصادق (ع) : (الايمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهى تمامه ومنه الناقص البين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه)([2]).
الإمام علي (ع).. بين الحق المغصوب وضرورة الاصلاح
بعد ان اوصدت الابواب أمام علي (ع) وخسر بذلك العالم الشيء الكثير؛ لأن المدينة الكبرى التي تحتوي على جميع اصناف العلوم والمعارف قد احكم وصد الباب امامها فترة من الزمن هي ليست بالقصيرة حيث انها لامست الربع قرن من الزمن، والإمام علي (ع) خلالها يراقب الاوضاع: (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء ... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى . وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً )([3]).
بهذه العبائر عرّف علي (ع) الامام المفترض الطاعة عن ذاته الشريفة في وسط الامة وعرّف عن الامة من خلال ذاته لكن الامة ظلت طريقها وبقي علي (ع) يراوح مكانه فما كان بمقدوره ان يرفع حجراً عن حجر، ودخل علي (ع) في مسار اراد من خلاله ان يقوم بما استطاع من اصلاح وضع الامة لكن علياً (ع) بقي يعيش الحسرة في داخله ان يرى الامة تساق الى اكثر من اتجاه واتجاه.
انتقل علي (ع) الى جوار ربه والحسرة تشغل مكاناً كبيراً في نفسه الكبيرة لأن علياً(ع) كان قد تحمل الكثير مع من تقدمه، فقد عانى الامرّين في تلك المرحلة ولم يكن متأتياً له أن يقوم بدور مؤثر في تصحيح المسار فاختار لنفسه مسار النأي بالنفس الا ما الزمه به تكليف شرعي لا مناص من القيام به او لدفع منكر متجاهر، وبمقدوره ان يصحح لكن في الفترة التي تصدى من خلالها (سلام الله عليه) حينما آلت إليه الامور في شكلها الظاهري، اقحم في مشروع الدم وهو الذي نأى بنفسه في ان يتجه هذا الاتجاه، فالخليفة الذي يفترض ان تنقاد له الامة كما انقادت لمن تقدمه أبت الا ان تعلن التمرد في اكثر من موقع لكن الاخطر ما كان كامناً في الكوفة ولولا النفوس وما كان يختلج فيها من موروثات اريد لها ان تصفى من خلال شخص علي (ع) لأخذت الامة مساراً ومنحًى آخر، وفي النتيجة ترك علي (ع) تركة كبيرة وهي عبارة عن العوائل التي خلفت بعد ثلاث من المعارك الطاحنة بين الحق والباطل الحق المتجسد في علي، والباطل المتجسد فيمن وقف في وجه علي.
كانت هناك طبعاً دماء كثيرة اريقت واناس كثر ذهبوا ضحية السيف، ووراء هؤلاء عوائل واسر وابناء وقبائل ومذاهب وتوجهات ورغبات وصراع طاحن حتى أن الرجل الكوفي الواحد كان يعيش مع نفسه صراعاً وفي نفسه صراع.
أدوار الأئمة (ع) بما تقتضي المرحلة والمصلحة
جاء الامام الحسن (ع) وقام بالدور بما يتماشى ومعطيات تلك المرحلة ونفض الغبار عن وجدان الامة واشرق كالشمس تمزق اطراف الغمام وصبغ المشهد بلون طاهر مقدس له من النورانية القابلية على تحريك الاجيال من ورائه، لكنه في النتيجة قتل(ع).
وجاء دور الإمام زين العابدين (ع) وهو أيضاً دور في منتهى السمو والرفعة، فوضع حجر الاساس لأكثر من مشروع ومشروع معطل ووضع حجر الاساس لمدرسة الدعاء وما لها من اثر، وتفرعت عنها مدارس كثيرة كمدرسة التصوف وكمدرسة العرفان وامور كثيرة ايضاً، ووضع حجر اساس للمبرات الخيرية والجمعيات كما يعبر عنها اليوم، حيث ان الامام السجاد (ع) صير من بيته جمعية خيرية مصغرة تعنى بضحايا كربلاء وبضحايا الحراء وبضحايا الجمل وغيرها من المعارك حتى استشهد (ع) مسموماً وهو يعيل ما ينوف عن خمسمئة عائلة وهذا العدد ليس ببسيط في مدينة صغيرة في ذلك الوقت.
وجاء الإمام الباقر (ع) وفجّر بركان العلم والمعرفة ووسع من دوائره واخترق مجموعة من الحواجز والستر، وقرأ على يديه اقطاب المدرسة الحديثية عند الطرف الآخر وتتلمذ من تتلمذ على يديه واصبح رقماً ثابتاً ومستقراً لكن ذلك أزعج السلطة في الشام وشعرت ان مكمن الخطر يكمن في هذا البيت وفي هذا المدينة وفي هذا الشخص بعينه فاستؤصل (سلام الله عليه) شهيداً مظلوماً مسموماً الى ان آلت النوبة الى الامام الصادق (ع) الذي نعيش ذكرى شهادته في ليلة الخميس القادم على الاظهر.
الامام الصادق (ع) له قيمة انسية وقيمة حضارية وبين هذه وتلك قيمة محمدية (ص). استطاع الامام الصادق (ع) ان يتسلل في وضع حرج واستطاع ان يتفلت من قيود فرضت على آبائه واجداده هيأ الله له اسباباً واستطاع ان يستثمر تلك الاسباب وان يوظفها في اتجاهها الصحيح، ومن اراد ان يتعرف على عظمة هذا الامام ليفترض ان الامام الصادق (ع) لم يكن قد قام بالدور الذي قام به فما عسى ان تكون مدرسة العلم والفقاهة في وسط الامة الاسلامية قاطبة وفي مدرسة اتباع مدرسة اهل البيت بشكل خاص؟! دعونا نتصور ان مفردة جعفر بن محمد الصادق (ع) لم تكن موجودة ولم يكن هناك انسان باسم جعفر بن محمد، فماذا سيكون معنى هذا؟ معناه أنّ ما وصلنا من موروث بفضل وجوده سوف لا يكون موجوداً وعلى اقل التقادير سوف لا تكون هناك حلقة موصلة بين المتقدم والمتأخر.
الإمام الصادق (ع) وازدهار العلوم والمعارف الإسلامية
الامام الصادق (ع) عمر عمراً لا بأس به قياساً ببقية المعصومين (ع)، تصوروا ان الامة ليس فيها جعفر بما شغل هذه المساحة وبما خلف من هذا التراث الضخم، فلو غابت هذه الحلقة لأحدث ذلك شرخاً كبيراً يصعب جداً أن يوصل المتأخر بالمتقدم، فأصلاً ان المادة الاولية اليوم التي على اساسها يتحرك علماؤنا ومراجعنا وارباب الفكر لدينا داخل اروقة الحوزات العلمية حيث ما كانت وخصوصاً في الحوزتين الكبيرتين النجف الاشرف وقم المقدسة لو لم يكن هذا التراث الصادقي الجعفري موجوداً لعمل هؤلاء بما لهم من فكر دون مادة، كالنجار الذي يمتلك القدرة على التخطيط والممارسة لكن مع فقدان المواد الاولية كأن يكون الخشب غير موجود، فهنا: فكر الهندسة موجود وحرفة النجارة موجودة لكن المادة الاولية غير موجودة. فالإمام الصادق (ع) خلف بعده تركة تعدّ بعشرات الآلاف من الاحاديث في شتى مجالات المعرفة الى اليوم.
الامام الصادق الامام المسموم، الامام الصادق صاحب القبر المهدوم، الامام الصادق (ع) .. والمفردات تقصر دون ان تقدم لنا جانباً من جوانب الكمال في شخصيته (ع)، هذا الامام العظيم بما له من تكوين ما زال حتى اليوم داخل دائرة المظلومية، ومن مظلوميته (ع) أنك لا تجد موسوعة تجمع تراث هذا الرجل العظيم وتقول هذه موسوعة الامام الصادق ولا تجد المؤسسة التي تنهض بموروث الامام الصادق (ع) بحيث يتم التتبع والتقصي والمتابعة لكل ما يكتب وكتب عن الامام (ع) في المراحل وفي القرون الخالية وما نعيشه من عصر النقلة في حال اننا نجد ان بعض الرجالات الذين كتبوا في فرع من علوم المعرفة يتم القيام بالتعليق والشرح على ما كتبوا وتوسيع دائرة ما كتبوا ويتبع التراث لمن كان نكرة الى حدود ما فرع، بينما الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) يعيش في ظلامته.
الجعفري بالعمل والاتباع لا بالقول والادعاء
وقد يقول قائل: لكن سيدنا اننا نقرأ على الامام ونحتفل بمولده فهذا يكفي، واننا اينما ذهبنا يقولون هذا جعفري هذا يكفي، نقول: ان الجعفري بالاسم لا يكفي بل يلزمه أن يكون جعفرياً بالعمل وبالموافقة يعني إننا حينما نأتي ونقول نحن اتباع جعفر بن محمد (عليه الصلاة والسلام) والشيء الذي يشدنا إليه ويربطنا به هو عبارة عن سلسلة من اعلام الطائفة، وهنا نسأل: ما هو المدخل لهؤلاء الاعلام؟ الجواب: الرسالة العملية، وهل شيء غير هذا؟ فأن أتعبد بناءً على معطيات مدرسة جعفر بن محمد (عليه الصلاة والسلام) إنما يكون وفقاً لما استنبطه المرجع الذي ارجع اليه في الأحكام الشرعية وهنا نقول: ما هو الحبل الذي يصلني بذلك المرجع؟ هو الرسالة العملية ولا شيء غير هذا، لكنك تسأل هل كل بيت فيه رسالة عملية؟ لكن انا شيعي واقول يا جعفر بن محمد وحينما يسألونني يوم القيامة: من انت؟ اقول لهم: انا شيعي، هنا يقول لي جعفر بن محمد: حسناً انت شيعي وجعفري لكن انا عندي احكام وتكاليف و.. وأنت طرقت بابي، فماذا اقول له حينها؟! فإن قلت له: بلى والله انا طرقت الباب، يقول لي: أي باب طرقته؟ اقول له: باب المرجع، يقول لي: هل دخلت من باب المرجع ام لم لا؟ فإن قلت له: لم أدخل فأنت لم تدخل، وإن قلت له: دخلت فما هو البرهان والدليل على مدعاك هذا غير تصحيح الاعمال وفق الرسالة؟ هل اخذت الرسالة؟ هل أعطاك الرسالة.
فلابد لنا نحن ان نلتفت الى هذا الشيء البسيط وهو أن نستفيد من ذكرى الامام الصادق بأن لا نجعل بيوتنا خالية من الرسالة العملية، وهي شيء مهم لأن فيها بُعدان:
البعد الاول ربط ابنائنا بالمركز والأصل وليس هذا فقط حتى ان صورة المرجع حينما يكون لها وجود في البيت فهي بركة فيه لأن النظر الى وجه العالم عبادة، فهذه تحكي عن وجه العالم الحقيقي فهو يربط ابنائنا بالرسالة العملية زيادة، علاوة على هذا الجانب فإن الاسم المبارك للمرجع في البيت يعرف العيال ان الصلاة ليست كل صلاة وليس كلّ شيء على بساطته بل أن تكون عباداتنا ومعاملاتنا مطابقة للرسالة العملية وإلا فسينتهي الأمر إلى عاقبة غير محمودة.
توجد عند اهل المدينة المنورة طريقة رائعة جداً وهي أنهم يفتتحون مجالس الامام الحسين (ع) بقراءة الخطيب لمسألة او مسألتين من مسائل الرسالة العملية، انظر إلى ما هم فيه من عسر وحرج لكن ورودهم إلى المسائل الشرعية افضل من الوضع عندنا هذا طبعاً منقصة لم تكن من المفترض أن تكون، حيث يفترض أن يذهب الاحسائي الى تلك الاصقاع وغيرها المقطوعة في الكثير من حالاتها الا في بعض الامور الجزئية ويتحرّك على الاقل بنصف طالب علم ولا يلزم أن يكون طالب علم حتى يُسأل عن المسائل التي ينبغي له أن يكون حاضراً فيها، فالإنسان يكون مغبوطاً إذا عاش في مدن فيها حوزات علمية وفيها كم من رجال الدين فهو مغبوط من قبل المقطوعين عن ذلك.
اذكر أنني كنت في درس لأحد المراجع والاساتذة حفظه الله تعالى، نقل لنا قضية فيقول: قدر له ان يزور احدى المدن في احدى المناطق الجنوبية في ايران، يقول: صادف انني لما ذهبت إلى هذه المنطقة كان نزولي مثلاً عند الحاج الفلان كالعادة الجارية الآن فيقول هذا الحاج فلان: حينما تناولنا العشاء ونلنا قسطاً من الراحة قال لي: الله يعينك ففي يوم غد أمامك مشروع طويل عريض ففرحت انا وقلت له: ما هو؟ قال لي: خلاص غداً ان شاء الله نفطر في الصباح ونذهب الى مشروعنا، فخرجت معه فإذا به قد أتى بي الى المقبرة فقلت في نفسي: قد يكون جاء بي حتى ندفن ميتاً ونصلي عليه وبعد ذلك نخرج ونذهب فقلت: لا مشكلة نصلي عليه والسلام. فقلت له: لم أرَ احداً هنا لا مغسل ولا اناس يشيعون هل هذا الميت مقطوع من شجرة؟! فقال لي: ما عندنا اليوم ميت إن هؤلاء موتى من قبل، فقلت: ماذا؟! قال انظر إلى المقبرة، يقول: فنظرت إلى المقبرة وقد وضع على كل قبر علم إما أسود أو أبيض، يقول: ان هذا الأمر قد لفت انتباهي وقلت له مستغرباً متعجباً: هل أنتم تفرقون بين السيد وغير السيد بالأسود والابيض مثل العمائم؟ قال: لا. فقلت: تفرقون بين الكبير والصغير بالعلم الاسود والابيض؟ قال: لا. قلت إذن تفرقون بين الرجال والنساء؟ كون عباءة المرأة سوداء اللون فهذا أسود؟ قال: لا، هؤلاء الذين وضعت على قبورهم أعلام سوداء لم يصلّ عليهم إلى الآن، وأما الذين وضعت على قبورهم أعلام بيضاء فقد صلي عليهم وانتهت فترة الحزن عليهم!!
انظر إلى العالم كيف يعيش!
نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا من المقتدين العاملين فعلاً وولاءً وعملاً، غفر الله لنا ولكم.