نص كلمة بعنوان : أم البنين عنوان الكمال المعرفي

نص كلمة بعنوان : أم البنين عنوان الكمال المعرفي

عدد الزوار: 730

2013-04-30

في ذكرى أم البنين:

قال أمير المؤمنين (ع) لأخيه عقيل: «انظر إلى امرأة ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوجها ...»([1]).

تحل علينا الليلة القادمة ذكرى وفاة أم البنين فاطمة (ع)، وفي حياة هذه المرأة دروس وعبر، فمما لا شك فيه أن فاطمة بنت حزام لم تكن امرأة عادية كما قد يتصور البعض، ولو كان الأمر كذلك لما انتدب الإمام علي (ع) أخاه عقيلاً أن ينتقي له امرأة لتكون قرينة له، وتلي من شؤون بيته ما يجب أن تقوم به، مع الأخذ بالاعتبار المساحة الكبيرة الشاغرة التي خلفتها الشهيدة المرضية وراءها.

دلفت فاطمة إلى بيت علي (ع) والإمامان السيِّدان السبطان المظلومان الشهيدان كانا في حداثة السن، مع علمنا أن من مقتضيات المذهب أن مسألة العمر عند أئمة أهل البيت (ع) لا تقدم شيئاً ولا تؤخر، لأنهم أنوار من نور الله، وهي أنوار في طبقة واحدة من جهة، وتتمايز فيما بينها من جهة أخرى.

وعندما يقول الإمام علي (ع) لأخيه عقيل: انظر إلى امرأة ولدتها الفحولة من العرب، فلا بد أن يكون نظره منصبّاً على قضية مهمة وحساسة ومفصلية. فالمتبادر من كلمة (الفحولة) هو الشجاعة، لكن هذه المفردة لا تأبى أن يكون فيها إشارة إلى مجموعة من صفات الكمال بمعنى أنها ليست محصورة بالشجاعة، وإن كان هذا الركن مهماً وأساسياً، خصوصاً أن الغاية التي يرنو إليها الإمام (ع) هي أن تنجب له أبناءً يمثلون حلقةً وسدّاً أمام الأعداء في زمان ومكان وقضية، لكل منها قيمته السامية.

لُقبت فاطمة بأم البنين، وبظني أن أشرف وسامٍ علقته على صدرها هو أم البنين الشهداء، حيث قدمت أربعة ،كل منهم كيان قائم بذاته، وإن كان العباس (ع) كالقمر بين النجوم.

ومن خلال العطاء الذي بذله هؤلاء الأربعة نستكشف ما كانت عليه تلك السيدة الجليلة من الامتياز الذي يحاول البعض أن يصادره منها، فهي مدرسة تربوية بحق.

نشأة النبي (ص):

ولو أننا رجعنا قليلاً لرأينا أن النبي (ص) نشأ أول ما نشأ في أحضان البادية، حيث الصفاء بكل أبعاده المادية والمعنوية، فقبائل العرب لم تكن بالمطلق جاحدة لله تعالى، غير مؤمنة به، إنما كان الجحود يلف مجموعة من تلك القبائل، وإلا فإن الجزيرة العربية فيها من أتباع الديانة اليهودية والمسيحية والمجوسية، وهي تعني الإيمان بالله تعالى، والأهم من هؤلاء جميعاً من كان يتعبّد وفق معطيات مدرسة إبراهيم الخليل (ع) أبي الأنبياء.

وقد يقول قائل: إن المسيحية هي خاتمة الرسالات قبل رسالة النبي محمد (ص)، ولا بد أن تكون ناسخة لها. فنجيب: إن رسالة النبي عيسى (ع) لم تكن ناسخة لما قبلها من الرسالات، إنما متممة لها. ومن جهة أخرى فإن الحصر بالختم، كان بالرسالة التي جاء بها النبي الأعظم محمد (ص) حصراً. ومن جهة ثالثة فإن الديانات السابقة ــ ما خلا الحنفية التي جاء بها النبي إبراهيم (ع) ـ تلاعب بها المتلاعبون من الرهبان والأحبار ومن حمل شعار تلك الديانات. فمسيحية اليوم ليست هي التي جاء بها النبي عيسى (ع) ولو كانت كذلك لما تقاطعت وتعارضت مع معطيات الرسالة الحقة. وكذلك اليهودية التي انتابها التحريف في جميع جوانبها، حتى استغرقت في الجانب المادي، وجاءت بمبادئ ترتئيها لا تتوافق وأبسط مدركات العقل البشري البسيط، ناهيك عن كونها معطيات رسالة سماوية.

من هنا فإن تلك المرأة كانت من قبيلة عربية هي قبيلة بني كلاب، وفي هذه القبيلة الشجاعة والأدب والكرم، وهذه المقامات الثلاثة هي التي تتمايز على أساسها القبائل العربية فيما بينها، وتعتبر من مقومات العربي المتقدم على نظرائه في جزيرة العرب، وبقدر ما يتكثر عدد هذه العناصر في القبيلة وتشتد وتقوى، بقدر ما تكون قادرة على إنجاب الأفضل.

الاستشارة أم الاستخارة؟

وقد يقول قائل: كيف يلجأ الإمام علي (ع) إلى عقيل، وهو العالم بعلم الأولين والآخرين وفق معطيات الأحاديث الصادرة عن النبي محمد (ص) والتي أفصح عنها علي نفسه بقوله: «علمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي كلُّ باب ألفَ باب»([2])؟ فكيف يخفى عن أمير المؤمنين (ع) مثل هذه المسألة المحدودة؟

الجواب: إن هذه المسألة لا تخفى عنه (ع) بلا شك، إلا أنه أراد أن يضع أيدينا على أسرار النجاح في الحياة، وهي أن نتبع الأسباب الطبيعية، فلا نستغرق في جوانب ما وراء الطبيعة فيما يرتبط بشأننا الحياتي اليومي، كالمزاوجة والمصالحة والمتاجرة والمبايعة وما إلى ذلك، وعلينا أن ننهج الطرق الطبيعية.

وهنا لا بد من وقفة مع مفردة لا بد أن أنبه لها، وهي أن بعض الناس إذا نوى الزواج، وعيّن المرأة التي يريد الزواج بها بعد دراسةٍ لحالها، لجأ إلى الاستخارة، فما هو محل الاستخارة هنا؟ وهل هذا مورد استخارة؟

ومثل ذلك من يريد الانخراط في وظيفةٍ ما، فإنه يُجري اللازم، من الوثائق المطلوبة والمقابلة وغيرها، ثم يجلس إلى أحد المتمظهرين بالدين، فيشير عليه بالاستخارة، وهذا مثل سابقه، إذ لا محل للاستخارة هنا ولا معنى لها.

إن التاريخ لم يذكر لنا أن علياً (ع) استخار وهو يطلب من عقيل أن يبغي له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، ولم يذكر لنا أن أئمتنا (ع) لم يكونوا يخطون خطوةً إلا مع الاستخارة، إنما كانت مدرستهم: «اعقلها وتوكل»([3])، وأن نأخذ بالأسباب الطبيعية، ونستعين بمشورة الآخرين، وندعو الله تعالى أن يذلِّل العقبات والصعاب على فرض احتمال وقوعها. فالأمر الأول هو المشورة، ثم الاستخارة.

ومن المهم جداً أن نشير إلى أن الاستخارة ليست آية محكمة، ولا فتوى من مرجع تحرم مخالفتها، فالبعض قد يرهن حياته ومصيره ومستقبله بالاستخارة. ويا ليت هذا البعض ممن يمارس هذه الممارسة يوازنها مع بعض الأمور الأخرى، فهو يلزم نفسه بالاستخارة بشدة، إلا أن نسبة صلة الرحم لديه واطئة جداً، لا يحرص عليها كما يحرص على الاستخارة. وكذلك الرفق بالزوجة ورعاية الأبناء، وما إلى ذلك من الجوانب الضرورية في حياة المؤمن.

ولما وجد بعض أصحاب الاستخارة والمتاجرين بها ــ مع شديد الأسف ــ أن هناك قاعدة بسيطة من الناس يمكن مصادرتها والمتاجرة بها، ذهبوا بالاستخارة إلى مديات وآفاق بعيدة جداً، فنصب بعضهم نفسه علّاماً للغيوب، فلو استخار لديه أحد أعلمه بما يكون بالتفصيل، وكأنه وحي يوحى، أو ينطق عن الغيب، أو يُعلمه بعض الجن. هذه كلها (دَرْوَشَة) وضحك على الذقون البسيطة.

من هنا نجد أن أمير المؤمنين (ع) يأتي إلى عقيل، باعتبار أن لديه خبرة كبيرة عالية في تشخيص القبائل، وما تمتلك من مخزون عالٍ من نسب الكمال. وبهذا يدفعنا باتجاه استشارة أهل الخبرة فيما نحتاجه في حياتنا اليومية، فمن شاور الناس شاركهم في عقولهم، ومشاركة العقول دليل النضج، وليس لأحد أن يتصور أن من يستشير الآخرين فهو ناقص العقل، بل على العكس من ذلك، لأنه باستشارة الآخرين يضم عقول الناس إلى عقله.

وهكذا يجيب عقيل أخاه علياً قائلاً: أينك عن فاطمة؟ أي أنها جوهرة ينبغي أن تضع يدك عليها. فخطبها علي (ع)، وتزوجها، وأنجب منها الفحولة من العرب، لأن أعلى وسام بعد الإيمان هو وسام الشهادة، ولدينا في هذا الباب روايتان:

الأولى: «حب عليٍّ حسنة لا تضر معها سيئة»([4]).

الثانية: «فوق كل ذي برٍّ بر، حتى يقتل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر»([5]).

وبالجمع بين الروايتين نقول: لأن أم البنين تعرف مقام الإمامة فقد أعدت أبناءها، ولأنها أعدتهم الإعداد الصحيح فقد ساروا على الطريق باتجاه الإمامة وامتثلوا أوامر الإمام. ولأنهم في مقام من القرب يستحق أن يفاض عليهم المقام العالي وهو الشهادة فقد أكرمهم الله تعالى بها. وبذلك جمع هؤلاء الأبناء بين ركيزتين أساسيتين، هما: الإيمان بالإمامة، وهو مفتاح الجنة، والشهادة، لذلك ضحوا بأرواحهم دون إمامهم وسيدهم.

السيدة العارفة:

لقد كانت السيدة أم البنين تنادي الإمام الحسن (ع) الذي لم يكن يبلغ آنذاك إلا ست سنوات بقولها: سيدي، ولم تناده باسمه. وهكذا كانت تتعامل مع زينب (ع). فبناء على الرواية التي تقول إن أم البنين (ع) كانت موجودة في المدينة إبان واقعة الطف، نجد أنها بما لها من المنزلة والكيان تقع على قدمي زينب (ع) تقبلهما. وهذه هي المعرفة، ومن تبلغ تلك الدرجة من المعرفة لا يمكن أن تكون امرأة عادية من سائر النساء. ومن أنجبت العباس (ع) وهو باب من أبواب الجنان، وأحد أهم أركان قضاء الحوائج، لا يمكن أن تكون امرأة من سائر النساء.

أسأل الله تعالى أن يشفعها فينا، وأن يقضي حوائجنا بها، ويشافي مرضانا، ويكتبنا من المحسوبين عليها. والحمد لله رب العالمين.