نص كلمة بعنوان: أثر النجف الأشرف على مدرسة الاحساء العلمية والأدبية

نص كلمة بعنوان: أثر النجف الأشرف على مدرسة الاحساء العلمية والأدبية

عدد الزوار: 612

2013-03-13

إطلالة على الأحساء:

ولا بد أولاً من تعريف بسيط بهذه المحافظة الطيبة بأهلها، والتي أسأل من الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم تحت سقف واحد في يوم من الأيام، في واحدة من أمسياتها.

فالأحساء مدينة موغلة في القدم، لها ارتباط وثيق بجميع شرائع السماء، فلليهودية ما يدلُّ على أنها استقرت في المنطقة شطراً من الزمن، كما أن للمسيحية نصيبها من ذلك، ثم جاءت الرسالة الخاتمة لتتوِّج مسير السماء في تلك الربوع.

وقبل هذا وذاك، كان للإنسان، بما هو إنسان، صانع التاريخ ورافع أسس الحضارة، بصمة شاخصة فيها، فللآشوريين والفينقيين وغيرهم، آثارهم التي تدل على دورهم وبصماتهم، وهي شاخصة إلى يومنا هذا.

والبحث التاريخي والتنقيبات الهائلة التي باتت تبحث عن كثير من الأسرار المهملة في يوم من الأيام، أضحت اليوم شواهد حاضرة ناصعة على أن المنطقة لها ما لها من التاريخ، وأنها واحدة من عوامل الدفع لدى الإنسان للتقدم في مسيرته الحضارية.

تقع الأحساء في شرق المملكة العربية السعودية، وهي واحة خضراء غَنَّاء تعتبر أكبر واحة نخيل في العالم، وفيها الكثير من المعالم التي يدلل بعضها على ما للطبيعة من أثر في جمالية الموقع، ومنها ما يشدها إلى بعدها الديني وموروثها العقدي.

فهناك مثلاً جبل يدعى «جبل القارة» شهرةً، أما في الكتب التي توثق لهذا الجبل، وما في معطيات اللغة، أنه كان يسمى بجبل «الشبعان»، وفيه من الخصائص الطبيعية الشيء الكثير، وكان ملاذاً في يوم الأيام لكسر قائظة الصيف، لأنه يمتاز ببرودة متوافقة مع من يرغب في ذلك، متعاكسة مع ما يكون في الخارج. والعكس بالعكس عندما يكون الشتاء القارس، إذ يجدون فيه ملاذاً لهم، حيث التدفئة الطبيعية، وفيه من الكهوف الكثير، مما يدل على أن الإنسان اتخذ من هذا الجبل في يوم من الأيام، مأوىً وملاذاً له. بل ربما لو أسعف الوضع من يهمه الأمر أن يضع يده على بعض الشواهد لما تعذر عليه ذلك، فآثار المنحوتات المضافة إلى جمال الطبيعة، ودقة صنع الصانع تشير إلى ذلك بوضوح.

أما في البعد الديني فهناك مسجد جُواثا([1])، وهو مسجد قبيلة بني عبد القيس، القبيلة الأكبر والأقدم في هذه المنطقة، وهي التي زودت مسيرة الرسالة في النبوة والإمامة بالمدد، وضخّت في شرايينها الكثير من الدماء، فكان هنالك صعصعة بن صوحان، وأخوه زيد، وأسماء أخرى كثيرة.

إن ذلك المسجد عَدت عليه الرمال وطمرته، ثم بعد التنقيب الحديث تم التوصل إلى معالمه، فأعيد بناؤه وترميمه، وهو يعتبر ثاني مسجد في الإسلام تقام فيه صلاة الجمعة، كما في الرواية عن ابن عباس عن النبي محمد (ص) وهو اليوم يشكل قبلة للزائرين الذين يبحثون عن المواطن الأثرية.

كما أن هنالك قصوراً تدلل على العهد العثماني، وما طَبع به المنطقة من طابع، كقصر إبراهيم الذي يشتمل على مسجد له قيمته التاريخية، إذ يربو وجوده على أكثر من  400 سنة تقريباً، ولا زال في جودته، ويقع في الهفوف العاصمة الإدارية للمحافظة.

أما المبرَّز ففيها قصر آخر يدعى «قصر صَهود»، الذي كان يشكل قلعة في يوم من الأيام لاجتماع الجند، وأحياناً لخزن المؤن، ويقع على رابية في قلب مدينة المبرَّز، ويشكل واحداً من المعالم الأثرية المهمة.

عروبة الأحساء ونسيجها الاجتماعي:

أما أهل المحافظة، فهم القبائل العربية الأصيلة، وأؤكد هذا المعنى لخصوصيته وأهميته، لأن هنالك من يزايد على هذه القضية، فيدعي أن أبناء هذه المنطقة لا يعدون كونهم من بقايا حُجاج متخلفين من بعض الدول المجاورة، فالحقيقة على العكس من ذلك تماماً.

فالقبائل العربية كانت في هذه المنطقة قبل الإسلام، وبناء على ذلك، ومن باب أولى أنها كانت متواجدة هناك قبل أن تُسنَّ تشريعات الجنسية التي باتت تفصّل وتقطع أوصال الكيان الإسلامي مع شديد الأسف.

فأبناء هذه المنطقة من القبائل العربية الأصيلة، ومن أتباع الديانة الإسلامية بالمطلق، فل يوجد بين أبناء تلك المنطقة اليوم من لا ينتمي للديانة الإسلامية الخاتمة.

وفي مجتمع الأحساء يوجد أبناء السنة والشيعة، ويشكلون نسيجاً اجتماعياً واحداً، وبينهم الكثير من الوشائج والصلات التي ترقى في بعض الحالات إلى مرحلة الرضاعة، بمعنى أن تدفع المرأة الشيعية وليدها لأختها السنية لترضعه، والعكس بالعكس، ولا تزال فيها الكثير من الشواهد الدالة على ذلك، منها وجود الإخوة من الرضاعة من الفريقين السنة والشيعة. وقد ساعدت تلك الروح التي تولدت من خلال هذه المصاهرة السببية، على شيوع حالة من الهدوء والسكون والاستقرار والمحبة التي كانت وما زالت تسود ساحة هذا المجتمع الطيب. إلا أن ذلك لا يلغي ما للتقلبات والتحولات السياسية من أثر في زرع بعض بؤر التوتر في بعض الأحايين، وربما تعلو وتيرتها وتتسبب أحياناً في هجرة مفروضة، كما حصل في بعض القرون المتأخرة، ولكن في معظم الأحيان كانت الهجرة اختيارية ولم تكن أسيرة الضغط السياسي أو الخوف من مقصلة الأمن، إنما كان يقف وراءها الرغبة في تحصيل العلم والإثراء الأدبي.

هجرة الأحسائيين لطلب العلم:

وقد كان لأبناء تلك المنطقة أكثر من هجرة، وانتقلوا إلى أكثر من قطر وقطر، بحسب ما في تلك الأقطار من مقومات جذب للمهاجرين من تلك الربوع الطيبة.

فكانت هناك هجرة باتجاه الحجاز إلى مكة والمدينة لأنها كانت تمثل في القرنين التاسع والعاشر ثقلاً علمياً وأدبياً وتاريخياً وثقافياً كبيراً، فيمم شطرها جماعة ونهلوا منها، بل واستجاز البعض منهم من مشيخة الحرمين في تلك الفترة الزمنية، إلا أن التاريخ قسا ـ مع شديد الأسف ـ قسوة شديدة على هذا الإقليم وتلك المحافظة بحيث لم يقدِّم لنا الكثير مما ينبغي.

وكانت هنالك هجرة أخرى إلى إيران، وهي هجرة متكررة، كانت تحدث قديماً، ولها رموزها وجماعاتها. ثم جاءت الهجرة الأخرى في العقود الثلاثة المتأخرة، فكانت من أجل تحصيل العلوم.

وتكررت الهجرة الأخرى التي كان لها أثرها المباشر في بناء الفرد والمجتمع في الأحساء، ألا وهي الهجرة إلى مدينة النجف الأشرف، المشرَّفة بأنوار علي (ع) وهذا ما يهمنا أولاً وبالذات من هذه الأمسية.

الهجرة إلى النجف:

لقد كان الدافع الأساس من الهجرة إلى العراق هو تحصيل العلم، والارتقاء في هذا الجانب، كما أنهم لم يغفلوا الجانب الأدبي، الذي كانت له سوق رائجة في يوم من الأيام، بل إنهم وصلوا إلى تسيّد منصة الأدب في الوطن العربي، من شرقه إلى غربه، ولهذا الأمر شواهده ورموزه، ولو أردت أن أدخل في هذا السرد لما كنت أكثر من ناقل التمر إلى هجر، لأن أهل الدار أولى وأعرف بما فيها.

بعض أعلام الأحساء:

إن الهجرة إلى النجف الأشرف أفرزت وأبرزت كوكبة نيرة في سماء العلم والمعرفة، ففي الهجرة القديمة الأولى برز نجمُ ابن أبي جمهور الأحسائي التهيمي، وهو الرجل العملاق في مدرسته، حيث جنح إلى الفلسفة والكلام والتصوف، وقد قسا عليه من قسا، حال أن ما كتبه في الفقه والأصول والتفسير لا يقل عما كتبه وسطره في الجوانب الأخرى، ولكن من المؤسف أن يُحتضن هذا الرجل من قبل باحثين ودارسين في ألمانيا، وتُقدَّم فيه رسائل جامعية عالية في الدكتوراه لدراسة قلمه، وما خلّفه وراءه، في حين أننا لم نرَ عيناً ولا أثراً من ذلك في أوساطنا وحواضرنا الحوزوية، وهي المعنية به أولاً وبالذات.

لذا نجد أن الأحكام على هذا الرجل متباينة، لأن قسماً منها بني أساساً على ما استنتجه أولئك المستشرقون والباحثون حول هذا الرجل العظيم، مما أكسب المسألة كثيراً من الغموض. نعم، هنالك رسالة بسيطة لآية الله العظمى السيد المرعشي النجفي (قدس سره) ينزه فيها الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي عن إشكالية التصوف التي رمي بها.

وهنالك عَلمٌ أحسائي آخر وهو كالشمس في رائعة النهار، ألا وهو الشيخ الأوحد، أحمد بن زين الدين الأحسائي (قدس سره)، وهو غني عن التعريف، وأعرف من أن يُعرَّف ومن يتحدث عنه إنما يعرِّف نفسه ولا يعرِّف ذلك الرجل العظيم، فنتاجه وآثاره كثيرة، لكنه وقع أيضاً تحت طائلة الظلم، والمطاردة الفكرية والمحاكمة على أنصاف العبائر، ومع شديد الأسف، لا زالت هذه الحالة إلى يومنا هذا تطارد الكثيرين ممن يحاولون أن ينفتحوا على واقع جديد في قراءاتهم.

أما الهجرة الأحسائية الحديثة للنجف فقد أنجبت لنا أعلاماً من الكثرة بمكان، أسلط الضوء على بعض الأسماء التي أحدثت تغييراً نوعياً في تركيبة المجتمع الشيعي في الأحساء مع ما لها من أثر على المشهد في عمومه، ومن هؤلاء:

1 ـ الجد الأكبر السيد هاشم السلمان، الذي كان أحد المراجع الذين امتدت مرجعيتهم من الأحساء إلى جنوب العراق ومناطق خوزستان، وله رسالته العملية، وقدمه الراسخة في الفقاهة والحديث وغيرهما من العلوم. وهو الذي أسس للمرجعية المحلية في المنطقة، وبعده أخذت المرجعية نسقاً من التتابع حتى وصلت إلى مرحلة أشير إليها لاحقاً.

وفي زمن السيد الجد حصل شبه انفصال في الرجوع بالفتوى للنجف الأشرف، مع بقاء الرابطة في إعداد رجال دين بمستوى حفظ المسار للمنطقة، وكلنا يعلم أن الظروف الاقتصادية في الزمن السابق، وكذلك وسائل النقل، لم تكن تساعد على التواصل كما هي عليه اليوم، لذا نجد أن المرجعيات كانت متعددة في الكثير من الأقطار، كإيران والعراق والهند وباكستان ولبنان وحتى سوريا، فاليوم يمكن أن تُشكَّل مرجعية عليا، أما في تلك الفترة فمن الصعب جداً أن تنفرد مرجعيةٌ بالمشهد.

وسماحة السيد الجد هاشم السلمان، درس في النجف الأشرف، وتربى فيها وأخذ عن أعلامها، وأجيز من كبار الفقهاء فيها، وعاد إلى بلاده مزوَّداً بإجازات الرواية والاجتهاد، فتصدى لأمر المرجعية لحاجة المنطقة إلى ذلك آنذاك.

2 ـ السيد ناصر المقدس السلمان: خلَّف السيد هاشم السلمان وراءه أبناءً، منهم السيد الخال السيد ناصر المقدس (قدس سره الشريف) الذي كان معاصراً للسيد أبي الحسن الإصفهاني، وقد تصدى هو الآخر للمرجعية، وكان في سياق مرجعية والده رحمه الله تعالى، وقد ثنيت له الوسادة، وكانت مرجعيته أكثر شمولية من مرجعية والده، وكان لها حضور نسبي في الصراع السياسي، لم يكن موجوداً في مرجعية والده، وكان يحظى بعناية خاصة من السيد أبي الحسن الإصفهاني (قدس سره الشريف) المرجع الأعلى آنذاك في النجف الأشرف، إلا أن مرجعية السيد الخال لم تدم طويلاً، حيث انتقل إلى جوار ربه.

كان السيد ناصر السلمان إذا دخل الحضرة العلوية والسيد أبو الحسن الإصفهاني مشتغل بأمر ما، فإنه يرفع يده عن ذلك الأمر ليقبل على سماحة السيد السلمان لجلالته وعظم شأنه، ولمعرفة المرجعية العليا بخصوصياته.

3 ـ آية الله العظمى الشيخ موسى أبو خمسين (قدس سره)، المدفون في مدخل باب القبلة من الحضرة العلوية الشريفة، وكان معاصراً للسيد ناصر المقدس، وكانت مرجعيته محدودة بالقياس لمرجعية الخال السيد ناصر السلمان.

4 ـ الشيخ حبيب بن قرين: الذي قضى شطراً من عمره في البصرة جنوبي العراق، وهناك حادثة تُذكر في تاريخه وقعت في البصرة في أيام العلامة والمرجع والمفكر والأديب الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره الشريف) عندما دعي للبصرة من قبل شيوخها ووجهائها، فدعا الشيخ حبيب بن قرين للحضور، وعند باب الدخول للمجلس صار الشيخان يعرض أحدهما على الآخر التقدم، فما كان من الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء إلا أن أمسك بيد الشيخ حبيب بن قرين وأدخله وقال: والله لو قدَّموا حظهم لقدموك.

وهي عبارة فيها من القيمة ونكران الذات الشيء الكثير، وهذا ما ألفناه من علمائنا الماضين.

5 ـ العم الشيخ حسين الخليفة (رحمه الله): بعد وفاة الشيخ حبيب بن قرين انتهت المرجعية عملياً في داخل المنطقة، وكانت هنالك وكالة مطلقة للعم الشيخ حسين الخليفة (رحمه الله تعالى)، وهو من المجتهدين والعلماء الذين تصدَّوا للوكالة عن الكثير من مراجعنا في النجف الأشرف.

وقد رأى سماحة الشيخ العم حسين الحليفة أن تعود المرجعية بعد وفاة الشيخ حبيب بن قرين إلى النجف الأشرف من جديد، وكان المرجع فيها آنذاك آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين، وهو قلعة من قلاع العلم والتقوى والورع.

وبهذا تكون المرجعية الدينية في الأحساء قد طوت ملفاتها تماماً إلى يومنا هذا، حتى يأذن الله تعالى بتجدد ذلك بعد حين.

عوامل الربط بين الأحساء والنجف:

وللإجابة عن سؤال مفترض: ما هي نقاط الربط بين الأحساء وهذه الحاضرة الكبيرة المقدسة بتاريخها، وبمن تحتضنه في ترابها الطاهر وهو المولى علي (ع) ؟

نقول: هنالك أكثر من عامل يؤمِّن هذه الحالة من الربط بين الموقعين، منها:

1 ـ وحدة المعتقد المذهبي: ومن دعائم ذلك وجود قبر المولى في هذه المدينة، فالمترددون على هذه المدينة من الأحساء قديماً وحديثاً هم فوق العد والحصر، وهذا يؤمّن
ـ بلا شك ـ حالة من الربط الوثيق بالمبدأ، وهو مبدأ الإمامة لآل محمد (ع).

2 ـ الرغبة الجادة في تحصيل العلم من مظانه: فكلنا يعلم أن النجف هي الحوزة ذات الألف عام، أو ما ينوف على ذلك، وهي بما لها من عمق، وما أنجبته من أبنائها الذين حملوا المسؤولية كما ينبغي، وما احتضنته من أعلام وفدوا إليها فأوصلتهم إلى مقامات متقدمة في جميع شعب العلم ومعارفه، منحت الأحسائيين من فيض عطائها، فلم يكن الأحسائيون بدعاً من ذلك الجو، إنما كانوا في خضمه ووسطه بل كان لهم تقدم في بعض المساحات كما أشرت في المفردة المتقدمة.

فالرغبة في تحصيل العلم في المدرسة الشيعية له شواخصه، ومن أهم تلك الشواخص في ما في هذه الحاضرة التي نتحرك في أوساطها.

3 ـ غزارة الأدب وصفاؤه في هذه الحاضرة الكبرى (النجف الأشرف) فهي في أدبها تحتل مقام الصدارة لو أنصف الحكم، ولكن مع شديد الأسف، لم يقتصر الأمر على عدم إنصاف الحكم، إنما لم نُنصِف نحن أيضاً هذه المدينة في أدبها. فقد صُدمت وذُهلت عندما كنت أقرأ في مجموعة من الموسوعات الحديثة عن مدينة النجف ـ ولا أريد أن أسميها ولا أذكر كاتبيها، الذين أكنُّ لهم الاحترام على ما بذلوه من جهد كبير ومضنٍ ـ فلم أرَ أن تلك الموسوعات أنصفت النجف أدبياً. وبالنتيجة لم يصل الأدب النجفي إلى يومنا هذا إلى جميع الحواضر في الدول العربية.

فالشاعر العملاق من النجف وإلى النجف، وهذه مأساة في واقع الأمر، فهو من النجف، ويجب أن يكون ثابت القدم فيها، ولكن كما قال الإمام علي (ع) لمحمد بن الحنفية: «تد في الأرض قدمك، أعر الله جمجمتك، ارمِ ببصرك أقصى القوم».

فالأديب والكاتب والباحث والمؤلف والمحقق، بل وحتى الفقيه، يفترض أن يكسر هذا الطوق، ويتمرد على هذا الواقع الضيق، وأن يسافر إلى البعيد، فالمرحلة اليوم تساعد على ذلك، وإن كانت ثمة مندوحة لمن تقدمنا فلا مندوحة لنا اليوم، فكل شيء بأيدينا، ونخشى أن يأتي اليوم الذي نندب فيه حظنا، وعندئذٍ تكون واحدة من الكوارث، فليس هناك أفضل من هذه الإمكانيات والأسباب والمقدرات والمقومات والذوات المتحفزة والرغبة الجادة في نفوس شبابنا، وفي الطليعة أنتم. لذا يفترض أن تأخذ الحركة وتيرة أسرع.

فأنت عندما تطرح مقطعاً أدبياً لواحد من عمالقة الأدب في النجف في يوم الأيام، تجد أن المستمع في الطرف الآخر مشدوداً ومعجباً، بل إن أحمد شوقي عندما قرئ عليه شعر السيد حيدر الحلي:

                          عثر الدهرُ ويرجو أن يُقالا         تَرِبَتْ كفُّك من راجٍ مُحالا

أيُّ عذرٍ لك في حادثةٍ             نسفت من فيك قد كانوا الجبالا

اهتز شوقي طرباً، وكبّر ثلاثاً، وهو مقطع لشاعر واحد، فكيف الحال مع شعراء النجف الذين لا يقلون شأناً عن هذا الرجل العظيم، لو وصل صوتهم إلى تلك الأصقاع؟!

صدقوني أنهم هناك يقيمون الأدب بما هو أدب، إلا أن الأدب النجفي لم يصل إليهم.

من هنا فقد جاء جمع من الأحسائيين إلى النجف للاستزادة من هذا النبع الصافي والمورد الطيب ليحفزوا القرائح التي فطرها الله في داخلهم، وقد برز من هؤلاء أعلام عاشتهم النجف وعاشوها في الكثير من مواطنها، ومنهم العلامة الشيخ باقر بو خمسين رحمه الله، الذي ترجم له مجموعة ممن ترجم، وسوف أذكر بعض المصادر في آخر الكلام.

ومنهم العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي، ومن منا لا يعرف هذا العَلَم الذي صقل مواهبه العلمية والأدبية في هذه الحاضرة؟ فقد استزاد من النجف، وما كان منه خارجها إنما هو من باب التغذية للغير.

وكذلك الأستاذ محمد العلي، المعروف بالهجري، الذي طالما علا صوته في جنبات المسجد الهندي ومنتدى النشر وكلية أصول الفقه والمنتديات التي كانت تقام، وهو يمثل قامة وشخصية كبيرة، وكان عصامياً في نفسه، لذلك كان يعيش في دائرة الظل مع شديد الأسف. وهؤلاء الثلاثة يمثلون مقدمة القافلة وسط الكثير ممن عاشوا تلك المرحلة.   

أما اليوم، ففي الأحساء رواد ومتقدمون في عالم الشعر ومدرسة الأدب، وهؤلاء وإن لم يتصلوا بالنجف مباشرة، فإن الواسطة تجمع بينهم وبينها، ورحم الله من قال:

                         لا عذب الله أمي إنها شربت     حب الوصــي وغــذتـــنيــه باللبنِ

وكان لي والدٌ يهوى أبا حسنٍ    فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسنِ

فوالله لو لم يكن علم النجف لما قرأنا عالماً في أي صقع من أصقاعنا، ولو لم يكن أدب النجف هو المحفِّز والدافع لما استطعنا أن نصف الشاعر ممن يتبع المدرسة شاعراً، فالنجف علمٌ وأدبٌ، وهي لا تستطيع أن تحلِّق إلا بهذين الجناحين، فمتى ما كسر أحدهما أعيقت حركتها في الطيران.

ومن هؤلاء الروّاد في عصرنا الحديث الأستاذ جاسم الصَّحيِّح وقد كان في هذا المحفل في يوم من الأيام، وبات اليوم يحصد الكثير من الجوائز في الكثير من المسابقات في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، وهو قامة أدبية مع محافظةٍ على البعد المذهبي والانتماء الوطني، وهاتان الدعامتان أساسيتان للشاعر إذا ما أراد أن يكتسب مصداقية.

ومنهم الأستاذ ناجي الحرز، مؤسس منتدى الينابيع الهجرية، وهو أيضاً قامةٌ ورجل جليل محترم يدين له بالفضل الكثير ممن ركبوا سفينة الشعر والأدب اليوم، لأنه احتوى الجميع وساعدهم واستطاع أن يصل بهم إلى ما وصلوا إليه.

ومنهم أيضاً الأستاذ جاسم عساكر وهو من الشعراء المتقدمين، وصاحب دراسة معاصرة جيدة، وبات يزاحم أيضاً على الكثير من المسابقات.

وهنالك أيضاً الأستاذ ناجي الحرابة، وهو شاعر متقدم أيضاً ينحو منحى اللاهوت في شعره. ونسأل الباري عز وجل أن تساعد الظروف على أن يحضروا في مثل هذا المكان.

فهؤلاء جميعاً، وإن لم يأتوا إلى النجف ويأخذوا منها مباشرة، إلا أنهم أخذوا بالواسطة، ويستطيع المرء أن يضع يده على الكثير من الشواهد في شعر هؤلاء، ولو كان لدي الوقت الكافي لأتحفتكم بالكثير من الشواهد على ما أدعيه، وهو أن الشاعر والعالم اليوم، وإن لم يأت إلى لنجف إلا أنه ابنها، ولا يتنكر لهذا الواقع إلا من عليه أن يراجع ما ينطوي عليه داخله.

الأثر النجفي في الأحساء:

فالنجف الحبيبة أثرت كثيراً في أبناء الأحساء في مجموعة من الأمور، منها:

1 ـ صقل الملكات الروحية لدى الطالب الحوزوي، فعندما يأتي الطالب إلى النجف فإنه يأخذ درساً روحياً، إلا أنه لا يأخذه عن طريقٍ تعود الناس أن يأخذوه منه، فيكفي المرء أن يقف عند أعتاب علي (ع) ليعيش علياً في روحه، لينعكس بعد ذلك الإشراقُ على داخله، وهذا ما لا يمكن لنا أن نتنسَّمه في موطن آخر.

ومما يصقل المواهب والملكات الروحية التردد على الضريح الطاهر، والارتباط بالناحية المقدسة، فكانت ليلة الأربعاء تشكل للطلبة الأحسائيين في هذه المنطقة ليلة استثنائية كليلة الجمعة إلى كربلاء، فهم لا يفرطون فيها بزيارة مسجد السهلة، والتعبد والتبتل والاتصال والانقطاع لله تعالى، والاقتراب من مساحة صاحب العصر والزمان (عج).

فهذه الروافد الثلاثة (التردد على الضريحين الطاهرين للإمام أمير المؤمنين (ع) والإمام الحسين (ع) ومسجد السهلة) بنت الروح الأحسائية، واستطاعت أن تصل بها إلى حالة من الصفاء، وكان لها انعكاسها عليهم.

2 ـ الجانب العلمي: ويكفي شاهداً على ذلك تخرج جماعة من رجالات العلم الذين استطاعوا أن يصلوا إلى مقام المرجعية مع وجود قامات سامقة جداً في النجف الأشرف. وهذا دليل أيضاً على أن النجف استطاعت أن تصل بجميع من أراد أن يصل من خلالها إلى المنبع الصافي والمراتب المتقدمة.

وللبناء العلمي روافد عديدة، منها:

أ ـ حضور حلقات الدرس عند أعلام المدرسة النجفية، ففي الزمن القديم، كان الأعم الأغلب أن يأتي الطلبة إلى النجف بعد أن يُنهوا مرحلة السطوح، وأعدوا أنفسهم إعداداً كاملاً من خلال المقدمات والسطح الأول والثاني، فكانوا يحضرون في محافل المجتهدين وأساتذة البحث الخارج ممن هم على درجة عالية من العلم.

وبالرجوع إلى كتب التراجم نلمس مثلاً اسم الشيخ الآخوند الخراساني الذي يتكرر في ترجمة الكثير من أولئك الأعلام، وكذلك السيد اليزدي، وشيخ الشريعة، والسيد أبو تراب، (رحمهم الله جميعاً)، وغيرهم. وفي العصور المتأخرة نلمح أسماء السيد الخوئي والسيد الشاهرودي والسيد الشهيد الصدر (رحمهم الله). مما يدلل على أن الانتقائية كانت سيدة الموقف في انتقاء هؤلاء في تلك الدروس.

ب ـ وفرة الكتاب الحوزوي في حاضرة النجف الأشرف، إذ لم يكن متوفراً لدى الباحث والعالم والمحقق في الأحساء، بسبب الاضطراب المذهبي في تلك الفترات، فكانت الحاضنة الطبيعية التي تتوفر في جنباتها الموسوعات والكتب التحقيقية هي النجف الأشرف، مع عامل قوي فيها و