نص خطبة: ملامح من حياة  الإمام  العسكري عليه السلام

نص خطبة: ملامح من حياة الإمام العسكري عليه السلام

عدد الزوار: 752

2013-01-24

قال الإمام الهادي (ع): «أبو محمدٍ ابني، أصح ([2]) آل محمد غريزةً، وأوثقُهم حُجةً، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها» ([3]).

ذكرى شهادة الإمام العسكري (ع) على الأبواب، وحياة أئمتنا (ع) ملأى بالدروس والعبر، إلا أنها لم تحظ بأقل القليل مما ينبغي أن يسلَّط عليها، وإذا قايسنا ما كُتب في سِيَر أئمتنا (ع) وما سطّره الآخرون في كبارهم، لوجدنا أن المقارنة مخيفة.

فأئمتنا (ع) هم القرآن الناطق، ورسالة السماء المتجسدة على الأرض، فإذا ما أردنا أن نُيَمِّم وجهَ الله ففيهم، فهم الكمال، ومن لا يرغب في الكمال فهو ألصقُ بضدّه، وهم نور، ومن لا يرغب في النورانية فهو بالظلمة ألصق، لكن علينا أن لا نقف موقف سلب بالمطلق مع من لا يسير على الطريق، لأن الهداية من الله، والمرشد إليها الأمناء بعد الأئمة المعصومين (ع) وهم العلماء.

فخير من أن ندعو بالهلاك والويل والثبور، أن نقدّم سيرة محمد وآل محمد (ص) على طبق من نور مزيَّن بنورانيتهم (ع) لأنه ما من إمام من أئمتنا إلا وعاش وسط مجتمع لم ينأَ بنفسه عنه، وما من أحد منهم (ع) إلا وحمل المسؤولية على عاتقه وجسدها واقعاً متحركاً في جميع مفاصل المجتمع، لذلك قُتل من قُتل، وسُجن من سجن، ثم تمت تصفيته بطريقةٍ رسم معالمها خليفةُ الشام.

وبظني أن المسألة لا تحتاج إلى مزيد من التوقف والتأمل وإعمال النظر، لأن المقتول مظلوم، بحسب القواعد الأولية، والمسجون مظلوم بحسب تلك القواعد، والمشرد من بلد إلى بلد يكمل ظلعاً ثالثاً لمثلث مقدس، إذا ما كانت القضية تعني في ما تعنيه ابتداءً واستمراراً وانتهاءً، وجه الله تعالى. ومن منا لديه قيد أنملة من شك أن محمداً وآل محمد (ع) ومن سار في ركبهم، إنما اختار هذا الطريق؟.

إن اختلاف الذهنيات، وتنافر المدركات، وتباين الآليات، يعتبر أمراً حتمياً، لكن النتيجة واحدة، وهي طلب الرضا من الرب جلت قدرته، وأن نكون بمعية محمد وآل محمد (ع). 

هل أعطينا الإمام العسكري (ع)، ذلك الكوكب الزاهر، ما يتوافق وتلك السيرة العطرة؟ ألم ينهض الإمام العسكري (ع) بتمام المسؤولية فيما تحتّمه الظروف الزمانية والمكانية والصراعات كما ينبغي؟ إذن لمَ هذا الجفاء والقطيعة وعدم التواصل، بل والابتعاد أحياناً عن محيط سيرة أمثال هؤلاء العظماء.

كلنا يُقر ولا يكابر، أن الطرف الآخر من سلسلة الإمامة ـ أعني ما بعد الإمام الرضا (ع) وهم الجواد ثم الهادي ثم العسكري عليهم السلام ـ هي مرحلة زمنية في منتهى الخطورة والتعقيد، لأن العباسيين نصبوا أمامهم هدفاً واحداً لا ثاني له، وهو الإجهاز على الخلف الباقي من آل محمد (عج)، فراحوا يترصدون حتى النساء العلويات في بيوتهن، لعلهم يهتدون إلى خيط رفيع يرشدهم إلى موطن ذلك النور الأقدس، والشعاع الأعظم.

واشتدت الظروف على العلويين في تلك المرحلة بما لا نظير له، لكن كتب التأريخ، من الفريقين، لم تُولِ هذه المفردة أهمية تتناسب وعظمها مع شديد الأسف.

لقد عاش الإمام العسكري (ع) وسط نسيج اجتماعي له خصائصه، وعلينا جميعاً ـ أيها الأحبة ـ أن ندرك أن لكل مجتمع خصائصه، وأنَّ ما يمكن أن يجري هنا قد لا يتوافق مع ما يجري هناك. لذلك عندما نرجع للعالم الاجتماعي الكبير الدكتور علي الوردي في قراءاته واستنتاجاته لإرهاصات مجتمع عاش واقعه، فإنه يدلنا على الشيء الكثير، ويأخذ بأيدينا إلى مسافات بعيدة.

ما زال أرباب علم الاجتماع، ينساقون وراء مقدمة ابن خلدون، وهم يظنون أنهم يُحسنون صُنعاً، لكن القواعد التي أصّلها في مقدمته لا يمكن أن تنسجم وتتماشى مع مجتمع متحرك، لم يعد جامداً في جانبه الاقتصادي ولا الفكري ولا العقدي ولا السياسي، فكلنا يعلم ما للساسة والسياسيين من أثر في نقل أحجار الشطرنج هنا وهناك، وما لرجال العلم من أثر مشابه، وأعني العلم في معناه العام، وليس العلم الديني فحسب، فالقرآن الكريم عندما نادى بطلب العلم، وأكد الرسول (ص) ذلك، فإنه لم يخصص فئة معينة.

من هنا فإن كل من أمسك بقبس من نورانية العلم، وأرشد الأمة من حوله، وخطا بها خطوات إلى الأمام، ولو في جانبها المادي، فذلك عظيم في نظر الشرع. لذا ذهب جمع من مراجعنا (حفظهم الله) إلى أنه لا خصوصية لرجل الدين في الحق الشرعي، إنما يمكن أن تُدعم به حركة محصلي العلم حتى في الفنون الحديثة. نعم، يقول بعضهم: إن القدر المتيقن والاطمئنان ربما لا يحصل له، والاستقرار النفسي ـ بطبيعة الحال ـ يتباين بين الناس بحسب المقدمات والمدركات وترتيب الآثار وتعدد القراءات، لكن جمعاً من علمائنا، من أهل الرأي والبصيرة يرون هذا الأمر، وهو متوافق مع منطق القرآن الكريم، وهدي السنة الشريفة الصادرة عن محمد وآل محمد (ع).

إن البناء الاجتماعي في عصر الإمام الحسن (ع) يتشكل من خلال رافدين:

فالرافد الأول يمثل القاعدة العامة والسواد الأعظم من النسيج الاجتماعي، وقوامه العرب بالدرجة الأولى، ثم الفرس ثم البربر (المغاربة).

أما العرب فهم أهل الديار، وأما الفرس فهم من دخلوا في الإسلام مبكراً قبل سائر الأمم، وأما المغاربة فهم من استُقطبوا، إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ. وكلنا يعلم أن العربي البدوي الذي يتقلب في صحراء لا تعرف إلا الحسك والسعدان، وما يتربى عليهما، إذا ما شخص أمام ناظريه صورٌ من الجمال المغاربي، فإن لعابه يسيل لذلك.

من هنا فقد انحدر البربر إلى قلب ومركز العاصمة للخلافة الإسلامية التي كانت في ذلك الوقت (سرّ من رأى).

وامتزجت هذه العناصر الثلاثة، فالعرب بشجاعتهم وكرامتهم، والفرس بفكرهم وفلسفتهم، ثم المغاربة بجمالهم، وليس وراء عبادان قرية. هذا هو الرافد الأول.

أما الرافد الثاني فهو العنصر الدخيل، وهو العنصر التركي والرومي، فهؤلاء دخلوا أيضاً في النسيج، لكن للأتراك خصالاً أخرى، وعلى رأسها أنهم لم يَعرفوا الوقوف عند حدِّ الأمانة قطّ، فكانوا يجسدون الغدر بامتياز:

يعطيك من طرف اللسان حلاوةً    ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ

ولا تُتعب نفسك بالعودة للتاريخ القديم، ودونك ما نحن فيه اليوم. فمنهم من يبكي على الحسين (ع) ويساهم في قتل أبنائه. ورحم الله أجدادنا في هذه الديار، كم عانوا من تلك الوجوه التي كأنها المجانّ المطرقة!

ولأن التركي لا يحترم الأمانة والوثاقة فقد تآمر على مركز الخلافة. ولا أدري إن كان هناك من سوف يرميني بهذا الكلام، بالدفاع عن الخلافة العباسية والعباسيين، لكن هذه هي قراءتي التاريخية للحدث، ومن أراد أن يتعرف (رأيي) في العباسيين فليأتني في محل آخر ليتعرف ذلك.

إنَّ استنتاجي للقضايا مبني على مقدمات تلقيناها وفق منهج دراسي يوصلنا إلى هذه النتائج. ثم إن هنالك تأريخاً افتراضياً، وقارئ التاريخ، إن لم يحرك التاريخ الافتراضي في ذهنه عند غربلة الحدث، فإنه يصبح صاحب قراءة ناقصة مجتزأة مبتورة، فلا بد إذن أن يجمع العناصر وينظر فيها.

فلو أردنا دراسة ما حصل بعد النبي (ص) فلا بد أن نجمع جميع العناصر، وحيثية الأشخاص، فهل من المعقول أن يكون ما جرى مع أمير المؤمنين (ع) قد صدر من أناس هادئين متعبّدين؟

فالأتراك تغلغلوا حتى استطاعوا في نهاية المطاف أن يجهزوا على الخلافة العباسية من الداخل، وهم الذين دفعوا بالمتوكل العباسي، ذلك الخليفة الأرعن، إلى الهاوية، فقتلوه حتى امتزج دمه ولحمه في كؤوس الخمرة فاحتسَوها. هؤلاء هم الأتراك، وهذه أمتنا العربية التي ترتمي اليوم في أحضانهم.

إن هذا المزيج ترتبت عليه أمور، منها: إقامة مناطق لحكم ذاتي على أطراف الدولة المركزية ومقر الخلافة، وأنتم تعلمون أن الحكم الذاتي بقدر ما له من الإيجابيات، بقدر ما يحمل من السلبيات، والأمثلة أمامنا اليوم، فعندما منح السودان لجنوبه حكماً ذاتياً، أدى ذلك إلى أكثر من عشرين سنة من الحرب الطاحنة والدماء المستنزفة، ثم كانت النهاية أن يرفرف علم الكيان الصهيوني في الأرض السودانية.

وما يجري اليوم في شمال العراق قريب من هذا المعنى أيضاً، ولو لم يكن المسؤولون هناك على قدر من الوعي، لكان الحكم الذاتي في شمال العراق أشبه بالخنجر في خاصرة الدولة المركزية، ولو أن الطرف المركزي لم يتعامل بالحيطة والحذر لكانت النتيجة كما هو الحال في السودان. ثم تنتقل العدوى من مكان إلى مكان آخر، وهكذا.

ولا بد هنا أن أشير إلى أن الدول الغربية بعد النزف الذي أرهقها في الحرب العالمية الثانية، لم تعد مستعدة أن تعطي دماءً، إنما رسمت قدراً للشعوب النامية من العالم الثالث أن تسقي شجرتها، فهؤلاء يثملون على دماء المسلمين.

إن تلك المراكز للحكم الذاتي على أطراف الدولة العباسية أنهكتها وأضعفتها، وهذا لا يعني أبداً أن الدولة العباسية راشدة، إلا أن هذه مجريات التاريخ كما هو.

وتبعاً لذلك فقد تشكلت حركات مناهضة للحكم المركزي، غير أنها لم تستطع تثبيت قواعد لحكم ذاتي. وهذه الحركات النهضوية في وجه الحكام المستبدين في الزمن السابق والحاضر حالة طبيعية، ولا ينبغي للحكام أن يتحسسوا كثيراً منها، فأنت ـ أيها الفرد من سائر الناس ـ إذا مارست في بيتك جانب العنف والقسوة والتحقير لأبنائك، فماذا ستكون النتيجة؟ إن كان الولد يرغب في ما يعينه على أسباب التقدم، فيقف الأب حاجزاً ومانعاً ومصادراً لأبسط حقوقه، فلا شك أنه سيخرج عن الطريق، وينفّس عن داخله بأكثر من طريق وطريق. وهكذا الحال في الحكومات، فإن كنتُ أعيش في وطن، وأجد أنني محروم من أبسط الحقوق، حتى من الاسم الشخصي، فلا شك أن الحال تذهب إلى الأسوأ.

إن تلك الحركات النهضوية في ذلك الزمن باتت تشغل الدولة المركزية وتُرهقها، لذلك بدأ المشروع الاقتصادي النهضوي في الدولة العباسية يتراجع بشكل خطر في أواخر أيامها.

هنالك حركات ربما تكون لها مبرراتها، ولكن هناك حركات أخرى انبثقت بسبب الانقسام على النفس. فمسيرة الخوارج مثلاً لا زالت متواصلة، منذ أن رفعوا راية التمرد على الإمام أمير المؤمنين (ع) بعد حادثة صفين، وإلى يومنا هذا، فمن يذبح أخاه الإنسان في وضح النهار، إنما يسير على نفس النهج الخارجي، ويتعاطى ذات الطريقة التي أصّل لها الخوارج.

فمن بشاعة المظاهر التي مارسها الخوارج قديماً، ويمارسها أباؤهم اليوم أيضاً بشكل أكثر حقارة، أنهم يأخذون الطفل من يد أمه، ثم يجعلون رأسه في حجرها، ثم يحزون وريده!.

كان لعبيد الله بن العباس صغيران، أخذهما بسر بن أرطاة، وقتلهما بين يدي أمهما([4]).

إننا اليوم بهذا المنهج التسويقي المنفر للقضايا العقدية، قد ننساق إلى مثل هذا الواقع. وقد رأيتم اليوم ما تحمل الرسائل التي نُشرت في (الوتسب)، هل هي فتوى من مرجع، أو إرشاد من قائد؟ لا، إنما هو نسب فلان بن فلان، انشره تؤجَرْ! أو أن من لعن فلاناً مئة مرة فله من الأجر كذا وكذا.

أقول: اتقوا الله في رقاب الناس. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) لولده محمد بن الحنفية: «تِدْ في الأرض قدمَك، ارمِ ببصرك أقصى القوم»([5]). فعلينا أن ننظر إلى القادم من الزمان والأجيال، وماذا يمكن أن نرسم لها من واقع؟

إن علماءنا يؤكدون في كل موقف أننا لسنا على هذه الشاكلة من اللعن، لكن هناك أصوات نشاز، وعلى الفضاء المفتوح، تسلك طريقاً آخر، ولا نرى من شاجب أو مستنكر. بل تصدر دعوة علنية من على منبر الحسين (ع) لمتابعة قناة (ياسر الحبيب)، فهل هذا في صالحنا، أو يقدمنا للأمام؟ وهل معنى كلامنا هذا أننا ننصر طرفاً على حساب آخر؟

إن هؤلاء الجماعة، لو لم تكن في لندن لما تكلمت بمثل هذا الكلام، وقد كانت خرساء قبل عشر سنوات. لماذا كانوا أيام صدام أذلّ من جُرذ يتحرك في العراق فيما يتحدثون اليوم بلسان طويل؟ إنكم تسبونهم في مكان بعيد، فيما يدفع  غيركم الثمن.

وبالعودة إلى الحركات النهضوية آنذاك، نلاحظ حركة الزنج والخوارج وحركة العلويين، إلا أن تحرك العلويين يختلف عن غيره في كل زمان ومكان، فهناك متابعة لهم في أموالهم وأولادهم وأعراضهم، وهو ما لم نجده في التعامل مع الخوارج مثلاً، فكانت الحرب بين الخوارج والدولة المركزية لا تتجاوز ساحات الحرب، أما العلويون فلا يسلم منهم أحد عند التحرك، لا من نسائهم ولا من ذراريهم. في حين أن القاعدة عند المسلمين في الحرب، أن لا تُجهزوا على جريح، فيما نراها عند أمته: لا تُبقوا على جريح ولا غيره.

ومن الأسباب التي أدت إلى الحراك ذلك اليوم، ما كان يحصل مع الرق، فقد كانت الرقّية آنذاك أبشع أنواع الظلم الذي يمارسه الإنسان ضد أخيه الإنسان. ولا يزال الرق إلى يومنا هذا، ولكن بصورة أخرى أبعد من فردٍ تشتريه، فنظام الرقية اليوم واسع ومتشعب، منها أن تأسرني في فكري وتوجهاتي، فهذه عبودية ورقّية، وما جعل الله لأحد يداً على آخر في ذلك.

أضف إلى تلك الحركات، أن أهل الذمة كان لهم في الدولة العباسية يد، وكانوا يتصرفون فيها حيث شاؤوا. فانتشرت دور العبادة، وإلى جانبها دور الفساد، التي أثرت في الوسط الاجتماعي. والمسلمون متذبذبون في دينهم مع الأسف، فهناك من يتمسك وهناك من يتخلف، ودونك بلدان المسلمين اليوم، في شرق الأرض وغربها.

وهناك أيضاً أبناء الأمة المغلوب على أمرها، وهي أمة مسحوقة منذ أن وقعت الصحيفة بقولهم: إنه يهجر، وإلى يومنا هذا، ولا يمحو تلك الكلمة وآثارها، ويستبدل بها كلمة الحق إلا الخلف الباقي من آل محمد (عج).

وهناك فئة أخرى، وهم رجال الدين الرسميون، الذين تشرِّقُ الفتوى عندهم وتغرب، لا على أساس الدليل من الكتاب والسنة، إنما بناء على الرغبة الرسمية. لذا تجد أن هناك حرصاً شديداً من مراجعنا (رحم الله من مضى منهم وأيد من بقي) على أن الحوزة العلمية يجب أن تبقى في منأى عن الدولة، حتى في إيران، فمع كون الحكم إسلامياً طبقاً لولاية الفقيه، إلا أن المراجع لا يرضون بالربط والدكّ بين الحوزة والدولة، رغم أن هناك دعوات كثيرة للمزج بين الحوزة والجامعة وما أشبه ذلك من الدعوات، كل ذلك ليتحرر الفقيه في مجال الفتوى، فلا تبقى للحاكم يدٌ عليه، إنما يراقب جهة واحدة وهي الله سبحانه وتعالى، أما المصالح والأهواء فلا.  

لقد كانت هناك حرية مطلقة في الدولة العباسية أيام الإمام العسكري (ع) لكنها في جانب الابتذال الأخلاقي بشكل أكبر وأوضح، وعلى هذا الأمر تترتب الكثير من المخاطر، مما يدعو الإمام (ع) إلى التصدي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى في وجه الخليفة نفسه.

وقد صاحب تلك الحرية توسع المساحة الفكرية بين عموم المسلمين، والسبب في ذلك أن الكثير من الفكر تم نقله إلى اللغة العربية منذ الزمن الأول من الخلافة العباسية، والإمام العسكري (ع) عاش في الفترة الثانية منها، حسب التقسيم التاريخي والقراءة الاجتماعية.

كما كانت هناك استجابة مباشرة من عموم المسلمين في طلب العلم، وهي حالة طبيعية في تلك الأجواء من الحرية، وهو ما نلاحظه اليوم في زماننا هذا، فلما كانت الأوضاع هنا غير مساعدة، وكان دخول الجماعة يخضع لضوابط لم ينزل بها الله من سلطان، ولم يرشد إليها قانون، إنما كانت تعسفاً من أفراد منفذين للقانون، كان الوضع مختلفاً كثيراً، حتى الاسم والانتماء كان يقف حائلاً دون الوصول للهدف الذي يريد المرء أن يبني حياته على أساسه. أما عند حصول فرجة من الانفتاح قبل سنوات، وقبول الطرف الآخر (إلى حدٍّ ما) تغيرت الأمور تبعاً لذلك، فصار أبناؤنا ينخرطون في الجامعات هنا وهناك، وذهب بعضهم إلى أوربا أو أمريكا.

من هنا فإن هذا الجيل القادم، المتنور بنور المعرفة، الملتزم بحمد الله تعالى، لا كما كان في أيام السبعينيات التي كنا نخشى فيها على دين من يُبعث إلى هناك، يبشر بخير، فشبابنا اليوم يقيمون من مجالس أهل البيت (ع) ما لا تحظى به مدينةٌ ما في دولة إسلامية، فبعض المجالس يصل العدد فيها إلى اثني عشر ألفاً، مع أن كل المغريات هناك أمام أعين الجميع، أليس هذا تديناً؟

أضف إلى ذلك فإن التعدد المذهبي في الحاضرة الإسلامية كان له دور كبير، وقد بلغ المذهب الإمامي في القسم الأول من الخلافة العباسية من القوة بحيث باتت المذاهب الشقيقة تخشى سيطرته، لذلك نجد أنه ما من مذهب في تلك الفترة إلا عاكسه في مساره، وهذه الظاهرة منذ القدم وليست في الوقت الحاضر فحسب.

كما أن السلطة في تلك الفترة كانت تتبنى العلوم والمعارف، كما حصل للمأمون مثلاً.

أما أهم المراكز المغذية لهذا الجانب فكانت تتمثل بالشرق الإسلامي، وهو ما دون البحر الأحمر، والغرب الإسلامي، وهو ما بعد البحر الأحمر، امتداداً إلى الأندلس. ففي الجانب الشرقي كان للسامانيين والغزنويين والبويهيين والحمدانيين قصب السبق في التقدم بالحراك الفكري في وسط الأمة. وكانت لهم روافدهم، وتمازجت العناصر بشكل وثيق جداً، واستُخلصت نظريات عديدة، وهذه آثارهم تدل عليهم.

أما الجهة الغربية فسيطرت عليها الدولة الفاطمية والمدرسة الطولانية والمدرسة الإخشيدية، وبين هذا المثلث الفكري من التنافر الشيء الكثير، والتنافر في المساحة الفكرية هو الذي يثري، وهو الذي يدفع بالحراك إلى الأمام، ولا تظنَّنَّ أن الهدوء والسكون في المجتمع حالة صحية دائماً، فربما كان عليلاً، ويحتاج إلى رجّه. مع أن في المرض صلاحاً للإنسان أيضاً، فقد يجعل الله المرض ابتلاءً واختباراً([6])، ولكي يُدرك المرء حجمه، فإن كان على حال واحدة من الصحة والغنى قد يصبح فرعوناً آخر، ويغتر بالدنيا كثيراً، وهو لا يعلم أن بعوضة صغيرة، بل ما هو أدق منها، مما لا يُرى إلا بعد التكبير آلاف المرات، يمكن أن يقلب كيانه بالكامل.

 

يقول الرسول الأعظم (ص): «يحمل هذا الدينَ في كل قَرنٍ عدولٌ ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريفَ الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد»([7]).

ووقف (ص) في مسجد الخيف في منى وخطب الناس فقال:«نضَّرَ اللهُ عبداً سمع‏ مقالتي‏ فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فربَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه...»([8]).  

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.