نص خطبة: مكونات المجتمع بين التأرجح والثبات

نص خطبة: مكونات المجتمع بين التأرجح والثبات

عدد الزوار: 2818

2015-06-05

أصحاب التأرجح في المجتمع:

في الروايات الشريفة عنهم (ع): رحم الله شيعتنا، إنهم أوذوا فينا ولم نؤذَ فيهم([2]). شيعتنا منا([3]).خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا، رضونا أئمة، ورضينا بهم شيعة، يصيبهم مصابنا، وتنكبهم أوصابنا، ويحزنهم حزننا، ونحن أيضاً نتألم لتألمهم، ونطلع على أحوالهم، فهم معنا لا يفارقوننا، ولا نفارقهم، لأن مرجع العبد إلى سيده، ومعوله على مولاه، فهم يهجرون من عادانا، ويجهرون بمدح من والانا([4]).

أصحاب التأرجح في المجتمع:

في الحديث عن المكون الاجتماعي الذي تطرقنا له قبل ما يربو على شهرين، أعود لأكمل الحديث عنه، حيث وقفنا عند التقسيم الثالث، وهو يعنينا في هذه الفترة بالذات.

فالمجتمع بين التأرجح والثبات، حالة تساير الإنسان عبر مسيرته، فالتأرجح له محطات واستراحات، ثم اندفاعات، لكنها غير محسوبة العواقب.

1 ـ أصحاب النعرات:

فالقسم الأول من أقسام التأرجح في بناء المجتمع وتشكله هم أصحاب النعرات، وهؤلاء بقدر ما هم في مساحة الهوج، بقدر ما يحدثون من إزعاج لمن يحاول أن يرتب بعض مكونات البيت الاجتماعي، وربما يتسع في دائرته لما يمثل بناء أمة، وكلٌّ بقدره، فالعظماء يعترض طريقهم من يعترضه، ثم الأدنى فالأدنى.

وهؤلاء الذين يحملون صفة (أصحاب النعرات) تندرج تحتهم عناوين كثيرة:

النعرة القبلية:  

فمنهم من تدفعه النعرة القبلية، فحيث توجه شيخ القبيلة اتجه الفرد باتجاهه، وإن لم يكن لشيخ القبيلة من الوعي والثقافة نصيب، بل وحتى التدين أحياناً. كما هو موجود في الكثير من نسيج المجتمعات.

والبعض يتصور أن النَّظم القبلي في الجزيرة العربية فقط، وهذه قراءة ناقصة، فجميع الشعوب تعيش نَظماً قبلياً، في القديم والحديث، اللهم إلا في المجتمعات المستحدثة المعبَّر عنها بالعالم الجديد، كما في أمريكا، التي نجد أن في قسمها الشمالي حضارة مادية صرفة، لا مدخلية للنظم القبلي في شأن من شؤونها. أما في أمريكا الجنوبية فللنظم القبلي وجوده، ولكن حالة النعرة فيما بين القبائل تختلف فيما بينها شدةً وضعفاً، فبقدر ما يكون شيخ القبيلة جاهلاً، غير واعٍ ومدرك لما يجري من حوله، بقدر ما ينعكس على أبنائها فيحملون صفة الرعونة، وعلى هذه فقس مال سواها. وبقدر ما يصحح شيخ القبيلة من وضعه الفكري والثقافي والعلمي والانفتاحي وغيره، فإنه ينعكس على أبناء القبيلة، فتخفّ الرعونة فيما بينهم.

لذلك عندما يريد أحدٌ أن يصاهر قبيلة فإنه يجد أمامه السؤال التالي: ما هي أهم صفات هذه القبيلة؟ والإمام علي (ع) يسوقنا بهذا الاتجاه، فيقول لعقيل: يا عقيل، انظر لي امرأة ولدتها الفحولةُ من العرب. أي ابحث لي عن قبيلة فيها صفة الكمال الإنساني، التي تتجسد في كيانها، وتمشي في عروقها، كي تنعكس على الوليد.

وقد يقول قائل: الإمام علي (ع) هو صاحب التكوين الأول في الكمال بعد الله تعالى، وهي النطفة، فما حاجته للظرف الذي يحويها؟ الجواب: إن الإمام (ع) يرشدنا إلى كون الظرف له تأثير كبير. فبعض أبناء الأئمة والأنبياء (ع) شذوا عن الطريق، قال تعالى في شأن ابن نوح: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ([5]). وحال يعقوب مع أبنائه لا يخفى على أحد، وعلى هذه فقس ما سواها.

النعرة المناطقية:

إن تلك القضية ربما تغيب في بعض المجتمعات قبلياً، لكنها تبرز تحت عنوان آخر، وهو (المناطقية)، لذا تجد أن هذا يشمخ بأنفه لأنه من المدينة الفلانية، بينما يرفع الآخر رأسه فيرى أنه أفضل، لأنه من أبناء المنطقة الأخرى. وهذا يتّكل على بعض المواصفات، وذك يتكل على مواصفات أخرى، ويغيب العقل عن التحكيم في المواقف، وتسوس العواطف المشهد، ويبدأ الصراع والجدل.

وأحياناً تجد الكثير من ذلك يبرز حتى في المواقف الحرجة والصعبة، أي أن فاغرة النفاق تجد لها موطئاً تبرز من خلاله وتتحرك، والشواهد على ذلك كثيرة.

2 ـ أصحاب القلوب الطيبة:

أو الجماعة المتصفة بما نسميه صفة (الطيبة) فهذه الجماعة طيبة مخلصة، ولكن يغيب عنها أمر واحد، ألا وهو الوعي والإدراك والشعور بالمسؤولية، فهم مؤمنون أتقياء يؤدون الواجبات ويبتعدون عن المحرمات، لكن الوعي لديهم قليل، لا يخرجون من دائرة (من تلتبس عليه اللوابس) فليسوا من صنف الكيِّس الفَطن، مع أنه في قمة العبادة والإيمان والاتصال والانصهار مع الله، لكنه يغيب في الميدان العملي، فلا يستطيع أن يلملم أو يرتب الأوراق جراء عدم مالكيته لقوة الإدراك والوعي الناضج والشعور بالمسؤولية.

3 ـ أصحاب المصالح:

أيها الأحبة: في الكثير من الحوادث ـ لا سيما المؤسفة منها ـ يغيب الشعور بالمسؤولية، ويسيطر على الأجواء (الأنا) أي في أيِّ موقع يعمل صاحب (الأنا)؟ وما هي المكاسب المترتبة عليه؟ فقد يكون المكتسب وجاهياً أو إعلامياً أو صدارةً أو تسيّداً لموقف، وليس بالضرورة أن يكون المكسب مادياً محسوساً ملموساً، فهنالك مكاسب لا تُشترى بالمال أصلاً، مهما دُفع فيها من المال. فتجد أن هنالك من يتحرك ضمن هذه المساحات الضيقة ويبرز.

إن عدم الشعور بالمسؤولية يجعل الإنسان يقدم أمراً على آخر، فيقدم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، فيصهر المجتمع في سبيل أن يبرز، ويستهلك جميع المكتسبات لأبناء المجتمع لصالح (الأنا) والذات المريضة ليكمل نقصاً. فكل من يبحث عن البروز والشخوص فإنه يعيش في داخله مرضاً نفسياً، لكنه غير ملتفت له، وهذا المرض النفسي يعيش معه في تفاصيل حياته كلها، في النوم واليقظة والذهاب والإياب، وفي جميع الأحوال والأماكن.

هؤلاء هم الذين يعزفون على الجراح، لأن مكاسبهم ومكوناتهم لا تحقق لهم رصيداً يوصلهم إلى منصات التتويج والتقدم كما ينبغي، لذلك يعزفون على جراح الآخرين، ويصادرون المكتسبات عند الآخر لصالحهم، بحركة أو حضور أو قول.

4 ـ الجماعة الغوغائية:

وهذه هي الجماعة الأخرى التي تعيش حالة التأرجح، وهم الذين وصفهم المولى علي (ع) بأنهم أتباع كل ناعق، فهؤلاء لا يستطيع أحد أن ينكر وجودهم تاريخياً، إنما كان لهم حضورهم عبر مسيرة التاريخ، ولهم توقفاتهم في جميع المحطات. ففي زمن الأنبياء (ع) كان للهمج الرعاع وجودهم، وكذلك في زمن الأئمة (ع) وبعد غياب المعصوم في الغيبة الكبرى بقي هؤلاء يتنقلون من موطن إلى موطن، ومن موقع إلى آخر. فهم غوغاء، يسمع أحدهم ربع الكلمة فيبني عليها كلمات، وكأنه مختص في عالم التصريف (الخاص) إذ يجد أن تصريف اللفظ في هذا الموطن تنحلُّ عنه تشقيقات كثيرة، فيندفع وراءها.

وهذه الطبقة هي التي تكون في الأعم الأغلب ضحية للآخر، إذ تساق من حيث لا تشعر، وتقاد كما يقاد الجمل المخشوش، لا تعي متى وأين تقاد، ليلاً أو نهاراً، فإن حضرت في المجالس حملت الرسالة عن الآخر، فلا تشعر أنها مستهلكة أو مجيّرة أو مستخدمة.

تجد أحدهم أول المسوّقين للفتنة أينما حصلت، وأينما حصلت إخفاقة تجده أول المكبّرين لها، وعلى هذه فقس ما سواها.

والغوغاء هم الذين قصموا ظهر علي (ع) وهم الذين غدروا بمسلم بن عقيل، يوم وصل عددهم إلى قرابة العشرين ألفاً بايعوا مسلم بن عقيل، ثم قتلوا الإمام الحسين (ع) في كربلاء. ودونك صفحات التاريخ لتجد أن الغوغاء، الهمج الرعاع، هم الأرضية الصالحة للغرس والقطف من قبل أناس نذروا أنفسهم للشيطان.

جماعة الثبات:

وهي الجماعة التي تعنينا في هذا الصدد، وهؤلاء على مرّ التاريخ قلة، قال تعالى: ﴿وَقَلِيْلٌ مَا هُمْ([6]). وقال عز من قائل: ﴿وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُوْرُ([7]). وقد وردت في هذا الشأن آيات وروايات، وقيلت أشعار وحكم، وكُتبت مقالات كثيرة، كلها تشير إلى أن أصحاب القيم والمبادئ الثابتين عليها قلة.

فنجد مثلاً أن نبياً من الأنبياء (ع) يخرج من الدنيا دون أن يستطيع إصلاح المحيط الذي هو فيه، لأن المحيط بالخصوصيات المتقدمة الذكر يتحرك في مقابل النبي (ص).

فالنبي الأعظم محمد (ص) بعد عقدين ونيف من الزمن يخرج من الدنيا، بعد جهود مضنية، وتضحيات كبرى، لكن أي مجتمع بقي بعد النبي (ص)؟ ودونك تاريخ علي (ع) اقرأه، ولا تقترب من مساحة الآخرين، في علمه وجهاده وتضحياته وغير ذلك، تجد ما يدلل على ما نقول.

وهنا لا بد من همسة مهمة ـ أيها الأحبة ـ أقول فيها: إذا أردنا أن نبحر بحقائق وكنوز هذا المذهب الطيب الطاهر، فعلينا أن نعتني برموزه، وأن نقدمهم للعالم كما هم، لا كما نريد أن نصطنعهم نحن، لأنهم صنائع الله، ومن كان صنيعة لله فهو في غنىً عن البشر وما يصنعون. فلنضع أيدينا على مواطن الكمال في ذواتهم ونقدمها للبشرية.

إن هذه الجماعة هي العمدة، وهم أصحاب الشوكة والصراط المستقيم، وهي الجماعة الواعية بخطورة المرحلة وصعوبتها. فقد كانوا يوماً ما في زمن، ثم تغير الزمن، وتبدلت الآليات وطرأت الطوارئ، لكنها بقيت واعية منتبهة، مع الإخلاص للمبدأ، فلا يكفي أن يكون الإنسان واعياً مدركاً، إنما لا بد أن يكون الحراك على أساس الإخلاص لله تعالى، المشرّع للمبادئ والقيم التي يحصل بها عصمة المجتمع ورشده.

العلماء المخلصون:

أيها الأحبة: لدينا جناحان لا بد أن يترك لهما الفضاء، بحيث من يريد أن يحدث تغييراً في بناء اجتماعي نحو الأفضل عليه أن يرفرف من خلالهما:

الجناح الأول: العلماء المخلِصون ـ وأؤكد على هذه الميزة ـ فلدينا مخلِص، ولدينا مخلَص، أما المخلَص فله مجال آخر، وليس محله هنا، فهو يخص الأنبياء والأئمة ومن هم قريبون من مساحتهم، أما المخلِصون فهم كثر.

وقد يسأل سائل فيقول: لماذا تقيدون لفظ العلماء بصفة الإخلاص؟ فهل هنالك علماء غير مخلصين وسط المجتمع؟

الجواب: نعم، بل ابتلي الأنبياء والرسل بالكثير من هؤلاء، كما في بلعم بن باعورا، الذي لم يكن نبياً، إنما كان عالماً في زمن نبي من أنبياء الله، لكن الله تعالى يصف أمثال هذا بقوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ([8]). والشواهد على ذلك كثيرة، سواء في زمن الأئمة (ع) أم غيرهم، بل لا تخلو سيرة إمام من عالم لا يتصف بالإخلاص، وإلا لما حدثت مجموعة الفرق التي تشكلت ثم اضمحلّت فيما بعد، وهي تحت عنوان (التشيع) من فطحية وناووسية وواقفية وغيرهم. فهؤلاء في الأعم الأغلب كانوا من العلماء الذين لا يحملون الإخلاص، وتحركوا في مجتمعات غوغائية، أتباع كل ناعق.

أما اليوم، فلا أريد أن أغادر دائرة التشيع في الإشارة إلى الأمثلة، فأقول: هل أن وضعنا مُرضٍ مُريح يُثلج الصدر؟ أو على العكس من ذلك؟

إننا نحارب النجاح، ونهدم الوحدة والالتحام، وعلى ذلك الكثير من الشواهد. فمن الأمور التي يندى لها الجبين، أن يرضى رجل الدين أن يجعل من نفسه مطية للآخر، يساق هنا وهناك، ويُستغل هنا وهناك، فهو عالم في الظاهر، وربما يوصف بأنه عالم كبير، إلا أنه لا يقود نفسه، إنما يحرَّك كما تُحرَّك بعض الأجهزة الآلية التي نستخدمها اليوم في منازلنا. فإذا كان العالم يقاد، فلا يمكن أن نضع مقدراتنا بين يديه أبداً، لأننا لا نضعها في اليد الأمينة المخلصة الصالحة، إنما نضعها في يد لا تعرف الأمانة.

إن مرحلتنا اليوم ليست كمرحلة الأمس، فلا بد من الانتباه والوقفة مع النفس، كي نصحح.

المثقف النوعي:

أما الجناح الثاني فهو المثقف النوعي، ونعني به المثقف الملتزم بثوابت الدين وضوابط المذهب، فمثل هذا يمكن أن نضع الأمانة في يده، ونحلّق به جناحاً آخر إلى جانب العلماء الذين يحملون صفة الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

فالمثقف جناح مهم وقوي، ولكن عليه أن يلتفت إلى واقعه جيداً، فقد تشاهد في بعض المجالس من يستعرض الكثير من الأسماء، من المفكرين الغربيين أو الشرقيين، ولكن عندما تدخل معه في أقل القليل، لا تجد وراء استحضار تلك الأسماء شيئاً، ومن هم هؤلاء؟ ولصالح من كانوا يعملون؟.

تصوروا أن الذين مُنحت لهم جائزة نوبل للسلام، كان أكثر من 75٪ منهم تم تمريرها لهم من خلال اللوبي الصهيوني!.

صحيح أن هناك من يحفظ أسماء المفكر الفلاني أو الفلاني، وربما يستعرض بعض أفكاره، لكنك عندما تذكر له الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) تجده يقول: دعنا من القديم، وتعال إلى الحديث، فقد تغير العالم اليوم.

فلو سلم هذان الجناحان، من علماء مخلصين، ومثقفين واعين، مع الثبات على المبادئ، لكان وضعنا أفضل.

متطلبات الواقع المعاصر:  

إن واقعنا المعاصر، من خلال دوّامة الأحداث المحلية والعالمية العاصفة بهذا الكوكب، يتطلب منا الكثير:

1 ـ الوعي التام بجميع الحيثيات: وإني أحسب أن الوعي النسبي غائب، ناهيك عن الوعي التام، بل إن الكثير لا يفقه ما له وما عليه، وذلك في المساحة العامة، ناهيك عن الدخول في خصائص الأمور.

2 ـ الانفتاح على جميع المسارات: فليس بإمكان أحدنا أن يعيش في عزلة، فإن كان لا يجلس مع من لا يقلد المرجع الذي يقلده، ولا يعيش مع من لا يوافقه في المذهب، ولا ينسجم مع من لا يسايره في ذوقه الفكري، فلا شك أنه يعيش في عزلة تامة.

فالمطلوب هو الانفتاح، والقوي هو من ينفتح على الآخر ويستطيع أن يستوعب، على العكس من ذلك عندما يكون الضعف والخوَر، حيث تحصل حالة الانطواء والضياع والشتات.

3 ـ الحذر التام والحيطة الواعية: وهنا لا بد من همسة أقول فيها: إن ثقتنا كانت وما زالت في الجهات المختصة، ولا نزايد عليها في شيء لأنها الأدرى، ولا تتحرك إلا وفق دراسة وتخطيط وبحث تام، ودعونا من المزايدات والغرور والفكر المنفلت والثورية الهوجاء، فالدول التي فقدت عنصر الأمان إنما فقدته بعد أن أطيح بالمؤسسة ذات الطابع السلطوي في حفظ الأمن. فلا بد من الالتفات لذلك جيداً.

هل رأيتم طبيباً جراحاً يترك نومه وراحته لينقذ روحاً ثم يكون سبباً في إتلافها؟ هذا لا يمكن. فها نحن نرى عيوناً ساهرة تبحث عن الأمن والراحة والاستقرار، فكيف يمكن أن نتهمها؟

من يقف وراء مثل هذه الأمور؟ ومن يشيع هذه القضايا في أوساطنا؟            

نعم، إنهم لا يتصفون بالعصمة، ولا يمكن أن نزكيهم في مورد العصمة، ولكن هذا هو جهدهم. فلا تتصور أن مسؤولاً في العالم يتمنى عدم الأمن والاستقرار في بلده، فهذا غير وارد أبداً.

فلا ينبغي أن ننساق وراء بعض الرسائل التي ترسل من هنا أو هناك، وهي رسائل آثمة. فمن يحاول أن يفلَّ عقد المجتمع الواحد فهو آثم، كائناً من كان. أما نحن فعلينا الكثير من المسؤوليات، فعندما يقع حادث هنا أو هناك، وربما يحمل القادم ما يحمل، فلا يعني أن الأمن مفقود، أو كما يحبّ البعض أن يقول ـ والعياذ بالله ـ إن الجهات لها يد في الموضوع.

إن علينا الكثير من المسؤوليات، ومنها أن خصائص المجتمع لا يعرفها إلا أبناؤه، فعندما يندسّ عنصر خبيث في جماعة، لمدة أسبوعين أو أكثر، ثم يفجر نفسه ويقتل الأبرياء، فهذه مسؤولية المجتمع وليس مسؤولية الشرطة فحسب. شرط أن لا يتعدى الأمر دائرة الانضباط والدقة، بأن نتصل بالسلطات لأدنى شك يحصل لدينا. ولكن مع ذلك لا بد من الحذر، والواجب الشرعي يقتضي تبليغ السلطات الرسمية عند الشك والريبة والتصرفات الغريبة.

ونحن لا نرغب أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه مساجدنا وحسينياتنا إلى ثكنات عسكرية لحفظ المصلين، ونريد أن تكون تلك الحالة من الطيبة والبساطة والإيمان والمحبة والوطنية هي سيدة الموقف، وهذه مسؤوليتنا نحن، ولا بد أن ننهض بها.

فالحذر والحيطة أمر مهم جداً وأساسي في هذا الظرف، فالمنافق قد يصل يوماً من الأيام أن يؤم الجماعة. فقد كان شبث بن ربعي مؤذناً للإمام علي (ع) ثم بنى مسجداً قبالة مسجد الإمام علي (ع) فهو منافق واضح، وقد آلت به الأمور أن يفعل ما يفعل في كربلاء.

وكذلك شمر بن ذي الجوشن، وله مسجد في الكوفة، وهو من المساجد التي يكره الصلاة فيها، وهو منافق أيضاً. ولا نريد أن نذهب بعيداً في ضرب الأمثلة وهي كثيرة.

ما هي أسباب الخلل:

1 ـ الإعراض عن أحكام الله: فاليوم نرى الكثير من المسامحة في التعاطي مع الأحكام، مع شديد الأسف.

2 ـ الجهل بحقائق الأحكام الشرعية.

3 ـ تعطيل الحدود: يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ([9])، فإن عُطلت ملفات القصاص والحدود، كانت النتيجة محسومة، وهي استشراء حالة الانتقام عند الطرف الآخر من الطرف الذي ينفذ بحقه حدّ القصاص.

4 ـ التبعية العمياء لحضارة اليوم.

كيف نصحح الأوضاع:

1 ـ العودة الحميدة إلى حاضرة الدين: وهي الرسالة النقية السمحة التي تحمل السلام والمحبة والأخوّة والتعاون والتضحية، رسالة النبي محمد (ص).

2 ـ الالتفاف حول علماء الأمة: (الأمناء على مصالحها).

3 ـ الحذر من حالة اليأس: فهناك من يصيبه اليأس والإحباط لأدنى سبب، وهذه الحالة ندد بها القرآن الكريم حيث قال: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُوْنَ([10]).

4 ـ رصد حركة الأعداء: أي أعداء الدين والوطن، وأعداء الإنسان بما هو إنسان.

5 ـ عدم إعطاء العدو أكثر من حجمه: فأهم الأسلحة التي يتحرك بها الدواعش اليوم تتلخص في أمرين: الإعلام والرعب، فهم يقتلون ويمثّلون، كما حصل في حرق الطيار الأردني مثلاً، ليوجدوا حالة من الرعب في النفوس.

أما الإعلام الكاذب فإنه يسبق الحدث، فيعلنه قبل حصوله، كما حدث في الموصل مثلاً، وهي ثالث أكبر مدينة في العراق، فقد دخلوا أطراف الموصل وأعلنوا في إعلامهم أن الموصل سقطت، فصدق الكثيرون هذه الأكذوبة وكان لها ما لها من فعل.

ولنا في التاريخ أمثلة وشواهد كثيرة على ذلك، فقد دخل بريد الأمويين إلى الكوفة أيام الإمام الحسن (ع) وكان قد عقد اثني عشر لواء لمناجزة معاوية وأهل الشام، أي اثني عشر ألف مقاتل، وفي تلك الأثناء وصلت الأخبار أن الجيش الأموي قد بلغ النخيلة، فصار أصحاب الألوية يتسللون ليلاً.

نسأل الله تعالى أن يدفع كل سوء عنا وعن جميع بلاد المسلمين، وأن يقطع أيدي أولئك الذين يحاولون أن يوجدوا إرباكاً في كل نسيج اجتماعي في أرض وطننا الحبيب، أو سائر الدول الإسلامية العزيزة علينا. وأن يحفظ هذا البلد بأهله، وأن يدفع السوء والبلاء عنهم. وأن يتغمد الشهداء بواسع رحمته، وأن يلهم أهلهم الصبر والسلوان، وأن يمنّ على الجرحى بالشفاء والعافية.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.