نص خطبة: لماذا نعيد دراسة التاريخ؟(1)
عن المفضل بن عمر، عن الإمام الصادق (ع) قال: «كأنّي أنظر إلى القائم (ع) على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمئة وثلاثة عشر، عدة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكام الله في أرضه على خلقه، حتى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهد معهود من رسول الله (ص) فيُجفِلون عنه إجفال الغنم البُكْم، فلا يبقى منهم إلا الوزير، وأحد عشر نقيباً، كما بقَوا مع موسى بن عمران (ع) فيجولون في الأرض فلا يجدون عنه مذهباً، فيرجعون إليه. فوالله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به»([2]).
حديثٌ يعبِّر عن رسالة لا تقل توجيهاً وحدة في نبرتها واستظهاراً لكوامن المكنون في صدور الناس عما جاء في سورة التوبة من القرآن الكريم.
دوافع دراسة التاريخ:
والسؤال الذي يتردد: لماذا ندرس التاريخ؟ ولماذا أصبحنا اليوم في مسيس الحاجة أن نعيد الدورة من جديد مع تاريخ سطرت وريقاته عبر قرون؟ فهنالك أقلام كلّت الأيادي التي تحملها، ومحابر جف الحبر فيها لما استنزف منها، لكن شيئاً ما يبقى على حاله، وهو أن ما كتب أُلبس ثوب القداسة.
وليس كل ما كتب يرقى إلى هذا المكتوب المقدس، وإلا لزمَنا أن نقف عند كل عبارة سُطّرت، وقضية دُونت، موقف القداسة المانع لنا من استنطاقها كنص.
والعوامل التي تدفعنا لإعادة قراءة التاريخ، والدراسة من جديد لمطوياته في أسفاره:
1 ـ توظيف التاريخ للغايات السامية فيما نعيشه وما نترقبه: فمن يتحرك دون أن يكون وراءه رافد قوي من تاريخ محكم تتعثر مسيرته، وإن بدا للوهلة أنه شكل رمزية معينة في موقع هنا أو هناك، حتى الأنبياء الذين تحدّروا عن تاريخ ثقيل محكم القواعد، بُسطت لهم الأمور إلى مديات بعيدة. وخير شاهد هو النبي المرسل لهذه الأمة، الذي كان وراءه تاريخ الأنبياء والرسل والأولياء والصلحاء، وهو تاريخ مشرق، تمثله أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة، ولا بد أن تكون السيرة منحلّةً من خلال هذا الطريق بما يؤمّن من الروافد للأمة التي تأتي متعقبةً لذلك التسطير التاريخي.
لذا نجد أن أكثر الصفحات التاريخية إشراقاً، هي تلك التي عاشت قرباً وحكايةً من محمد وآل محمد (ص).
2 ـ دفع الدخيل المشوَّه عن النص، والمشوِّه له: وكم في تاريخنا الإسلامي من الصفحات التي تحمل المشوَّه والدخيل والموضوع والمنحول والمقطوع والمرفوع والمرسل والضعيف، فهذه كلها نقاط يتولد من خلالها المولود المشوَّه، وبعد مرور الزمن يتحول إلى مشوِّه، وهذا ما نضع أيدينا عليه في أقرب نظرةٍ وأقصرها. إننا أمام تاريخ ملغَّم، فيه الكثير من النقاط السوداء التي خلفتها الأقلام والمحابر.
هذان الأمران فيهما ما يكفي لمن أراد أن يقترب من التاريخ، ويقلب أوراقه، ويضع العلامات على ما ينبغي أن يثبَّت وما لا ينبغي، خصوصاً فيما يتعلق بالأشخاص، فهنالك أشخاص ارتقي بهم من مواقع الهبوط والسقوط إلى مدارج العلا والرفعة، حال أنهم لا يمتلكون رصيداً يرتقي بهم، والعكس صحيح، فقد حصلت الكثير من المحاولات لإسقاط وإنزال أصحاب القمم العالية إلى الدرجات الدنيا من مقامات الهرم الذي يفترض أن يأخذ طابع الارتفاع، والتاريخ مليء بالأسماء، مُغرق بالنماذج.
دعائم التاريخ وأركانه:
فالتاريخ له أركانه، ومن أراد أن يلج فيه فعليه أن يتعرف تلك الأركان واحداً بعد الآخر، كي لا تختلط عليه الموارد وتلتبس المشارب. وتلك الأركان هي:
1 ـ النص التاريخي: سواء كان رواية دينية، أم رواية تاريخية قصصية، بعيداً عن معطى القداسة والتقديس. فبالنتيجة أن هذا النص هو عبارة عن روح متحركة خلفتها الأقلام عبر الأزمنة، لنا معها حالة من الأنس، وأحياناً من التسليم، ثم إضفاء القدسية التي ربما لم ينزل بها الله سبحانه وتعالى من سلطان، إلا أننا اعتدناها ومارسناها وتعاطيناها وألفناها وألفتنا، فأصبحت مقدسة.
وهذا ما نجده حتى في بعض الممارسات التي نقرأ فيها تمظهر الوجهة الدينية أو العبادية، ولكن عندما نخضعها لأدق آليات البحث والنقد، نجد أنها لا تصمد، إنما تتهاوى لأول وهلة، والشواهد على ذلك كثيرة.
2 ـ رجال النص: فما من نص تاريخي إلا ويسبقه رجاله، سواء ذُكرت تلك الأسماء أم أُسقطت وتم التحفظ عليها، فيما اصطلح عليه بالمسند والمرسل.
أما المسند فحالنا في التعاطي معه سهلة يسيرة، وما علينا إلا نعرض رجال السند على ميزان الجرح والتعديل وقواعد علم الرجال، ثم نستجلي واقعه، فإما أن يكون من أهل العدالة والثقة، أو أن يكون من أهل الوضع والمتاجرة، فهناك نعتمده، وهنا نرفع أيدينا عنه.
وأما القصص التي أُسقطت فيها أسماء الرواة، أو الروايات التي ربما نتعبد بالبعض منها، أو تتمركز حول قضية الغيبة وما يكتنفها أو يتفرع عنها من المسائل، فالتعامل معها أكثر تعقيداً. ولكن حتى هذه الحالة من الغياب أو التغييب لأسماء الرجال بمقدورنا أن نصل إليها بما تؤمِّنه لنا قواعد علم الرجال أيضاً، فنصل من خلالها إلى نتيجة.
إن السند تكفل به علم الرجال، والنص تكفل به علم الدراية، فليس من حق أيٍّ كان أن يعمد إلى قبول أو رد النص سواء كان عبادياً دينياً، أم تاريخياً، إلا بعد غربلة هذين البعدين: السند والدلالة.
وبظني أن جلسات الترويح عن النفس، لا تحقق لأصحاب دعاوى الرغبة الجادة في النقد ما يساعدهم على ذلك، ولا جلسات الإخوانيات، ولا الملتقيات في حقول العمل كالمدارس والمستشفيات ومواقع التجارة الحرة، إنما يحتاج الأمر إلى اختصاص.
وبعيداً عن المجاملة، ومع خالص احترامي لجميع الطبقات، فإنني أحترمها وأُجلُّها جميعاً، سواء كانوا من الطلبة الأكاديميين، أم من التجار، أم من الموظفين، أقول: إن للاختصاص أهله، فكما أن الطبيب يقضي الكثير من السنوات ليكون طبيباً مختصاً، وكما أن أصحاب الاختصاصات الأخرى يحتاجون إلى جهد طويل، فكذلك صاحب التخصص في الدراية ودراسة النصوص، وهو من أجهد نفسه في هذين العلمين.
ولا يكفي مجرد الالتحاق بالحوزة العلمية الاتصاف بهذه الصفة، فقد يُمضي الطالب في الحوزة العلمية عشر سنوات، أو عشرين، أو حتى ثلاثين، ثم لا يصل إلى تلك الغاية، ولا يكون رجالياً ناقداً، ولا درائياً فاحصاً، إنما يحتاج الأمر إلى آليات للوصول إلى هذا المستوى.
لذا نرى أن المختصين في هذا الباب، في أروقة الحوزة العلمية، يحسبون ويحصرون في دائرة محددة.
شروط البحث التاريخي:
إنني أدرك أن هناك من يجهل معنى علم الدراية، لكنه في الوقت نفسه يرفض الكثير من الروايات، أي أنه يستخدم هذا العلم في قبول ورفض الروايات دون أن يشعر. فهو يمارس العملية بناء على أنه من المختصين، وأنه من أمثال السيد الخوئي (رحمه الله تعالى) في رجاله، والسيد الزنجاني (رحمه الله) في رجاله، والتستري (رحمه الله تعالى) في رجاله، والسبحاني وغيرهم.
فليس من قرأ كتاباً بلغ الهدف، وأصبح متخصصاً، صحيح أنه يضيف الكثير من المعلومات، ولكن ليس هذه هي النهاية، وينبغي أن يكون المرء صريحاً مع نفسه، وأن لا يتجاوز الحدود.
فمن شروط البحوث، لا سيما التاريخية منها:
1 ـ رفع يد القداسة عن رجالات النص: فعلى الباحث أن لا يتمسك بما يوصف به أي راوٍ في سند الحديث من القداسة، إنما ينبغي أن نفصل هذه الصفة عمن وصف بها، ونضعها جانباً، ثم نتعامل مع الراوي بما هو راوٍ. فنعمد إلى المصادر الرجالية، لنستكشف حاله مما قيل فيه، وسوف نجد التوافق فيما بينها، أو التعارض، وهذه حرفة المتخصص الذي يجمع ويطرح، وينتهي إلى نتيجة. فربما يكون الرجل ثقة معتمداً عند آية العظمى المرجع السيد الخوئي (رحمه الله) إلا أنه ليس كذلك عند سيدنا الإمام (رحمه الله) لأن الطريق الذي سلكه ذلك الفقيه، يختلف عما سلكه الفقيه الآخر. فكون السيد الخوئي يصرح بوثاقته لا يعطيه القداسة، وكون السيد الإمام لا يوثقه لا يخرجه من دائرة البحث، ولكلٍّ رأيه، وعلى الباحث أن يخرج من دائرة التقديس المسبق، وأن يتعامل مع الرجال بما هم رجال.
وبالتالي فإننا إذا أزحنا حالة التقديس من رجال الأسانيد في تاريخنا، فإننا سوف نخلص إلى نتائج طيبة، لأن الطرق ملغمة، والتوثيقات في كثير من الأحيان مربكة.
وهنالك كتاب لآية الله العظمى آصف محسني، أحد نقاد الرجال الكبار في هذا الزمن، وهو صاحب كتاب مشرعة البحار، ومن تلامذة السيد الخوئي (رحمه الله)، وهو فلتة من فلتات الزمن في غربلة الأسانية، وكتابه بعنوان: الفوائد الرجالية، تجد فيه أنك عندما تقترب من آليات البحث عنده، وتحاول أن تقترب من مجموعة من الأسانيد، تكون محرجاً أمام تقديسات وتسليمات هي في السعة أبعد مما نتصور ويخطر على البال.
ومن المهم أيضاً أن نحافظ على احترام تلك الذوات، على أن لا نرتقي بها إلى مقام القداسة.
2 ـ تقدير معالم القوة في مسارات الرجال، في عالم الرصد التاريخي: كي نبتعد عما طبعت عليه بعض الشخصيات من العنونة المكتسبة. كما في التتلمذ على يد الكبار، إذ يُسأل أحياناً عن حال الشخص فيقال: إنه درس عند أستاذه فلان. في حين أن حضور الدرس عند فلان أو فلان من الأساطين لا يكفي، فهناك من يحضر الدرس لقتل الوقت، أو للأنس، بسبب اعتياده على مجلس الدرس، أو العلاقة الطيبة مع أستاذه، فلا يستطيع أن يفارقه.
وقد يكون العنوان أحياناً لمؤسسة معينة، فلأن فلاناً من الناس ينتمي إلى المؤسسة الفلانية أو الحزب الفلاني أو الجهة الفلانية، يكون ذا قيمة معينة، وإلا فإنه لا رصيد له ولا قيمة ولا حظ.
وهذا يذكرني بأحوال السلاطين في إيران سابقاً، أيام القاجاريين والصفويين وأمثالهم، فقد تقرر ذات مرة أن يكون أحد الأشخاص سلطاناً، ولم يكن ذا رصيد يؤهله للسلطنة، حتى في الشكل والهيئة، إذ كان نحيفاً غير ممتلئ الصدر، فعملوا له مدرعة وضعوها على صدره، ليبدو ممتلئاً، لا سيما أنه سوف يصعد فوق العرش والناس من تحته.
إن هذا الإكساب لحالة التميز نمارسه باستمرار من حيث نشعر أو لا نشعر، وهو أمر لا علاقة له بالموضوع.
3 ـ الابتعاد بالرجال حال دراسة النص عن حدود النص: فأحياناً يَمنح النصُّ راويه قيمة، حال أن النص بما هو نص، سواء وصل عن هذا الطريق أم الطريق الآخر فهو نص كسائر النصوص.
فمثلاً، الزيارة الجامعة، المروية عن الإمام الهادي (ع) ذلك النص العظيم المقدس الذي يبين أدق التفاصيل العقدية في مدرسة أهل البيت (ع) . فهذا النص سواء رواه زيد أم عمرو، فإنه يبقى النص الرفيع الذي يملي على الباحث أنه لا يمكن أن يصدر إلا من مظانّه، ومظانه حصراً على محمد وآل محمد (ص). ولكن ليست جميع النصوص بهذه المثابة.
فالنص أحياناً يعطي مدلولاً ناقصاً، فإن كان كذلك فإنه ينهض به عاملان: عامل الزمان، وعامل المكان، وما لهما من أثر.
وأفضل من تعاطى هذين العنصرين في بناء الحكم الشرعي، هو السيد الإمام (قدس سره) وممارساته في كتبه واضحة جداً، ودونك المكاسب والبيع والخلل في الصلاة. فهذه الكتب الثلاثة تنطق بصراحة أن هذين البعدين لهما الأثر الكبير، لا سيما في المكاسب، وعلى وجه الخصوص في بحث الولاية.
4 ـ نقد القراءات والدراسات القائمة على أساس التبجيل: فمشكلتنا نحن المسلمين أننا نقدس الدراسات التي توصلت إليها أقلام الأساطين من العلماء، ومن تجرأ على ذلك فكأنه زلزل أركان العرش، في حين أن العالم صاحب الشأن لم يصل إلى تلك المرحلة التي هو فيها إلا بعد أن هدّم مباني الأساتذة الذين تربى على أيديهم. وهذه هي حوزتنا ومناخنا السليم المبني على النقد، لا على التقديس. وهناك الكثير من عبارات النقد اللاذعة في بحوثهم، التي توجه إلى الكبار والأفذاذ من العلماء.
فنقد الدراسات والقراءات القائمة على مسار التبجيل على حساب المصلحة الأصيلة لأمهات القضايا صار ديدناً للبعض.
شهادة الإمام الجواد:
لا شك أن حياة الإمام الجواد (ع) تحتاج إلى مؤتمرات عالمية لتغطيتها، لأنها حياة ثرية، ونحن ـ مع شديد الأسف ـ لم نتمكن إلى يومنا هذا من إقامة مؤتمر عالمي نقدم من خلاله أئمة أهل البيت (ع) في الوقت الذي أقمنا مؤتمرات في موضوعات وعناوين في قضايا لا تساوي شسع نعل إمام من أئمتنا.
إن شهادة هذا الإمام المظلوم شبيهة بشهادة الإمام الحسين (ع) حيث بقي ثلاثة أيام في الدار، إذ أغلقتها عليه زوجته، بعد دس السم له! وجاد بنفسه حتى صعد إلى سطح الدار، وقضى نحبه فوقها، وقد اهتدى إليه الناس بعد أن رأوا الطيور محلقة هابطة فوق سطح الدار، تظلله عن حرارة الشمس.
في الخميس القادم تحل علينا ذكرى شهادته الأليمة، وهو قدوة الشباب، وسلوة من فقد شباباً، فهو تحت الثلاثين من عمره، ومعجزة المعاجز في علمه، وقد تمت تصفيته بهذه الطريقة.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.