نص خطبة : في رحاب الزهراء عليها السلام
في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (ص): «أكثروا الصلاة عليَّ، فإن الصلاة عليّ نورٌ في القبر، ونور على الصراط، ونور في الجنة»([2]).
ثمرة الفردوس:
بارك الله لنا ولكم ذكرى ميلاد سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، السيدة الحوراء، المعصومة الكبرى، الفيض المطلق، فاطمة بنت النبي محمد (ص).
فتشت عن مدخل لساحة الزهراء (ع) فوجدت ضالتي لحديث مسند لأم المؤمنين عائشة، التي لها ما لها من الحظوة والمكان والمقام، فهي زوج الرسول (ص) والمرأة التي رسمت لنفسها مسيراً ومنهاجاً افترقت من خلاله عما هو العام والمناخ من حولها، لذا شغلت الدنيا منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، وحتى الآتي من الأيام، ولا زالت بصمتها في الكثير من المسارات واضحة. والأمر الواضح من المعيب أن يوضحه من يتحدث فيه، ومن يتلقف الهفوات والسقطات هنا أو هناك، عليه أن يراجع الحسابات بدقة وتمعُّن.
والحديث يرويه طاوس اليماني، وهو رجل له مكانته لدى قومه وأتباعه، وله بصمته في مسار السير والسلوك في المدارس من حولنا. يرويه عن ابن عباس، حبر الأمة، وهو رجل كبير جداً لدى قومٍ، وعليه ملاحظات تفرض نفسها على مسيرة حياته لدى قوم آخرين. وأظن أن الأمور هنا واضحة بينه، لا نحتاج فيها أن نذهب يميناً أو شمالاً.
قال ابن عباس: دخلت عائشة أم المؤمنين على رسول الله محمد (ص) وهو يقبّل فاطمة (ع)، فقالت له: أتحبها يا رسول الله؟ قال (ص): أما والله لو علمتِ حبي لها لازددتِ لها حباً.
إن الحب عبارة عن قوة، فلو أحببت أحداً بمقدار، يمكن أن يزداد الحب بقدر ما يستحق من ذلك الحب، ومن عوامل زيادة الحب، حسن عمله، فكلما حسنت أعماله ازداد الحب. وخير من يطيّب الحب ويزيده، فاطمة بنت محمد (ص).
ثم راح النبي (ص) يبين لعائشة الحال، ابتداء من عوالم السماء والغيب، إلى عوالم الأرض والشهود، كي يثبت لها ويبرهن على ما قال. فهناك من يُطلب منه أن يحب فلاناً فيحبه، فلا يحتاج إلى علة تبينها له. وهناك من يبحث عن العلة.
لقد راح النبي (ص) يفصل لها الحديث فيقول: إنه لما عرج بي إلى السماء الرابعة([3]) أذّن جبرئيل وأقام ميكائيل، ثم قيل لي: ادنُ يا محمد، فقلت: أتقدم وأنت بحضرتي يا جبرئيل؟ قال: نعم، إن الله عزّ وجل فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلك أنت خاصة. فدنوت فصليت بأهل السماء الرابعة، ثم التفتُّ عن يميني، فإذا أنا بإبراهيم (ع) في روضة من رياض الجنة، وقد اكتنفها جماعة من الملائكة، ثم إني صرت إلى السماء الخامسة، ومنها إلى السادسة، فنوديت: يا محمد نعم الأب أبوك إبراهيم ونعم الأخ أخوك علي. فلما صرت إلى الحجب أخذ جبرئيل (ع) بيدي فأدخلني الجنة، فإذا أنا بشجرة من نور، في أصلها ملكان يطويان الحلل والحلي، فقلت: حبيبي جبرئيل، لمن هذه الشجرة ؟ فقال: هذه لأخيك علي بن أبي طالب، وهذان الملكان يطويان له الحلي والحلل إلى يوم القيامة. ثم تقدمتُ أمامي، فإذا أنا برطب ألين من الزبد، وأطيب رائحة من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها، فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فإذا اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة (ع)»([4]).
هذا أقل القليل بحق الزهراء (ع) وبقدر ما حباها الله سبحانه وتعالى من النعم فقد ابتلاها.
المقام لسامي لأهل البيت (ع):
قد يقول البعض: هذا غلو. فنسأله: ماذا قلنا من الكلام في حقهم بما يتناسب وقدرهم، لنكون من الغلاة؟ ناهيك عن أن نزيد عن حقهم، فنحن لم نعرّف المعصومين بما يتناسب وحقهم، وذلك لسببين:
1 ـ أن الألفاظ غير قادرة على إيصال المعاني المنسجمة مع ذوات آل محمد (ص).
2 ـ إننا أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم.
ففي الزمن السابق كنا نُرمى بالغلو من الطرف الآخر، أما اليوم فأصبحنا نُرمى به من داخلنا، وممن يدّعون العلم والمعرفة والثقافة والاطلاع والتحرر والتنوّر وغيرها من العناوين والقوالب. وكلها لا تؤمّن أرضية طيبة مع ما يُعتقد في محمد وآل محمد (ص) عند أتباعهم.
دعهم يقولون إنه غلو، وليقولوا ما شاؤوا، فالمهم في الأمر أننا لا نعتدي على غيرنا، وأن نكون منضبطين، ولنقل في أهل البيت (ع) ما شئنا، إلا النبوة والربوبية. فعن الإمام الصادق (ع) قال: «لا ترفعوا البناء فوق طاقته فَيَهْدِم، اجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم، إلا النبوة»([5]). فنحن لا نعتقد فيهم أنهم آلهة من دون الله تعالى، بل نكفِّر من يعتقد فيهم ذلك المقام، أما ما دون ذلك فهو مقامهم، الذي لا تستطيع عقول البشر أن تدرك أقل القليل من معانيه، ولو اجتمعت. فمقامهم عظيم جداً.
فالإمام الشافعي مثلاً، عَلَمٌ كبير في اللغة والأدب والفقه، وأحد مؤسسي مدرسة الأصول التي تركت أثرها في جميع المدارس من حولها، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن للرجل حظوة من العلم. ولا بد أن نثبت ما ثبت لأيٍّ كان من فضيلة، إذا كان ثبوتها بطرق وأساليب علمية معتبرة، أما إذا كانت مبتدَعة أو مختزلة أو مضافة فلا بد أن نضع إزاءها علامة استفهام.
ثم لا يمنع أن يكون أيٌّ كان، عالماً نحريراً، وهو على غير الطريق الصحيح، أو يكون أديباً متضلعاً، وهو ليس على المسار، أو يكون مؤرخاً متقدماً، وهو لا ينسجم مع حقيقة الأمر، فهذا كله أمر ممكن. ولكن لا يمنع في الوقت نفسه، وإن كان لا يتفق معنا في مشرب مذهبي واحد أن نقول: إنه لا يملك شيئاً.
فالإمام الشافعي لديه ديوان من الشعر. والملاحظ أن رداء العصبية عند هذا الرجل لم يكن على كتفيه بنسبة ما، لذا أبحر في عظمة أهل البيت (ع) ولا زالت بعض الدراسات إلى اليوم تتهم الشافعي بالتشيع لأهل البيت (ع) بل حدثت بين أتباعه وأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى بعض الصدامات والمنازعات. وبصمته في أهل مصر واضحة، وإن لم يكونوا على مذهب أهل البيت (ص) إلا أنهم في محبتهم لأهل البيت يتقدمون على الكثير من أبناء المذاهب الأخرى، باستثناء مذهب أهل البيت (ع). وهذا ما يتضح بجلاء في أشعارهم وخلواتهم وجلواتهم وكتبهم ومؤلفاتهم.
فالشافعي مدح الإمام علياً (ع) في أكثر من موطن وموطن، وأشار إلى كلامه واستعرضه واستدل به، ومما قاله في ذلك، وهو متمسك بما هو عليه من فكر، إلا أنه يعرب عن المحبة في داخله، يقول:
يا راكباً قف بالمحصب من منىً واهتف بساكن خيفها والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حبُّ آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
وبناء على ما قرأنا من الرواية التي وردت عن عائشة عن النبي (ع) مباشرة بلا واسطة، في حق الزهراء (ع) التي تختلف في تكوينها عن تكوين سائر البشر، فإنها تكونت من نطفة أصلها من رطب الجنة، لها طعم ولون ورائحة خاصة، بل مكوناتها كلها خاصة. فالمسك والعسل وما شابهها من الألفاظ إنما هي ألفاظ نأنس بمعانيها نحن، وإلا فإنها شفرات خاصة، لا نقرأ ما هي منطوية عليه، لأن العلم الذي بين أيدينا لا زال محدوداً.
والسر في محدودية العلوم لدينا أن الإمام علياً (ع) أغلق بابه، وهو باب مدينة العلم الكبير الواسع، ثم دخل الأئمة (ع) من بعده واحداً تلو الآخر في زحمة الموقف وصعوبته وخطورته، مع الخلفاء الذين كانوا على سدّة القيادة. وهنالك مفتاح واحد لتلك المدينة التي أُغلقت بسوء تقدير المسلمين، وهو مفتاح واحد حصريٌّ، غير قابل للتعدد والنسخ، ألا وهو السر المستتر في الخلف الباقي من آل محمد (ص).
فالزهراء (ع) من أصل تكوينها كانت لها خصوصيتها، فظرفها معصوم، وتعليمها وتربيتها معصومة، وزوجها معصوم، وأبناؤها معصومون، تلك إذن عصمةٌ كاملة، ولكن انظروا لنا نحن ماذا نسوق للزهراء (ع) في وسط الأمة والعالم من حولنا. فمجالسنا كثيرة جداً، ومن يرتقي المنابر كذلك، وكذا الفضائيات والمواقع وبرامج الاتصال والمجالس الخاصة والعامة، ولكن ما الذي قدمنا ونقدم من مشروع الزهراء (ع) للأمة؟
قدوة المرأة المعاصرة:
إن الخلل الموجود في بعض المجتمعات، في سلوك المرأة، منشؤه غياب منهج الزهراء (ع) في حظيرة المرأة في وسط الأمة. فما الذي قدمْنا؟ وما الذي عرّفنا من جوانب عظمتها؟
نحضر أحياناً في بعض المجالس والمنتديات، فنجد حالنا أننا ما علينا إلا أن نبكي على أنفسنا قبل أن نبكي على الواقع من حولنا، ولا أدري إلى متى نبقى نتعامل مع عقول الناس بهذه الحالة من السطحية والتغييب والمصادرة، فالناس تقدمت بهم العجلة العلمية والفكرية والثقافية، ونحنُ نأبى إلا أن نبقى في مواقعنا، لا نتحرك قيد أنملة، ولا نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل على العكس من ذلك، هنالكم طابور متاجر بقضايا أهل البيت (ع) بات يتحرك في أوساطنا، من أجل حفظ لقمة العيش.
فلهؤلاء نقول: انفتحوا على أهل البيت (ع) في فكرهم وعطائهم ونهجهم وجهادهم، لتفتح السماء أبواب الرزق عليكم من حيث تعلمون أو لا تعلمون؛ لأن المنعم كريم. احملوا المسؤولية على ظهوركم، وبينوا حقائق الأمور، فلا يضركم إن كان صوت نشاز هنا، أو معارضة هناك، أو موقف في الوسط. لنتعامل مع وجه المطلق، ليكفينا سائر الوجوه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِيْ الأَرْضِ﴾([6])، فلا يمكث في الأرض إلا الحقيقة، وليس هناك من حقيقة مطلقة إلا ما يعنيه فكر محمد وآل محمد الأطهار (ع).
حقيقة الزهد:
هنالك مفهوم مقدس تحرك في أرجاء بيت العصمة، ألا وهو مفهوم الزهد. وهو رداء جميل، ونوع من أنواع الرقيِّ الروحي، لذلك فإنَّ الزاهد هو الزاهد، لا فرق أن يكون حاكماً تُجبى له الأموال من شرق الأرض وغربها، أو يكون فقيراً معدماً، لا يملك قوت سنته، أو مسكيناً لا يملك قوت يومه، فالملاك في الزهد أن لا تملكك الدنيا، وليس أن لا تملك الدنيا، فقد يكون المرء مالكاً للدنيا، لكنه زاهد فيها، لأنه يطلب ساحة اللطف، ويعيشها واقعاً مطابقاً بين القول والفعل. أما المشاكلة والدروشة واللباس والمظهر فلا يحكي واقع الزهد.
من هنا تجد أن الخطيب المنبري إذا كان يقرأ مفهوم الزهد بهذه القراءة فإنه يقدم الزهراء (ع) مثلاً، أنها المرأة المغبرة الثياب، الممزقة الرداء، المرقعة العباءة، بل يقدمونها لنا بأنها إذا وضعت رداءها على رأسها بدا قدماها، والعكس بالعكس، فكيف يتناسب هذا مع من هي أصل التشريع، واللسان الذي يفرغ عنه، وهي واقع العصمة.
وقد يقول البعض: إن الزهراء (ع) لم ترَ أحداً ولم يرها أحدٌ إلا في يوم المأساة، وهذا غير صحيح، فهنالكم روايات كثيرة، في أسانيدها رجال سمعوا من الزهراء (ع) ومعنى ذلك أن قراءتنا الخاطئة لواقع المجتمع العربي والإسلامي زمن الرسول (ص) يدخلنا في هذه المداخل الضيقة القراءة، الركيكة البحث، فنقدم الزهراء (ع) بهذه الكيفية.
أما حقيقة الزهد، فلا يقدمها لنا إلا النبي (ص) أو الإمام علي (ع) الذي هو منه كنفسه. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: ﴿لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوْا بِمَا آتَاكُمْ﴾([7])، ومن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزهد بطرفيه»([8]).
أما أن يشغل المرءُ بالَه بفلان الذي أنعم الله عليه بالعلم والمعرفة والأدب والأخلاق والمحبة في قلوب الناس وما إلى ذلك، بأنه الله أعطاه ولم يعطِ فلاناً، فهذا ما يربك الحياة والنفس.
فهذه نمرقة من الناس، ابتلي بها الكثيرون، ومنهم أهل البيت (ع) ولولا ابتلاؤهم بأمثال هؤلاء لما حصل ما حصل، فلو كانوا يعيشون الزهد عيشاً واقعياً كما شخصه مولى المتقين، لرأوا أن هذا من شأن الله تعالى، الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويفيض على من يشاء ويكرمه ويقدمه، ولا بد من التسليم. فالاعتراض عندئذٍ على الله تعالى، لا على محمد وآل محمد (ص).
ومن هنا دُفعت الضريبة من بيت فاطمة (ع) ومن جسمها وروحها الطاهرة.
فالزهد الحقيقي هو ما يعرضه الإمام أمير المؤمنين (ع) في كلامه الماضي. لذا تجد أن الإمام علياً (ع) وأهل بيت النبوة (ع) لما يصلون للمسكين واليتيم، يتعاملون معه من منطلق من يملك الدنيا، لا من تملكه الدنيا. فقد كانوا يملكون الدنيا على نحو الحقيقة، وإن حيزت عنهم ومنعت.
وهناك من ينعم الله تعالى عليه بنعمة، إلا أنها لا تظهر عليه، حتى في الأماكن التي أمر الله سبحانه وتعالى فيها أن تظهر عليه، كما في المسجد: ﴿خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾([9]). لكنك لا تجد أثراً لذلك على بعض أصحاب النعمة، لا في المساجد ولا في المجالس، بل تراه كأنه يعيش على الآخرين. والأكثر من ذلك النظافة لا سيما في بيت الله الحرام ومساجد الله. فلا بد من النظافة والترتيب والتزين، بما يليق وعظمة المكان، فأنت وافد على الله، وإلى جانبك عدد غفير من المؤمنين، فإن لم تكن أكثر نظافة منهم وأطيب رائحة فلا أقل أن تكون مثلهم.
في مضمون بعض الروايات الواردة في شأن آية الزينة الشريفة أن النبي (ص) كان يترك رغيف ليلة في سبيل تهيئة عطره.
ومن الأمور المستكرهة أن البعض؛ لأنه مريض مثلاً، تجد يأكل الثوم أو البصل، ثم يأتي إلى المسجد، وهذا وإن لم نجده بينكم، إلا أنه موجود في بعض المساجد وحتى المشاهد الشريفة، ومنها المسجد النبوي، وبيت الله الحرام.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.