نص خطبة: رجال الدين والبحث الخارج بين الواقع والخيال

نص خطبة: رجال الدين والبحث الخارج بين الواقع والخيال

عدد الزوار: 845

2012-03-08

 

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم ([3])  وغيرهم.

في زمن الانتظار تكون الفتن كقطع الليل المظلم، لا يستطيع الإنسان أن يتخطاها إلا من خلال عقل راشد، والعقول مهما تكاملت تبقى في حدودٍ معينة حتى يأذن الله سبحانه وتعالى لولي الأمر، فيمسح على رؤوس أيتام آل محمد، فترشد عقولهم.

كلنا في زمن الغيبة نبحث عمّا يؤمّن شرف التطلع والنظر إلى وجه الخلف، لكن كل ذلك مرهون بما روي من حديث عنهم عليهم السلام، من المساحة الفاعلة في أوساطنا، وهو قولهم: أعينونا بورع واجتهاد، وعفة وسداد ([4]) . فقبل أن نبحث ونسأل: لماذا، وكيف، ومتى، وإلى متى؟ علينا أن نسأل أنفسنا: ما الذي قمنا به، في مساحتنا الأسرية، أو في مساحتنا الاجتماعية عموماً، أو الفكرية والدينية ؟ وكم هي المساحة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى فيما افترضه علينا ؟ وكم بيننا وبين أهل البيت (ع) من المساحات والمسافات التي يفترض أن نلتقي عليها ولها فاعلية ؟ وكم هي العلقة والارتباط والامتثال بيننا وبين العلماء الأمناء على الأمة (في أنفسهم ودمائهم وأعراضهم، ووجودهم بالمعنى الأعم) ؟

ثم نسأل أيضاً: كم هي المسافات التي نلتقي عليها فيما بيننا، والمسافات التي لا تحظى بنصيب من الالتقاء إلا بنسب قليلة، وربما تصل إلى العدم؟

وقفة مع الحوزة العلمية في قم:

الحوزة العلمية في قم واحدة من اللبنات الثابتة التي يمكن أن يبنى عليها الكثير من البناء، لأن العقلية التي أسستْ وسيرتْ، بلغت من الرشد مقاماً عالياً، فالإمام الكبير الشيخ عبد الكريم الحائري قدس سره الشريف (المؤسس الأول) كان مظهراً لهذه الحالة من الرشد والوعي والإدراك والإحاطة بكل الأمور والمشاريع والمصاديق الخارجية، فإذا ما أردنا أن نقرأ فيها نجاحاً فعلينا أن نبحث عن الأساس.

إن البناء الشاهق لا يستقر ولا يصمد إلإ بناءً على قواعد محكمة تم تأسيسها، وإلا فلا يمكن أن تصل العمارة إلى ما يصدق عليه عنوان (ناطحة السحاب) مثلاً، كذلك الحال بالنسبة للإنسان، فإنه إن لم تكن قواعده محكمة، من حيث التربية في البيت، والتعليم في المدرسة، والمواهب المصقولة في المجتمع، والرعاية من قبل النظام، فإنه يبقى يتهجى مفردات الحياة، فما يكاد يغادر واحدة منها إلا ويقع في الأسوأ منها. لذلك عليه أن يشدد العلقة بين هذه العناصر الأربعة تفاعلاً، كي يستطيع أن يقف على قدميه، ويرفع رأسه عالياً، ويرمي ببصره أقصى ما يمكن أن يصل إليه البصر.

وفي حديثنا عن الحوزة العلمية في قم، قلنا: إن المدرسة الفيضية كانت تمثل الموقع الثالث، فهذه المدرسة الشريفة العظيمة كانت جديرة بإنتاج الرؤوس الكبيرة جداً.

وقد ذكرنا أن الطالب الحوزوي يمر بمراحل ثلاث حتى يصل إلى النتيجة، وربما لا يصل إليها، وقد تحدثنا عن المرحلة الأولى وهي المقدمات، وقلنا: إنها إن الطلبة يطوونها عادة بين ثلاث إلى أربع سنوات في المعدل المتوسط، ويبقى لذهنية الطالب دور في تقليص الفترة الزمنية، وكذلك الالتفات إلى ما هو المعنيّ به ليقدم الأهم على المهم، وعدم الانصراف عن الغرض، وعدم انحراف البوصلة عن الهدف، والرعاية من قبل الأسرة، كما لو قُيض للفرد أن يكون من أسرة علمية أو أن يقيض الله له أستاذاً مربياً، وهذا ما نحتاجه في الحوزات اليوم.

ففي الزمن السابق كان المربي قبلَ الأستاذ، أما اليوم فصار الأستاذ قبل المربي، على فرض وجود المربي!.

فالبناء الصحيح يقتضي أن لا نشد الأعمدة قبل أن نؤسس القواعد، لا أن نشد الأعمدة والقواعدُ لم تؤسس بعدُ، فمن يحشو دماغه بمجموعة من المصطلحات والآراء والأفكار، ولم يثبّت قواعد محكمة، فإن النتيجة ستكون واضحة بينة، فقد أفتى بعض (أهل العلم) بقتل الحسين (ع) قائلاً: خرج الحسين عن حده، فاقتلوه بسيف جده، والسر في ذلك أن الأعمدة العلمية شُدّت، والقواعد لم تؤسَّس. وكم لهؤلاء من نظائر في شتى الفرق والمذاهب، وليست هناك من خصوصية تمتاز بها فئة عن فئة.

لقد كانت الفيضية في المرحلة الثانية كسائر الحوزات العلمية، تقدم دروس السطوح. والسطوح أيضاً على مرحلتين، يعبَّر عنها بالسطوح الأولى والسطوح الثانية، ويعبر عنها اليوم بالسطوح فقط، فاستُغني عن التقسيم المذكور.

والسطوح تعني عملية الربط بين القاعدة والسقف، وهي مرحلة الأعمدة، وهذه أيضاً لا يمكن أن نقلل مما لها من أثر.

ويدرس في هذه المرحلة علما الأصول والفقه تركيزاً، وسوف نبين بمرور الأيام إن شاء الله  ـ إذا مد الله في أعمارنا، واستطعنا أن نتماشى ونتماهى مع حيثيات هذا الموضوع ـ المفارقة بين ما هو كائن اليوم، وما كان عليه الأمر بالأمس، وما يرغب بعض صناع القرار والموقف أن تنتهي إليه الحوزة. وأخشى ما نخشاه أن يذهب أصحاب القرار بالحوزة إلى مساحات تفقد فيها ما للعنوان من انطباق على معنونها، وهذه إشكالية كبيرة، ولكن نسأل الله تعالى أن يحفظ هذا العنوان المقدس، وأن يحفظ ما تحته من الحيثيات.

إن السطوح عبارة عن مرحلة يدرس فيها كتاب اللمعة للشهيد الأول، وشرح اللمعة (البهجة المرضية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني، كما يدرس فيها معالم الدين للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني (رضوان الله تعالى عليهم)، كما يدرس فيها أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)، أحد أئمة التجديد في حوزة النجف الأشرف، والإنسان الكبير المصلح في عقله، الذي تخرج بسبب تجديده في الحوزة العلمية الكثير من القمم والقامات التي لا زلنا نستفيد منها اليوم، كشباب ومجتمعات، من قبيل الشيخ أحمد الوائلي (قدس سره الشريف)، في عالم الخطابة، والسيد مصطفى جمال الدين رحمه الله تعالى في عالم الأدب، والشيخ الآصفي في عالم القرآن والتفسير، ومجموعة كبيرة من أمثال هؤلاء.

والسطوح كمرحلة أولى تدرس فيها هذه الكتب، وقد تستبدل بعض هذه الكتب بكتب أخرى، كالقوانين في علم الأصول، للشيخ إسماعيل الكيلاني القمي رحمه الله، الذي كان يدرَّس سابقاً، فاستبدلوا به كتاب الشيخ المظفر، وقد برروا ذلك بأن كتاب القوانين مرصوص العبارة، مشدود المعنى، معقّد في ألفاظه، ومن هنا بدأ التسطيح في ذهنية الطالب الحوزوي، فصار يبحث عن الأمور السهلة المرنة ذات الطابع الامتدادي.   

وبعد أن ينهي الطالب هذه المرحلة يدخل في مرحلة أكثر عمقاً وتركيزاً، وهي عبارة عن كتاب المكاسب، ويشتمل على ثلاثة أبواب، وهي: المكاسب المحرمة، والبيع، والخيارات، وهو كتاب استدلالي مركز ومعمق للشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، وخير دليل على قيمته أنه لا يزال بعد أكثر من مئتي سنة تقريباً، يفرض وجوده على الحوزة في سطوحها وخارجها، وعلى أكبر ذهنية نتصورها في الحوزة العلمية.

ومن جهة أخرى، فإن هذا الكتاب عُني بشروح وتعليقات، وصار معرضاً لبحوث الخارج لمعظم علماء الطائفة لقرابة قرنين من الزمان.

ومن الكتب التي تدرس في السطوح كتاب الرسائل، وهو كتاب مهم في الأصول للشيخ الأنصاري أيضاً. وهذا الكتاب لا يزال عمدة التدريس في الحوزة، ولكن امتدت إليه يد الجزر، ويبدو أنه سوف يقاوم إلى فترة معينة، ثم يُشيَّع كما شيع ما كان قبله من الكتب.

ومن الكتب التي تدرس في مرحلة السطوح كتاب الكفاية، للشيخ محمد كاظم الخراساني رحمه الله تعالى، وهو إمام أئمة البحث والنظر في علم الأصول، وقد كتب الكفاية بقسمين: ألفاظ وأصول عملية، وقد دارت رحى الحوزة العلمية على هذا الكتاب منذ تأليفه.

ثم ينتهي الطالب من هذه المرحلة العامرة بالأعمدة العلمية الكبيرة، ولكم أن تتصوروا أن هذا الجامع مثلاً، بما فيه من القواعد والجسور، لو أن أعمدته الأربعة غير موجودة فكم من العمر يمكن أن يصمد ؟

لا شك أنه مع وجود الأعمدة الأربعة التي فيها الكثير من الحديد والإسمنت، سوف يمتد به العمر فترة مُرضية.

وكذا الحال في طالب العلم في الحوزة العلمية، لأن مرحلة السطوح بمثابة الأعمدة، فإن كانت ضعيفة، ولم تكن خاضعة للمراقبة من ذوي التخصص، فسوف يكون أشبه بالإنسان المشوَّه الذي يكون بديناً، وفي الوقت نفسه ضعيف القدمين، أو غير ذلك من الصور المشوهة. فإن كانت هذه المرحلة من البناء لدى طالب العلم مختلة وغير محكمة البناء، فالنتيجة ستكون سلبية لا محال.

ثم ينتقل الطالب إلى المرحلة الأهم، وهي مرحلة البحث الخارج، ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن بعضنا قد ينبهر بهذا العنوان عندما يذكر أمامه، فيمتدح فلاناً من الناس أنه (يحضر البحث الخارج)، باعتبار أنه لو لم يكن مبدعاً لما وصل إلى هذه المرحلة.

وأود أن أقول بعبارة صريحة: إن هناك نسبة عالية ممن يحضرون البحث الخارج لا يفهمون حتى معنى البحث الخارج، ومن قال غير ذلك فليأتني أُدلّه على المصاديق. بل إن معظم من يحضر البحث الخارج هو عالة على هذا البحث.

والأنكى من ذلك أن بعض هؤلاء لا يقف عند حدوده، فيتطاول على الفتوى بحجة أنه حضر البحث الخارج، في حين أن البحث الخارج ليس آخر المطاف في الحوزة.

وبمثال بسيط أحاول أن أقرب معنى البحث الخارج للأذهان، أقول: إن الشيخ محمد حسين الإصفاني، الذي كان عملاقاً من عمالقة الفكر الأصولي في الحوزة، وهو الذي فتّق مباني الشيخ الآخوند في الكفاية، كان عدد الحضور في درسه قليلاً جداً، لكن كل من اتصل بهذا الرجل العظيم أصبح مرجعية في الطائفة، أو عملاقاً من عمالقة التأليف، ولم يخرج أحد منهم إلا كذلك. ولا أريد أن أسمي غيره ممن كان عدد حضوره أكبر، وإن كان ذلك لا يضر المرجع، فلا ضير عليه إن كان عدد حضوره ألفين ليس فيهم إلا القليل من المبدعين.

يقول السيد مصطفى جمال الدين: كنا نحضر عند السيد الخوئي رحمه الله أكثر من أربعمئة، لم يكن بيننا عشرون فرداً يتماشى مع الدرس، وإن أردت أن أتوسع قليلاً، لكي لا أظلم أحداً، أقول: لم يكن هناك أربعون.

وهذا الكلام من السيد مصطفى جمال الدين موثق ومسجل. بل إن البعض قد يكون التقى بالسيد الخوئي رحمه الله، وسأله بعض المسائل، أو سلم عليه، وشرب عنده القهوة النجفية، فصار يذرع الدنيا طولاً وعرضاً، ويملأ المجالس بقوله: كنا مع السيد الخوئي، وقال السيد الخوئي، وسألت السيد الخوئي، وهكذا، في حين أنه لم يجالسه إلا يوماً أو يومين.

بل إن البعض قد يذهب أبعد من هذا، حيث يسافر للزيارة، في النجف أو قم، فيزور مرجعاً أو مرجعين، ويسألهما بعض المسائل، ثم يعود إلى بلاده في حال آخر، فيملأ المجتمع بقيل وقال، وسألت السيد المرجع، وقال لي، وهكذا.

لقد التقى الكثير من الناس بالنبي (ص) وعُرفوا بالصحابة، وسألوه ما سألوه، وقالوا له ما قالوا، إلا أن عاقبتهم لم تكن محمودة، ولم يكونوا على ما يرام، بل انتهى الأمر ببعضهم إلى قتال علي والحسن والحسين (ع) بغضاً لهم، وهؤلاء إما أن يكونوا ممن رأى النبي (ص) وسمع حديثه، أو ممن لم يره، إلا أنه تحرك بناءً على فتوى من رآه.

وهكذا الأمر مع الأئمة (ع) وهم الأنوار من آل محمد (ص) فقد (لَعنوا) بعض أصحابهم، الذين جالسوهم وسألوهم أيضاً.

فلهؤلاء النمط من الناس أقول: إن المجتمع اليوم يختلف تماماً عما كان عليه بالأمس، فهو مجتمع واعٍ، يثمن ويقيم، وبيديه ميزان يوازن به بين كفتين، وما عادت الأمور تجري على عواهنها.

إن البعض قد يرى في البحث الخارج محطة استراحة! في حين أنه بداية مرحلة العمل، وتطبيق الآليات المكتسبة في مرحلتي المقدمات والسطوح، لذا نرى أن الطلبة يتمايزون في هذا البحث، بناءً على ما بنوا من قواعد وأسسوا من أعمدة.

وبالعودة إلى المدرسة الفيضية لا بد أن نذكّر أن في هذه الحوزة مكتبة، من الحريّ بأحدنا أن يذهب إليها ليجد فيها الكثير.

كما تعتبر الفيضية منطلق الحراك العلمي في حوزة قم، لوجود بحوث الخارج فقهاً وأصولاً وفلسفةً وعرفاناً، وفيها أيضاً دروس الأخلاق، وهي مهمة جداً، بل إن من أهم الظواهر الموجودة في قم المقدسة، الاهتمام ببحوث الأخلاق.

كما أن فيها قاعات التحقيق للكتب، لا سيما القديم منها. كما أن هنالك الكثير من الأمور في هذه الحوزة، كالسير والسلوك العرفاني، وهو الطابع الطاغي عليها، وكذلك الفكر والتجديد الثقافي، الذي نضع أيدينا فيه على الشهيد المطهري والشهيد مفتح والشهيد سعيدي والسيد موسى الصدر، وأمثال هؤلاء من قادة الفكر الإمامي الذي أعطى هذا النتاج الكبير.

أما في الحراك والتغيير الاجتماعي، فلم تكن حوزة قم ـ لا سيما المدرسة الفيضية ـ تنفصل عن المجتمع من حولها، وهذا هو شأن الحوزة، لأنها الرأس، ولا بد أن يكون الرأس كثير الأذى، وقد قال أحدهم لولده: أي بني، لا تكن رأساً، فإن الرأس كثير الأذى. فلا بد للحوزة أن تتحمل الأذى، وليس لها أن تبتعد.

إن من يتصدى للمسؤولية في أي حقل كان، لا بد أن يكون بقدر تلك المسؤولية، فمن أراد أن يكون رباً لأسرة، فلا بد أن يكون بحجم المسؤولية، وهكذا من تصدى للقيادة في المجتمع، والزعامة في الأمة، فهو رأس، وعلى الرأس أن يتحمل الأذى. لا أنه عندما تصطك الأمور كقطع الليل المظلم، يبحث عن ملاذ وينأى بنفسه.

يقول جون مولى أبي ذر: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم؟!

لقد كان جون عبداً قبل موقفه هذا، إلا أنه بهذا الموقف صار سيد الأحرار. بل إنه سيد لأكثر من سيد وسيد يدّعي السيادة لنفسه، بمعنى الزعامة والقيادة والرئاسة.

وهناك التوجه والبناء السياسي، وهو ما له الأثر الواضح والبين في حوزة قم أيضاً، فقد عجزت مدرسة أهل البيت (ع) أن تثبت لها مسمى دولة، منذ زمن المعصومين (ع)، إلى ما قبل ثلاثة عقود من الزمن، إلا أن حوزة قم ومدرسة الفيضية بشكل خاص، استطاعت أن تأخذ بزمام المبادرة، وتصل إل ما وصلت إليه. لذا فإنني أكرر باستمرار قائلاً: إذا كنا نبحث عن مداليل «الممهدين للمهدي سلطانه» فلا نحتاج أن نذهب يميناً ويساراً، إذا ليس هناك أصدق من العالم الخارجي في تصديق القضايا، فهو واضح بين لا لبس فيه.

من جهة أخرى، أن طلاب الحوزة العلمية يمكن أن يدخلوا دائرة التصنيف بشكل آخر، فهناك مجموعة تنعت بالواعية، وهم طبقة من رجال الدين تحمل الوعي، وتعيش الحراك في سبيل تغيير الواقع، وإقامة مشروع جديد.

أما المجموعة غير الواعية فعلى النقيض من ذلك، وهي التي تبحث عن الدعة والراحة.

وهنا سؤال يطرح نفسه: هل أننا نمتلك من الإيمان والجرأة أن نقول: أخطأنا، عند استكشاف حالة الخطأ في أوساطنا ؟ أو أنه الإصرار والمكابرة الجوفاء ؟

قد يخطئ الإنسان أحياناً مع عياله في داخل البيت، لكنه يعيش حتى يخرج من الدنيا ولا يقول أخطأت، وهذه هي المكابرة، وأحياناً يخطئ رجل الدين، ولا شك أن خطأه أكبر من خطأ رب الأسرة، فيكابر. فهل لدينا القدرة على مصارحة أنفسنا فنقول: هذا خطأ وهذا صواب ؟ وأن وراءنا مجتمعات نحن مسؤولون عنها ؟ وهل أن المشهد اليوم يصاغ بلياقة عالية، بوعي وإدراك دقيق ؟ وهل أن هناك بعد نظر يسوس المشهد ؟ أو أن مسيرنا كالأعمى الذي تقوده العصا إلى حيث تريد، وهي مثله لا تبصر شيئاً ؟

إن هذا التقسيم يستبطنُ تقسيماً آخر أيضاً، ولا بد من إبرازه، وهو الحراك والجمود، فمن رجال الدين من يصنف أنه جامد، ومنهم المتحرك أو الحركي. فالحركي: هو من يتعاطى المفاهيم الحركية في وسط الأمة، أما الجامد فهو على النقيض من ذلك، فلا يتعاطاها على هذا الأساس. وللجمود أيضاً مراتب، فهناك من الجامدين من ليس لديه سوى (الاستخارة) و (تعبير الرؤيا والمنامات) وهناك من يرقى لمستوى صلاة الجماعة مثلاً، ثم ينتظر الناس، إن سألوه عن أمر فبها، وإلا فلا.

ومنهم يتقدم خطوة إلى الأمام، فيبين الأحكام التكليفية، والمسائل العقدية، والسلوكيات في الجانب الأخلاقي، فتراه متلفعاً بعباءته، يخشى أن يلمسه أحد.

 

وهذه الأمور التي ذكرناها تقودنا إل تنبيهات وددت أن أشير إليها، وهي:

1 ـ في الخميس القادم ستكون ذكرى مولد الإمام العسكري (ع) الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) صاحب القبر المهدوم ظلماً وعدواناً، وجوراً وتجبراً، ومحاربةً صريحةً لأهل البيت (ع). وهو إمامكم أيها الشباب بالدرجة الأولى، لأنه من طبقة الشباب، وقد استشهد حدث السن ([5]) ، لذا فإني أذكّركم فأقول: أيها الإخوة الشباب والأحبة جميعاً من الإخوة الرجال ومن الأخوات، دعونا نشارك الإمام العسكري المظلوم، في مظلوميته، لا أن نصطف مع ظالميه فنشارك في ظلمه، فالحضور في مجالسهم (ع) انتصارٌ لهم.

ولا بد أن أنوه بالحضور الكبير الذي بدأ يتزايد في الفترة الأخيرة، في مساجدنا وحسينياتنا، وهناك شعور بالمسؤولية تجاه أهل البيت (ع) وهناك رجوع إلى الذات. وهذا ما ينبغي أن نشكره ونقدره، وفي الوقت نفسه لا بد أن نثبّته أيضاً، وهذه أمانة في أيدينا يجب أن نوصلها إلى أطفالنا وعيالنا.

2 ـ في ليلة الجمعة أيضاً ذكرى شهادة الصديقة الكبرى السيدة فاطمة الزهراء (ع) بناءً على الرواية الأولى. وسوف يكون المجلس لسماحة السيد عمران. 

3 ـ ليلة السبت ستكون ذكرى وفاة السيدة المعصومة (ع) وسوف يكون لدينا برنامج بالمناسبة. وبالتالي سيكون برنامجنا متواصلاً في هذه الليالي الثلاث, ونسأل الله تعالى القبول.

4 ـ الأحداث العامة في الساحة اليوم: فالبعض يسأل عن الموقف منها، ومن هنا أقول: إن موقفي من ذلك ثابت، وقد أعلنته منذ العام الماضي، ولم أغيّره، فأنا أدعو للتهدئة وتحكيم أصحاب العقل والرأي، لا على أساس من (القص واللصق)، فإني عند تصفحي لأسماء الموقّعين على البيان الأخير، وجدت أن من بينهم زيداً من الناس، وقد توفاه الله قبل ثلاث سنوات!.

أحد المشايخ أقسم بالله أنه لم يوقع، لكن اسمه كان ضمن الموقعين.

أقول: من وقّع فله الخيار، ومن حقه أن يفعل، ومن لم يوقع كذلك، ولا نريد أن نحاكم الآخرين على النوايا، ولكن أصحاب المواقع عليهم أن يخافوا الله ويخشوه، وأن لا يقوموا بعملية التقطيع و (القص واللصق) فهذه مشكلة كبيرة.

أقول باختصار: موقفي الثابت الذي لم يتغير هو: الهدوء، ومشاورة أصحاب الرأي والحكمة في المجتمع، وأصحاب الخبرة بالأحداث. وأن لا ننشدّ وننجرّ لأحداث أخرى.

5 ـ تنبيه للأولاد والبنات، فالأجهزة صارت في متناول الجميع، ومنها الأيفون والجالاكسي، وصار الولد يأتي أباه طالباً منه اقتناء الجهاز المعين، أسوة بالآخرين من أبناء عمومته وقرابته وأصدقائه، فيستجيب الوالد لذلك، فالجهاز لا يتجاوز ألفي ريال أو أقل من ذلك.

لكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد، ولا تتوقف عند الشراء وتسليم الجهاز للولد، إنما يجب المتابعة، فهل أن هذا الولد ناضج فكرياً ؟ وهل لديه الاستعداد للتعاطي مع معطيات الساحة الخطرة جداً؟

كنت أحذّر يوماً ما من الغرف الرمادية، ولا زلت إلى اليوم أؤكد على هذه القضية، فقد تأتيك بعض المصائب لأسباب تافهة، وقد يلقى بعض الناس في السجن بسبب رسالة يفتحها، ولا أريد أن أبرر لمن يقوم بذلك، فيأخذ الناس إلى السجن بأمثال هذه الأسباب، إنما أقول: الوقاية خير من العلاج. فعلينا أن نأخذ الحيطة والحذر قبل أن نُلقى في غياهب السجون، وأن لا نسهم في إلقاء أنفسنا في موارد خطرة أو شديدة الصعوبة.

إن هذه الشواهد تدعو للكثير من الحذر، فقد يستدرج البعض من حيث لا يشعر، وقد يُفصل من عمله، ويُقطع رزقه، أو يعاقب بما لا يد له فيه. ولا أريد أن أبرر أبداً مثل هذه الأمور، بل أقول: إن محاربة الإنسان في رزقه من أكثر المنكرات قبحاً، ناهيك عما عداها، ولكن في الوقت نفسه على الإنسان أن يكون حكيماً واعياً فطناً.

فيا أيها الشباب من مرتادي (whatsApp) أو (facebook)  أو غيرها من المواقع في هذه الأجهزة وغيرها، عليكم بالحذر الشديد.

قال والدي ـ أطال الله في عمره ـ في أحد الأيام كلمة لا زالت في ذهني إلى اليوم، وهي: إذا خرجت من بلد إلى بلد، فما لا تفعله في بلادك لا تفعله هناك.

واليوم أصبح الأمر أكثر خطورة، فلا يحتاج أن تذهب إلى خارج بلادك بفضل الأجهزة والتقنيات الحديثة، وعليه فلا بد من الحذر.

ولتعلموا أيها الشباب، أن الواحد منكم أغلى عندنا من كثير من الأشياء، فلا نريد أن نفجع بأحد، ولا أن نرى دمعة عين تسقط لأمّ مفجوعة.

6 ـ أذكّر أخيراً بصدقة الشهر، ففيها دفع للبلايا، عنكم وعن أهليكم وإخواننا المؤمنين من شيعة علي بن أبي طالب، الذين يحارَبون تحت كل حجر ومدر، وتراق دماؤهم في أكثر من مكان، لا لشيء إلا لأنهم يُحسبون على علي (ع). فلقضاء الحوائج كلها أذكّر بهذه الصدقة. 

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.