نص خطبة: حوزة قم وآليات التطور العلمي

نص خطبة: حوزة قم وآليات التطور العلمي

عدد الزوار: 659

2012-02-08

في الحديث الشريف عنهم (ع): «أما والله لو أن رجلاً صفَّ قدميه بين الركن والمقام مصلياً، ولقي الله ببغضكم أهل البيت لدخل النار»([2]).

بارك الله لنا ولكم الذكرى الطيبة ذكرى فرحة الزهراء (ع) المرأة المظلومة المغصوب حقها، المقهورة المضطهدة الشهيدة، وأعاد الله علينا وعليكم أجواء المناسبة، ونحن وأنتم وسائر المؤمنين والمسلمين في أحسن حال.

وللإمام المهدي (عج) من الحق علينا الشيء الكثير، فما الذي أعددناه كي نستقطب اللطف من ناحيته المقدسة؟.

إن الطرق الموصلة لشد العلاقة مع المهدي (ع) كثيرة، لكن أهم طريقين هما القرآن الكريم، والعترة المطهرة من آل محمد (ع). ونحن في هذه الفترة الزمنية بمسيس الحاجة أن نلوذ بظله، ونستضيء بأنواره المشعة على القلوب، وإن تراكمت بعض الغيوم هنا وهناك على قلوب عليها أقفالها.

فالقرآن الكريم هو الطريق الأول الموصل لحالة القرب من الناحية المقدسة، وهناك أربعة عشرة قرناً ونيف، هي الفاصلة الزمنية بين أول منطوق من القرآن الكريم والفترة التي نعيشها، ومن حق القرآن أن يسأل منا هذا السؤال: كيف تعاهدناه وتعاطيناه وتعاملنا معه؟ إنه يستدعينا للقراءة الصحيحة، وكلنا يعلم أن المترتب على هذا الأمر شيء كثير، ومن الأهمية والخطورة بمكان، فالصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها، مبنية على تصحيح القراءة، فهل ننتظر الساعة التي نكون فيها وجهاً لوجه بين يدي الخلف، لو وفقنا في الشرف لذلك لنصحح القراءة؟ أو نقدم له قراءة فيها الكثير من العطب والخلل؟

ولو اختار الله تعالى لنا الطريق الثاني ـ ولا رادّ لقضائه ـ وهو العروج من هذا العالم إلى ذاك، فهل ننتظر أن نقدم مجموعة من الملفات، وفي مقدمتها الصلاة، وهي تحمل الكثير من العطب؟

والطريق الثاني الموصل إلى تقوية العلاقة مع الخلف الباقي هو التعرف على علوم القرآن الكريم، ففي روايات أهل البيت (ع) كمٌّ هائل يدفع المسلمين عامة والموالين خاصة أن يتعرفوا هذه العلوم، وأن تكون لهم القدم الراسخة، واليد العالية، والنظرة الثاقبة التي لا يجاريهم فيها أحد من أقطار الأرض.

والطريق الثالث هو التعامل مع معطيات القرآن الكريم، أي المطابقة مع ما استفدناه من تلك النصوص الشريفة، فالأمة عندما تعرفت القرآن الكريم، وحاولت أن تقترب من مساحة التطبيق، دانت لهم الدنيا بشرقها وغربها، ورفّت الرايات بيد العرب يوماً ما، ثم بيد المسلمين من غير العرب في فترة أخرى، أما اليوم فهم يتهجون مفردتهم من جديد، ولا عزة للعرب والإسلام إلا بمحمد وآل محمد (ع).

ومن هنا جاء التأكيد من قبل أهل البيت (ع) على الأخذ بالعلم كسبيل وسلاح ماضٍ في كثير من الساحات. والحوزة العلمية هي شذرة في هذه الأيقونة التي وضع حجر أساسها النبي محمد (ص) وسار على ذلك الآل من بعده، ومن سار على نهجهم.

عودة إلى حوزة قم:

كان الحديث فيما سبق حول حوزة قم المقدسة، تلك الحوزة العظيمة التي أحدثت نقلة كبيرة في المسار الحوزوي، فالحوزة العلمية منذ تأسست وإلى يومنا هذا توقفت في مجموعة من المحطات، وكان لتلك المحطات الكثير من الإيجابيات والعطاء والتقدم والنظر الثاقب، ولكن صاحبها أيضاً شيء من التوقف والتريث في محطات معينة، والذين حضروا بحوث الحوزات العلمية وضعوا أيديهم على كثير من الشواهد على هذا المدعى.

إن حوزة قم تعني التميز وحركة العقل إلى معالم بعيدة جداً، وخير شاهد على ذلك ما سمعتم اليوم من كثير من القنوات الفضائية عن إطلاق قمر صناعي من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران.

لقد كان الكثير من الناس يأخذون على الحوزات العلمية أنها جامدة، ولا تتحرك إلا في مساحة النحو والصرف وغيره، وربما قبل البعض من الناس أن الحوزة غادرت مساحتها قليلاً، ولكن على نحو من الخجل، وربما ادُّعي أكثر من ذلك، والحر تكفيه الإشارة، لكن هؤلاء جهلوا أن العقلية الحوزوية قادرة على أن تستجيب لنداء القرآن: ﴿لا تنفذون إلا بسلطان([3]) وهو العلم، فاستطاعوا أن يجعلوا من العلم بشقيه ـ لا بشقه المشلول ـ يتجاوز عالم الأرض إلى عوالم الآفاق.

أيها الأحبة: إن علماء الحوزة اليوم ما عادوا حكراً على ما كنا نسمع ونقرأ ونلامس، إنما اندفعوا إلى مساحات بعيدة، فصاروا يرسمون بمحابرهم مستقبل الفضاء، وما حصل اليوم هو المصداق، لأن العقول التي قامت بإنتاج ما تم إنتاجه هي عقول حوزوية بامتياز، وبظني أن زمن التمهيد للمهدي (ع) قد بدأت خطواته، والشواهد أكثر من أن تعد وتحصى.

وقد كنا فيما مضى من الحديث تكلمنا عن البعد الروحي في حوزة قم، وقلنا: إن محور الارتكاز هو حرم السيدة المعصومة (ع) وأن هنالك العبادة بجميع تفريعاتها، من الصلاة والدعاء والزيارة والأوراد التي يتعاطاها المؤمن في مناخ الإيمان.

أما الجانب الآخر فهو القبور الموجودة في حرم السيدة المعصومة (ع) التي أوصى البعض منهم أن تكون له الكرامة بأن يدفن تحت أقدامها (ع).

وفي الحرم الطاهر مجموعة من كوكبة الحوزة العلمية الذين قدموا الكثير لهذا المذهب، وهم عبارة عن مشيخة الحديث الذين نزلوا مدينة قم في أواخر أيام المعصومين، أو قبل ذلك في أيام الإمام الصادق (ع) عندما هُجِّر الأشعريون من الكوفة، وجاؤوا إلى قم وبسطوا نفوذهم عليها وكان فيهم من رواة الأحاديث جماعة، وهؤلاء لهم قبور على مقربة من السيدة المعصومة (ع) وفي حياتهم دروس وعبر، وأنا أنتدب إخواني وأحبتي وخصوصاً الطليعة المؤمنة من الشباب أن يقرأوا قصص العلماء، ولكن أنبه في الوقت نفسه أن الكتب التي كتبت عن سير العلماء كثيرة، تشكل موسوعات موسّعة، كرياض العلماء للأفندي، وروضات الجنات للخوانساري رضوان الله تعالى عليهما، والكثير من الكتب التي عنيت بالتراجم، كما أن هنالك كتباً أخرى صدرت أخيراً، قدمت مجموعة من القضايا المرتبطة بالعلماء رضوان الله تعالى عليهم.

أقول: إن الكتابة عن حياة الأعلام رضوان الله تعالى عليهم، يندفع الكاتب لها من خلال أحد مصدرين:

الأول ـ المخزون الروحي الذي يتمتع به ذلك العَلَم، الفقيه أو المحدث أو المرجع، وهذا سهل التناول، إلا أنه يحتاج إلى الدقة والعناية الفائقة في تمحيص مصدر ذلك الجانب، كي لا يحصل الخلط والإرباك، فلشدة حب المرء لشخص ما أحياناً، ربما يرى رؤيا أو حلماً في منامه ويحاول أن يجعل منها مرآة لذلك العلم، فلا يلتفت إلى ما فيها من الكثير من المساس بذلك العلم.

الثاني ـ ما يتناقله الناس عن قضايا يدفع إليها الاستغراق في الحب والعاطفة أيضاً، فيأتي المؤلف بكلام سرعان ما يُستحسن ويرتب عليه الآثار.

ومن هذين المصدرين نجد الكثير من الحشو في الكتب المؤلفة في هذا المجال، لكن ثقتنا واعتمادنا على وعي شبابنا الطيب المؤمن المبارك الطليعي في أن يتلمس الثغرات، ثقة كبيرة.

أما الجانب الثالث فهو ما يخضع للجانب العلمي والتحقيقي في سير أعلام نبلائنا، وهذا ما يهمنا في هذه المرحلة بامتياز وبالدرجة الأولى. 

وبالعودة للحديث عن حوزة قم، نذكر إلى جانب المشيخة الذين ذكرناهم، مراجع  التقليد العظام الذين تسنّموا دفة المرجعية في أوساط الطائفة، لا سيما في القرون المتأخرة، ومنها القرن الأخير، التي حظيت بكوكبة متميزة، بل هي في أعلى درجات الامتياز، وهؤلاء الأعلام مقبورون أيضاً على مقربة من السيدة المعصومة (ع) شرفنا الله وإياكم بزيارتها. فعندما يصل الزائر هناك، ويقف أمام تلك القبور، فلا بد أن يقف أمام المعنى، لا أن يقف على المادة، من الصخرة المنحوت عليها شكل القبر، فهذا لا يقدم ولا يؤخر، إنما الذي يقدم ويؤخر هو الجوهر المكنون تحت تلك الطبقة من التراب، وماذا يعني لنا هذا الرمز من قيمة علمية وأدبية وروحية وغيرها.

وفي طليعة هؤلاء الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس الحوزة العلمية في قم بثوبها الجديد، أي في آخر مراحل التحديث، أوائل القرن المنصرم، فهذا الرجل العظيم له من الامتياز والتميز ما لا يشاركه فيه إلا القليل، وأقل من ذلك القليل، أولئك الذين استطاعوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه.

كان الشيخ الحائري من تلامذة المجدد الشيرازي قدس سره الشريف، والسيد الشيرازي ركنٌ من أركان الحوزات العلمية، مع وعي سياسي منقطع النظير، بحيث أربك بفتواه الشهيرة مركز القرار السياسي في بريطانيا العظمى في يوم من الأيام.

والشيخ الحائري خريج الحوزات الثلاث، وكفى، فهو خريج النجف الأشرف، ومدينة سامراء، عندما انتقل المجدد الشيرازي إليها، وخريج كربلاء، ثم سطع نجمه في قم، وبذلك يكون قد أمسك بكل مقومات الاقتدار العلمي في مدارس ثلاث، كان لكل واحدة منها تميز، وقد أفرغ عصارة هذا التميز في قم المقدسة.

وقد تخرج على يديه أقطاب وأعلام وأركان هم في أعلى درجات الامتياز أيضاً أمثال السيد الإمام رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة، والسيد الكلبايكاني، والشيخ الأراكي والشيخ الهاشمي الآملي وأمثالهم.

وعندما انتقل الشيخ الحائري إلى قم، وانهمك في دروسه، انهال على قم النخبة من محصلي العلوم الدينية من الذين قطعوا مراحل، وأرادوا أن يكملوا المسيرة في قم، لذا أخذت قم قوتها وتماسكها، فهي لم تبدأ من الصفر، إنما استكملت بناءها مع النخبة.

وقد ترك هذا الأمر أثره على الأجيال المتعاقبة، وسوف أبين في يوم ما نقاط الافتراق بين حوزة قم التي تشكلت فيها عناصر التكامل، وبعض الحوزات العلمية التي تسببت بتخليها عن تلك العناصر يوماً ما، بأن تدب في أوصالها حالة الضعف([4]).

   ومن أولئك الأفذاذ السيد البروجردي، الذي لا يقل شأناً ومقاماً علمياً ومرجعياً عن السيد محسن الحكيم (قدس سره الشريف)، لكنني أقطع أن أبناء الأمة العربية من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) لا يعرفون عن هذا الرمز إلا القليل، ولهذا الأمر منشؤه، وهو محاولة الانغلاق على الذات، وعدم محاولة الانفتاح على الأطراف من حول المركز، ويشتد الأمر سوءاً عندما تجد في أوساط الحوزة، لا في عموم الناس المؤمنين فحسب، من لا يهتدي إلى أبسط المفردات من عظمة هذا العظيم.

كان السيد البروجردي فقيهاً معروفاً، تخرج من حوزة النجف الأشرف، ثم انتقل إلى بروجرد واستقر فيها، في حالة من عدم الانكشاف إلا على عالمه الصغير، فلم تكن بروجرد آنذاك بالمدينة الكبيرة كما هي عليه اليوم، وبطبيعة الحال، كثير من علماء الأمة في مدرسة أهل البيت (ع) يعودون بشهادات علمية، ويدعمون بشهادات الاجتهاد، ولديهم سلطنة في الكتابة والقول، لكن الظروف لا تخدمهم في كثير من الأحيان، فيدفنون كسائر الناس، أي أنه يدفن بعلمه، وهذه إشكالية لا بد من تجاوزها، ولا يتم تجاوزها إلا بناءً على حالة من التعاون من آحاد الأمة وأفرادها ورجال الدين أنفسهم، فعلى رجال الدين أن يعيشوا حالة الثقة بالله سبحانه وتعالى وبأنفسهم، وما دام الإنسان يتحرك بناء على هذا المصدر فيفترض أن لا يخشى شيئاً.

فلو قيل لبعضهم مثلاً: لم لا تُخرج كتاباتك إلى عالم النور؟ يقول: أخاف من كلام الناس. وكم طمر هذا الخوف من كلام الناس تحت الأرض، وألقى في مزبلة النفايات من تراث علمي وأدبي يفترض أن يسجد له!.

وكشاهد على ذلك من بلدنا نحن، أن أحد أعلام الطائفة الماضين، قبل سبعين سنة تقريباً، كان على درجة عالية من العلم، ودرجة أعلى من الأدب والوعي([5])، وكان يعقد جلسات لتكريم الشعراء المبدعين في المنطقة، ثم تجمع القصائد في قراطيس كتبت يومئذٍ بأقلام الرصاص، فاجتمع لدى العالم المذكور كمٌّ هائل من أدب الأحساء، سواء من شعراء الشيعة أو من أبناء العامة الذين كانوا يشاركون في تلك المحافل، وكانت أبوابه مفتوحة للجميع([6]).

فذهب أحدهم إلى واحد من أبناء ذلك العالم الجليل وقال له: إنني في طور التحقيق عن علماء الأحساء وأدبائها، وقد سمعت من بعض الأشخاص أن لوالدكم يداً طولى في ذلك. فقال: هذا صحيح، وأنا أتذكر ذلك. فقال له: أين ذلك الأدب الجم الذي كان لديه؟ قال الابن: آخر عهدي بتلك القراطيس أن بقيت لدينا (خَيشتان)([7]) فلما توفي الوالد رأينا أن لا فائدة من الاحتفاظ بهما، فرميناهما في أعلى السطح في (المصباح)([8]) ثم عزمنا على الانتقال إلى منطقة أخرى، فعمدنا إلى تنظيف البيت، ورميناهما في القمامة!.

وقد سمعت هذا الكلام أيضاً من الولد المذكور مباشرة دون واسطة.

فالسيد الروجردي كان من العظماء الأفذاذ، وقبره بين الحرم والمسجد الأعظم، الذي بني على يديه، وفي زمنه. وقد ألف كتاباً أسماه جامع أحاديث الشيعة، وهو من أفضل المتون الحديثية التي كتبت، لأنه خضع التحقيق.

ربما يقول البعض: لم لا تنقّحون البحار أو مرآة العقول أو الوافي أو الكافي أو غيرها من كتب الحديث؟ فنقول: الكتاب المذكور من الكتب المحققة، فهل طرق سمعك اسمه؟ وهل بحثت عنه؟ وهل شرفت مكتبتك به؟

أضف إلى هذين العلمين ممن دفن في صحن السيدة المعصومة (ع) السيد صاحب الميزان، محمد حسين الطباطبائي، المعجزة في عالم التفسير، الذي أخضع علم الفلسفة بدقته، وعلم الحديث في نقله، وعلم العرفان، لخدمة القرآن الكريم.

إلى غير ذلك من العلماء الذين دفنوا بالقرب من قبرها الشريف (ع).

وأقول هنا للشباب الذين يفقون للذهاب لتلك الأماكن: إن الوقوف على قبور العلماء فيه دروس وعبر، يستطيع المرء أن يفيدها منه.

ليلة الجمعة القادمة ذكرى مولد الرسول الأعظم (ص) وحفيده الإمام الصادق (ع) وهي أيضاً ذكرى مرور خمس سنوات على هذا الجامع، وسوف نبين ما لنا وما علينا كما وعدناكم في الأسبوع الماضي.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم التوفيق والتعرف على العالم من حولنا، ووفقنا الله وإياكم لكل خير.

والحمد لله رب العالمين.