نص خطبة: تفاوت الناس في سيرهم المعرفي إلى الله (1)
منزلة العالم:
مما لا شك فيه أن الناس متفاوتون في سيرهم المعرفي، فمنهم من ينشد الحقيقة ويصل إليها، ومنهم من ينشدها فيخفق، ومنهم من ليست لديه الرغبة أن يقترب من دائرتها، ومنهم من ليس لديه الحظ إلا ما يوصله إلى كشف الظاهر والوقوف عند حدوده، ومنهم همج رعاع.
قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ﴾([3])، وهذه حقيقة يحصل على أساسها التقديم والتكريم بين الناس. وليس هذا أمراً بدعاً اخترعه الإسلام، وإن كان ما يصدر عن الإسلام لا يوصف بهذا الوصف، ولكنه في حدود معطى المفردة اللغوية. فهذه قاعدة لها جذوها في الفكر الإنساني، أن العالم له الحظوة ومنزلة التقديم والتكريم، لأن العلماء هم الذين نذروا أنفسهم، وحملوا المشاعل التي ينيرون من خلالها الطريق لأبناء الأمة، وليس من الصحيح أن يكلف الجميع ليصبح كل منهم عالماً بما تحمل الكلمة من معنى، وإلا لتعطلت مصالح العباد، فالإنسان مع الإنسان عبارة عن حلقات تتشابك فيما بينها فتنتهي في نهاية المطاف إلى منتج معرفي، يأخذ بالإنسان أخيراً إلى مدارج السمو.
المسار العرفاني:
والعرفاء هم سادة العلماء، لأنهم جعلوا نصب أعينهم مسألة الكشف عن الحقيقة والسعي وراءها.
وقد مر هذا المسار بعدة محطات، بحيث حورب في بعض محطاته، واحتضن في بعضها الآخر. ولم يتجاوز الخلاف بينهم أحياناً إلا ما كان في حدود المفهوم، وأحياناً قليلة يتخطاه إلى المصداق، وهنا تبدأ الكارثة، بأن يحاكَم العلم بناء على سلوك الأفراد الذين تبنوا قضية أو نظريةً أو مساراً معيناً، وتُرفع اليد عن النظرية المستخلصة بالبحث والتحقيق.
ثم إن هذا الأمر لم يبق محصوراً في حدود دائرة العلماء، إنما أخذ مساره في الكثير من شرائح المجتمع، حتى صار اختلاط الحابل بالنابل سيد الموقف في الكثير من المساحات.
فالعرفاء كغيرهم، فيهم الأصيل وفيهم الدخيل، وبسبب الخلط بين الأصيل والدخيل تداخلت الأمور، فحورب العرفاء وطوردوا، شأنهم شأن الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء، الذين حملوا مشعل المعرفة لإضاءة الطريق للأمة من حولهم.
فالنبي (ص) يقول: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»([4])، وهذا يعني أن الأذى لاحق الأنبياء جميعاً، إلا أن ما أوذي به الأنبياء الذين تقدموه لا يقارن بما ناله منه. ثم تأتي طبقة الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل.
فالإنسان إذا ما أراد لنفسه الراحة والسكون، والنأي بنفسه عن الأخذ والتجاذب، لا يعسر عليه ذلك، ولكن ليس هذا هو الهدف المرتجى من وجوده في هذه الدنيا، إنما الهدف أن يتمثل طريق الأنبياء والأولياء والعلماء لينهض بأعباء المسؤولية. لذا فإن صاحب الصنعة المعينة، والحرفة المحددة لا يطالب بما هو أكثر من المرتجى من صنعته، أما رجل الدين فهنالك منتج يقدمه، وبناء على هذا المنتج الذي يرغب في طرحه بين أيدي الناس، عليه أن يراعي الأصول والثوابت التي بنيت عليها منتجات من تقدمه.
إن البعض عندما يتناول مثل هذه القضايا، يرى أن من تقدم لم يُبقِ لمن تأخر شيئاً، فيقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وفي هذا الكثير من التأمل والتوقف. ولا ندري ممن صدرت هذه العبارة؟ ولماذا؟ وهل هي مقبولة أو مرفوضة؟
إن من لم تقصر همته، ويستشرف الوضع من حوله، ويواكب مسيرة ما يُكتب ويقرأ ويُنقد من حوله في العالم، لا يستطيع أن يسلّم بتلك المقولة، لأنها مدعاة لتحطيم الهمم، ومصادرة جميع ما يمكن أن يتسلح به الإنسان، ويخوض على أساسه معاركه الفكرية.
تعريف العرفان:
فالعرفان لغةً: هو المعرفة والعلم([5]). والذين دخلوا هذه المساحة قلةٌ ممن يحملون ضرباً من الخصوصية والتحمل، فليس بمقدور كل عالم ـ ناهيك عمن لا يتصف بصفة العلم ـ أن يقطع مشواره ويصل إلى نهايته. لذا نجد أن الكثير ممن ادَّعوا السير في هذا المضمار، وربما اقتربوا منه، واستظهروا بعض نصوصه ومفرداته، ولاكوها في الكثير من المواطن، لكنها لا تكشف عن حقيقة الحال، إنما كانت المفردة في جانب، وهم في جانب آخر.
إن من أشد الطرق العلمية عسراً وحرجاً ومشقةً هو مسار العرفان، لأنه يبتني على ركنين سوف أقف عليهما إن شاء الله.
أما العرفان المصطلح، أي ما اصطلح عليه أرباب هذا الفن، وتردد في الأوساط العلمية، فهو: المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبية لا التجريبية، بحيث يرى العارف عالم الوجود مظهراً من مظاهر الباري جلت قدرته.
ولكي يصل المرء إلى هذا المقام، فإنه يحتاج إلى مسافات طويلة، وجهاد طويل مع النفس، واقتراب من المرشد. وربما أشير في الأيام القادمة إلى بعض الأعلام الذين تربعوا على أعلى ما يمكن الوصول إليه من درجات هرم العرفان.
كما عُرّف هذا العلم بتعريف آخر، فقيل فيه: إنه العلم بأسرار الحقائق. فكل شيء في الوجود له حقيقة، والعلم بسر تلك الحقيقة، وكشف سرها هو نتيجة لعلم العرفان. وهو أرقى من العلم الذي يحصل لعامة الناس، من الفقه والتاريخ والطب والهندسة وغيرها، فهو سيد العلوم جميعاً، سواء العلوم الحديثة أم علوم الدين والشريعة وأضرابها. بل حتى علم الكلام والفلسفة لا تشكل أكثر من آلة من آليات الولوج أو الاقتراب من مساحة هذا العلم.
بل إن هذا العلم يعتبر سيد العلوم، لا للعامة من الناس، بل حتى أهل الظاهر من رجال الدين، وهم كثر، بل إن أكثر رجال الدين يُعدُّون من أهل الظاهر في باب العلوم والمعارف، حتى المرجع الذي يمضي الليل والنهار ليبرئ ذمته في استنباط الحكم الشرعي، يختم ما توصل إليه من حكم أو فتوى بقوله: والله أعلم.
فالله تعالى وحده العالم بالحقيقة التي لم تنكشف للمجتهد، إذ إنه يتعامل مع نصٍّ أو أصل، ليصل في نهاية المطاف إلى إبراء ذمة المكلف.
أما العارف فلا يقف عند هذا الحد، إنما يتجاوز إلى مسافة أبعد بكثير. ولأن موضوع العرفان هو الذات المطلقة، فإنه يكون في منتهى الحساسية. لذا زلّت فيه أقدام الكثير من الأساطين.
أقسام العرفان:
إن حديثنا هذا كله يتعلق بقيمة العقل في وسط الأمة، فقد ذكرنا فيما مضى أن الإنسان ليس من حقه أن يسلّم عقله للآخر، وهذا لا يكون إلا إذا بُني العقل بناءً صحيحاً، وتغذى تغذية صحيحة، فكما أن الأجسام تنمو بالغذاء الصحيح نمواً سليماً، فالعقول كذلك. فالغذاء الذي يقدم للعقل لا بد أن يكون سليماً، لتكون النتائج طيبة، فلا ينحرف الإنسان عن الجادة، ولا تختلّ بوصلته.
إننا نجد في جميع دول العالم الإسلامي اليوم، أن لهذه القضية مساحات، والإشكالية ليس في وجودها، إنما في أسلوب التعاطي معها، فهل نتعاطى معها بسيرة محمد وآل محمد (ص) أو على أساس الشخصنة؟
فالعرفان قسمان: العرفان النظري، والعرفان العملي. فالعرفان النظري واحد من العلوم الإنسانية التي من خلالها يُقدَّم التصور النظري الكامل عن الوجود وتجلياته. ولهذا العلم طرق ومقدمات وآليات، ومن مقدماته كتب الحكمة الخاصة والفلسفة. فكل ما نراه في مسيرة الفلسفة والحكمة لدى الكثير من العلماء، لا يشكل أكثر من واحد في المئة من عتبات الوصول إلى علم العرفان.
فما لم يقطع العارف مسافات في مدارس الفلسفة المتعالية، فإنه لا يستطيع أن يتعامل مع النصوص المغلقة والحقائق الغيبية المرتبطة بالمطلق مباشرةً.
أما العرفان العملي، فهو وإن كان سهل المسلك في بداياته، إلا أنه لا يخلو من وعورة عندما يتوسط السالك الطريق، أو يقترب من النهاية. لذلك تحدث الفرق وتتشعب، وتنفتح على العالم من حولها أحياناً، وتنغلق في أحيان أخرى.
والعرفان العملي يتمثل في محطات، تعبر كل منها عن مقام من مقامات العارفين في سيرهم إلى الله، نتيجة المجاهدة الروحية والتزكية النفسية. فالإنسان في ولادته يكون سليماً نظيفاً طاهراً نقياً، أي أنه عبارة عن صفحة بيضاء قابلة للانطباع، لذا يتعامل مع الظواهر الكونية والغيبية من حوله بكل سهولة ومرونة، ولكن عندما يتسرب إلى نفسه التلوث، تحصل حالة من الظلمة والضبابية التي تكسو النفس، فيسودّ القلب يوماً بعد يوم، فلا يصبح قابلاً لاكتساب الفيض، وانطباع النور الملكوتي المرسل من عالمه، فهذا المقام لا يصل إليه الإنسان إلا بعد المرور بمراحل طويلة. أما الأنبياء فإن إعدادهم من نوع خاص، فهو إعداد سماوي لاهوتي، وكذلك الأولياء المعصومون، أما سائر الناس خارج دائرة المعصومين فهم سواء، يتقدم أحدهم على الآخر بمقدار ما يعقل هذه النفس ويصقلها. لذا يعمد العارف أولاً إلى ممارسة العرفان العملي، فيتجه إلى نفسه ليقومها في السلوك.
فالغاية من صدّ النفس عن الهوى، ومنعها من الملذات، والتوجه إلى الله، هي الوصول إلى الله تعالى، وهو الحقيقة المطلقة، الأقرب إلى النفس من حبل الوريد، بل الفناء فيه، فضلاً عن القرب منه، فلا يرى العارف شيئاً ولا يبصر إلا الله تعالى. وعندئذٍ لا يخاف شيئاً إلا الله، ولا يتقي أحداً غير الله.
لذا يقول أمير المؤمينن (ع): «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها مدبراً»([6])، لأنه لا يخاف إلا الله تعالى.
كم قرأنا في حياتنا قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾([7])، ولكن هل توقفنا عندها لنقرأ مداليلها؟ أما العارف، فعندما يقف عند هذه الآية، ويستحضر حالة الحضور في كل شيء، فلا يراها كما نراها نحن، إنما يراها بعين الخصوصية والإشراق.
وكل الهدف المنشود وراء ذلك هو بلوغ أعلى درجات الكمال الإنساني المنشود المتاح، وأعلاه درجة القرب من الله تعالى.
بعد هذا كله قد يسأل سائل: هل يمكن أن أكون عارفاً؟ الجواب: من السهل أن يكون المرء طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك من العلوم التجريبية، أما أن يكون عارفاً فهذا ما يحتاج إلى عمل دؤوب وجهد جهيد. فهذا طريق شاقّ، وعمل ينطوي على الكثير من المخاطر، وقد أشرت فيما سبق إلى أن هناك أساطين وقمماً من العلماء، لكنها لما اقتربت من هذا العلم لم يسعفها الحظ، وكانت بضاعتها أقل من أن تؤمّن زاد المسير إلى أدنى مراحل ذلك الطريق. لذلك نصبوا العداء لأعلام هذا الطريق نفسه، فانقلبت المعادلة رأساً على عقب.
من أعلام العارفين:
في هذا الحديث أستعرض أحد أولئك الرموز الذين غيروا وجه التاريخ، وهو السيد الإمام (قدس سره الشريف) فبقدر ما كان فقيهاً أصولياً مفسراً فيلسوفاً، كان عارفاً أيضاً، ولكن ليس العارف المنزوي في إحدى زوايا غرف بيته، أو سرداب من سراديبه، إنما العارف الذي رسم للعارفين أقصر الطرق الموصلة إلى الله تعالى. فمعظم من سلك هذا الطريق كان يعتمد الوحدة والانصراف عن الناس طريقاً مقرباً إلى الله، أما السيد الإمام فرأى أنّ أقصر الطرق إلى الله أن تكون بين عباد الله.
من هنا نلاحظ أن العرفان النظري منذ زمن الغيبة إلى يومنا هذا موجود، وكذلك العرفان العملي، أما إسقاط معطيات هذين القسمين من العلم على المساحة الخارجية فكان غائباً.
إنه رجل خاف الله تعالى، ولم يخشَ أحداً غيره، فخافه الناس، فلم نعهد في تاريخنا أن رجلاً يصول ويجول في مراكز القرار في العالم، لا يحمل سوى (مسبحة) بسيطة، ولكن في كل تسبيحة منها اقتراب، وفي كل تكبيرة عروج، وفي كل تهليل وحمد كمال، وفي الصلاة على محمد وآل محمد أعلى درجات الاقتراب.
وللإمام الخميني (قدس سره) فضل كبير على الأمة، حيث قفز بالحوزات العلمية من محطة إلى أخرى، وكشف الكثير من جوانبها المغلقة، وما يجري اليوم إنما هو من حسناته وصنيع معطياته، ولا ينكر ذلك إلا الجاحدون.
إننا نريد الخير للناس، بأن يقتربوا من بعضهم، وأن ينبذوا الجهل من أوساطهم، وأن ينفتحوا على من حولهم، وأن تتلاقح الأفكار فيما بينها، فالدين والمذهب لا يمكن أن نتصور فيهما الضعف بحيث تهزهما قصيدة شاعر، أو مقولة من منبر، فديننا ومذهبنا أقوى من ذلك بكثير، فلو تظاهر عليه العرب والعجم لما استطاعوا أن ينالوا منه شيئاً.
ثم إن أعمالنا ينبغي أن تكون لله، ومع الله، فكل ما من شأنه أن يقربنا إلى الله تعالى أحب إلينا من رضا الناس عامة، وينبغي أن يكون هذا سلاحنا.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.