نص خطبة بعنوان :مشروع الحج الإلهي

نص خطبة بعنوان :مشروع الحج الإلهي

عدد الزوار: 478

2013-10-22

 

مشروع الحج الإلهي:

قال تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ([2]).

الحج مظهر التوحيد والتوحُّد، التوحيد لله، والتوحد بين أبناء الأمة الإسلامية الراشدة. فالتوحيد هو الركيزة التي تتفرع على أساسها الفروع، بعد أن يتمّ الربط بين مجموعة من الأصول المعينة من قبل الشارع المقدس.

وما يعنينا هنا هو التوحُّد، أما التوحيد، فكل من قال: لا إله إلا الله، وشهد للنبي (ص) بالرسالة فهو مسلم موحِّد. أما الكثير من الأمور المنحلة عن تلك الشهادة الأساسية، فإن الأمة تفترق فيما بين آحادها بناءً على ما هي عليه من أسس وقواعد، لكن يبقى لكل مدرسة من المدارس، وكل مشرب ومذهب من المذاهب، ما يمكن أن يتكئ عليه، ولو أن النوايا طابت بين المذاهب على تفرقها، وأنها التزمت حدود الحوار البنّاء الهادف، لما وقع بينها ما نراه اليوم، وما كان في الماضي، وربما ما لا يمكن دفعه في الآتي من الأيام.

فالمجتمع التوحيدي هو الذي يعنينا، وهو مجتمع يستمدُّ من القرآن الكريم أسسه وقواعده المكوِّنة لكينونته، فما لم ينطلق المجتمع الإسلامي على أساس من القرآن الكريم في تأسيسه وتأصيله وتقعيده للقواعد العامة والخاصة، فلا يمكن أن نطلق عليه أنه مسلم، وإن كان في ضمن حدود الهوية، لكن المراد بالإسلام هو المطابقة بين القول والفعل مع ما تأسس.

والمجتمعات تختلف فيما بينها بناء على ما تمتلك من المقومات، فالمجتمع الحضري يختلف عن المجتمع البدوي في تكوينه الثقافي وقراءاته واستنطاقاته، بل في استحضار الشواهد واستجلاب القدوة. وكذا المجتمع الحضري أو المدني يختلف من موقع إلى موقع، ومن زمان إلى زمان، ومن توجه إلى توجه.

فالمجتمع وإن اتصف بصفة المدنية، لكنه إن لم يكن مستقيماً ولا مستقراً في الجانب الاقتصادي في تكوينه، فلا بد أن ينعكس سلباً على ثقافته وإن كان حضرياً. لذا كان التقسيم في يومٍ ما على أساس المدني والقروي، ووضعوا مجموعة من الفوارق بين أبناء المجتمع الحضري على أساس من الموقع، أي المدينة أو القرية، لأن مقومات العيش في المدينة تختلف عنها في القرية، خصوصاً في القرون السالفة، أما اليوم فتكاد الفوارق تتلاشى وتنعدم، بل إن بعض القرى، لحيثية أو أخرى، قد تتقدم على بعض المدن في بعض المناطق الأخرى، ويتهيأ لها من أسباب العيش والتقدم الحضري أكثر مما هو عليه في المدينة نفسها.

لقد تضمن القرآن الكريم كليات الأحكام الشرعية، لذا انطلقت دعوة مع بدايات القرن العشرين الميلادي، تدعو الأمة ـ لا سيما معاهد العلم والتنوير ـ للرجوع إلى القرآن من جديد، وما يطرح اليوم، ما هو إلا استرجاع ما كان مطروحاً، وليس ابتكاراً واستحداثاً لأمر جديد. فبقدر ما يكون القرآن الكريم مقدَّراً في وسط الأمة، بقدر ما تتقدَّم، وبقدر ما لا يكون في الموضع الذي يشغله، بقدر ما تتخلف الأمة وتتقهقر. لأن القرآن الكريم هو المتفق عليه بين عامة المسلمين مع تشعُّب طرقهم، وتعدد مذاهبهم، لكن السنة المطهرة، بما أنها الرافد الأساسي والمبين لما جاء في أصول القرآن وتأسيساته، فإن جماعة من المسلمين تختلف عن جماعة أخرى بناءً على المباني التي أسسوا عليها حيثية التعامل مع النص الصادر عن النبي الأعظم محمد (ص).

التوحيد أساس العقيدة:

لذا فإننا أمام منظومتين، كان لهما من العناية على نحو المساواة في عهد النبوة في الحقبة الثانية من حركة النبي (ص) وإن كان الاتكاء على المنظومة الأولى أكثر في الحقبة الأولى من حركة النبي (ص) في بداية البعثة.

وأعني بالمنظومة الأولى المنظومة العقدية، بجميع حيثياتها الكلية والأساسية، وهو ما مارسه النبي الأعظم محمد (ص) في مكة، وإن لم يرفع اليد عنه في المدينة المنورة، ولكن الجهود التي بذلها النبي (ص) كانت في مكة المكرمة. فمن أراد أن ينشئ مشروعاً ما، فلا شك أنه يبدأ بتأسيس القواعد على الأرض، ثم يكون البناء اعتماداً على الأساس.

فالنبي (ص) أمضى معظم فترة الرسالة في تثبيت منظومة القواعد العقدية في ذهنية المسلم، الذي كانت ذهنيته قد تشكلت في العهد الجاهلي على أساس رفض الإله الواحد، ومنشأ الرفض المذكور عوامل كثيرة، فالذين درسوا ما اعترى الإنسان عبر مسيرته _ وهو ما يعبر عنه بفلسفة الحضارة منذ اليوم حتى الأيام المتأخرة من عصر النهضة _ يضعون يدهم على هذا الجانب، وهو السؤال عن رفض الإنسان الاجتماع على أمر واحد بشكل عام، والنزوع نحو التكثُّر، فهنالك رغبات ونزوات ومصالح ومكاسب كثيرة في ذهن الإنسان. فلسان حال هؤلاء يقول: نحن مع التوحيد ما دام يصبُّ في صالحنا، أما إذا اصطدمت منظومة التوحيد مع ما هو مؤمَّل، فهناك حساب آخر.

فكانت الآلهة لدى العرب في الجاهلية كثيرة، وليس هذا بدعاً بين القوميات من حولهم، فعندما نقرأ الفكر اليوناني نجد أن أكثر منظومة آلهة في التاريخ كانت في المدرسة اليونانية، فهناك آلهة الحب والمطر والهواء والنار والجحيم وغيرها. وكذا في بلاد فارس، وهي واحدة من الحضارات الكبيرة جداً، والتي لا تقل شأناً عن الحضارة الرومانية، إذ كانت الآلهة متعددة، بل كان الملوك عبارة عن آلهة، حتى أن الآلهة التي أطلقت أسماؤها على الشهور الإيرانية إنما هي أسماء ملوك مؤلَّهة، كانت تُعبد، إما على نحو الاستقلال أو الواسطة.

وكان الكلام عين الكلام في الجزيرة العربية من حيث تعدد الآلهة، فكانت اللات لجماعة، وهبل لأخرى، وهكذا.

وخلاصة الأمر أن هنالك فكراً يكاد يسود المنطق الإنساني، خلاصته أن الآلهة لا بد أن تتكثر في ذلك الزمن. إلا أن النبي (ص) جاء بكلمة التوحيد، وهو امتداد طبيعي لحركة الأنبياء والرسل. فمسار الرغبة في تكثُّر الآلهة كان يسير إلى جانبه مسار النبوة والتوحيد. وحيث إن الأنبياء لا يستخدمون القوة في إخضاع الطرف الآخر في القبول والرفض، إلا إذا ما فرض عليهم ذلك، كانت مساحاتهم بطبيعة الحال محدودة. فكان من ركب السفينة مع نبي الله نوح (ع) لم يتجاوز في أكثر التقديرات ستين فرداً، وهم الذين ركبوا معه لينجوا بذواتهم ودينهم. حتى أن أقرب القرابة لم تكن لديها القناعة الكافية، وهذا ما تجلى في ولده الذي قال: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ([3]).

وكذا الحال مع النبي إبراهيم (ع) عندما أراد النمرود أن يقذفه في النار، حيث كان الجميع يتفرج على أبي الأنبياء وهو يقذف. والكلام الكلام في النبي عيسى (ع) حتى يصل الدور بنا إلى سيرة النبي الأعظم محمد (ص) حيث بدأ أولاً بوضع أساس التوحيد بأقصر الكلمات وأكثرها دلالةً: «قُوْلوا: لا إله إلا الله تُفْلِحوا»([4]). لكن ردة الفعل ممن حوله كانت عنيفة، بدليل أن أقرب الناس للنبي (ص) وهو عمه، كان من أشد الناس عليه، إذ كانت فكرة تعدد الآلهة، وتضارب المصالح قد حركته أن يرفع حجراً ليضرب النبي (ص) فنزلت سورة من القرآن لتهدِّئ من روعه.

فرسالة النبي (ص) كان فيها تجسيد واقعي للرحمانية والرحيمية الإلهية، فكان يستغفر لأمته باستمرار، ويدعوهم إلى الخير، فلا يرغبون لأنفسهم إلا طريق الشر.

وكان أحد من يصنَّف على أنه دخل في الإسلام مبكراً، وذلك عندما سمع آيات القرآن الكريم تُتلى، فرقّ قلبه بادئ بدء، يذكر التاريخ أنه رجع خطوات إلى الوراء، فخرجت له أخته فقالت له: هلا قلت: لا إله الله؟ فرفع يده ولطمها على وجهها. وقد ولدت تلك اللطمة لطمات، كانت أقساها تلك التي كانت على خدّ الزهراء (ع).

منظومة الأحكام والتقليد:

هذا عن المنظومة الأولى، أما المنظومة الثانية المهمة، فهي منظومة الأحكام الشرعية بجميع تفريعاتها.

أيها الأحبة: يفترض بنا أمام الأحكام الشرعية أن نتحرك على أساس التسليم والقبول، فعندما نأخذ الحكم من مرجع التقليد، فلا يظننَّ أحدٌ أننا أمام صيدلية لكي ننتقي ما نشاء. فكما أن علينا أن نسلِّم بأنّ المأخوذ من الحكم الشرعي إنما كان بناءً على الأمارات المؤمِّنة للتكليف الشرعي بالرجوع لزيد من الناس، كذلك لا بد من التسليم والانقياد للأحكام المأخوذة من هذا الطريق. وإلا فلا معنى للتقليد دون تسليم وانقياد.

وقد يقول قائل: إذن هل نُلغي عقولنا؟ الجواب: كلا، ليس الأمر كذلك، لكن العقل في طور تكاملي، فإن أردت الانطلاق من العقل، والانفراد في تعرف الحكم الشرعي، فما عليك إلا أن تؤسس القواعد التي تصل من خلالها إلى مقام من له القول في الحكم الشرعي. عندئذٍ يمكنك الاعتماد على العقل، بل يحرم عليك في مثل هذه الحالة الرجوع إلى الغير.

فلا محذور أن تكون مجتهداً تعمل برأيك، وهذا مقام سامٍ رفيع، أما أن يكون الفرد لا يدرك ألف باء الفقاهة، ثم لا يُذعن لقول المرجع ولا يسلّم، بل يرى الأحكام كما يشاء، فهذا خلاف العقل والعلم، لأنه لم يستند في استنتاجاته ورؤيته للأحكام لا إلى آية ولا رواية ولا عقل ولا غير ذلك.

إنك قد تلتقي أحياناً في بعض المجالس والاستراحات والدعوات بمن يسأل رجل الدين عن مسألة شرعية، فما يلبث الآخرون أن يطرحوا أكثر من جواب، قبل أن يلتقط المسؤول أنفاسه ويجمع أفكاره.

وعندما تسأل هؤلاء: لماذا يطرح أكثر من جواب؟ الجواب: أن هؤلاء لو كانوا ينطلقون بتلك الأجوبة من الرسالة العملية أو استفتاء المرجع لكان الجواب واحداً لا متعدداً.

منافع الحج:

ومن بين ما جاء به القرآن الكريم من التفريعات فريضة الحج. ومشكلة الأمة مع الحج مذ شُرِّع إلى يومنا هذا أنه لم يأخذ مساحته الكافية في وسط الأمة، فهو عبارة عن جامعة مغلقة، والجامعة إذا أغلقت أبوابها لا يكون النتاج إلا هباءً منثوراً.

يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَذِّنْ فِيْ النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوْكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ ~ لِيَشْهَدُوْا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوْا اسْمَ اللهِ فِيْ أَيَّامٍ مَعْدُوْدَاتٍ([5]). فما هي المنافع التي نكتسبها من وراء الحج كما تقرره هذه الآيات من سورة الحج؟

إن الأمة منذ أربعة عشر قرناً من الزمن لم تعِ فقه هذه الآيات، والله يعلم كم نحتاج من الزمن القادم لذلك؟

إن فوائد الحج كثيرة، إلا ننا لم ندركها كما أراد الله تعالى، لا على المستوى الشخصي، ولا على المستوى العام. فما هي تلك المنافع يا ترى؟

لا شك أن أصحاب رؤوس الأموال، منافعهم معروفة واضحة، لأن أكبر مصادر الرزق للسياحة الدينية في العالم إنما يكون في المشاعر المقدسة. ولكن ما الذي تكسبه الأمة من هذا المؤتمر العالمي الذي أسس له النبي الأعظم (ص) قبل أربعة عشر قرناً من الزمن؟

من تلك المنافع التي يفترض أن تُكتسب:

1 ـ التعارف بين أبناء الأمة الإسلامية. والقرآن الكريم صريح في ذلك حيث يقول: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا([6]). فهل نرى اليوم أو قبل اليوم تعارفاً بين أبناء الأمة؟ ليس هذا فحسب، بل إنك لا تستطيع أن تهيئ أسباب التعارف.

2 ـ اتحاد كلمة المسلمين تحت مظلة كلمة التوحيد. إلا أننا نرى أن المسلم يطوف حول الكعبة، ويردِّد كلمة التوحيد، لكنه يكفِّر المسلم الآخر، وهذا يكفره أيضاً، أو يعدّه مشركاً. فهل هذه من منافع الحج؟  

3 ـ التعاون بين أبناء الأمة الإسلامية على أساسٍ من حقيقة التوحيد. فأي تعاونٍ ترون في هذا المجال؟ إني أخشى أن نكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيْعَاً وَقُلُوْبُهُمْ شَتَّى([7]).   

4 ـ رفع المشاكل العالقة بين أبناء الأمة الواحدة، وما أكثر المشاكل العالقة! هنا سيارة مفخخة، وهنالك تفجير، وههنا حزام ناسف، ومؤامرة في غير موقع، وهجوم على دولة إسلامية في موقع آخر.

فمن سخريات الزمن أن يُخطف رئيس وزراء في دولة إسلامية([8]). فهذا ديمقراطي بزعمهم، وقد جيء به بعد إزالة الدكتاتور، فما عدا مما بدا؟.

وهناك الكثير من المشاكل العالقة، منها ما يكون في داخل الأسرة، بين الزوج وزوجته، أو بين الرجل وأبنائه، أو بين الإخوان أنفسهم، أو بين طلبة العلم، أو قادة المجتمع، وهكذا.

5 ـ وضع أسس التعاون الإيجابي، وهذا أمر مهم لو كان يحصل.

6 ـ المزج بين المجتمعات من أجل خلق كيان أمة راشدة. فلا معنى للإقصاء المجتمعي على أساس الشمال والجنوب، أو على أساس النامي والمتقدم، أو على أساسٍ مذهبي، فهذا سني وذاك شيعي، أو على أساس ديني، فهذا مسلم وذاك مسيحي، أو على أساس قومي، فهذا عربي وذاك فارسي وذاك هندي وغير ذلك.

إن هذا الموقف السائد اليوم يرفضه سيل من الروايات في السنة المطهرة، مما يلغي جانب اللون واللسان وغيرها، لا سيما في مشروع الحج، وصرنا لا نسمع الروايات التي تنص على عدم الفرق بين العربي والأعجمي ولا الأبيض والأسود إلا مدة يسيرة في الحج، ثم تتبخر وينتهي كل شيء، فلا واقع لها على الأرض إطلاقاً.

ولهذا المزج أبعاد كثيرة: منها البعد الديني، بأن يحصل امتزاج فيما بيننا في الدين، فهناك قواسم مشتركة تجمعنا، فلماذا نصرُّ على نقاط الافتراق؟ إلهنا واحد، وكلنا يشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله، شيعة وسنة، وكذا قبلتنا واحدة وكتابنا واحد.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الداء اليوم تعدّى مرحلة الشيعة والسنة، فأصبح يسري بين أتباع المذهب الواحد، ودونكم التاريخ، وانظروا الحاضر أيضاً، هل تجدون أن السني وحده يقتل الشيعي، أو الشيعي يقتل السني؟ أو أن السني يقتل السني وبالعكس؟ إن من يُقتل من السنة اليوم يصل إلى أرقام مخيفة ومذهلة ومربكة، وهو أكثر مما يقتل من الشيعة، لأن القاتل لا ينطبق عليه عنوان التشيع ولا التسنن كما هو الواقع، فلو كان سنياً واقعياً لردعه إسلامه، ولو كان شيعياً واقعياً لردعه إسلامه أيضاً، ولكن لا هذا ولا ذاك، إنما هم جميعاً أبناء الاستعمار، وجحفلٌ من المتخلفين يعبثون بأوراق الأمة.

7 ـ المنافع العلمية: إننا يمكن أن نجتمع على طلب العلم، كما نجتمع في الواقع على طلب العلوم المدنية، فنحن نرى أن أبناءنا يدرسون في المدارس والجامعات ويصلون إلى ما يصلون إليه، إلا أننا في الوقت الذي نجتمع على طلب العلوم المدنية، نفترق في طلب العلوم الدينية، وسوف يأتي يومٌ لا نجتمع فيه على العلوم الدينية حتى في داخل المذهب الواحد، وهذا ليس ببعيد.

أما في المجالات الاقتصادية فحدّث ولا حرج، لأننا أصبحنا من مصاديق النص القائل: «عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو»([9])، فإذا دخل عليهم الغني انبسطت أساريرهم، وأقبلوا عليه بكل مشاعرهم، وكأنه الأقرب إلى الله تعالى، أما الفقير المعدوم فلا. وهذا ما نشاهده حتى في المؤتمرات، فعندما يحضر أحد رؤساء الدول الكبيرة ذات الأهمية الاقتصادية تجد أن الاهتمام به مختلف عن غيره من سائر الرؤساء.

وأما سياسياً، فإننا نرى أن أمةً من مليار ونصف المليار مسلم، يلعب بمقدراتها كيان من ثلاثة ملايين! أليس هذا مما يثير العجب؟

وأما عسكرياً فإن اليهود لا بد أن ينتظروا الإمام علياً (ع) ليُبعث من جديد! وإلا فعليهم أن يناموا قريري العيون، أو أن يخرج من بين أبناء الأمة من يعيش حقيقة علي (ع)، أما ما نراه من الإذعان للمصالح وغيرها فلن يجدي نفعاً.

عوائق مشروع الحج:

وأما عن عوائق هذا المشروع فهي كثيرة، أهمها:

1 ـ أن إبليس لعنه الله حصل على مساحة في وسط الأمة، فراح يعبث بأوراقها. فالشيطان زين لنا الكثير من الأعمال الفاسدة، قال تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ([10])، وقال عز من قائل: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ([11]).  

2 ـ الاستكبار العالمي وما يفعله قديماً وحديثاً.

3 ـ تبعية بعض الأنظمة الإسلامية لمواقع القرار الدولي وغياب الهوية.

4 ـ غياب دور العلماء الرساليين في وسط الأمة.

كل ذلك وغيره جعل من مشروع الحج يراوح مكانه دون تقدم، رغم أن الحج مساحة لانتصار الإنسان على الشيطان، فنحن جميعاً نطوف حول الكعبة، وهي بيت الله الحرام، وينبغي أن تَنفذ جميع مسارات الطواف في أيِّ مكان وموقع من حياتنا.

المرجعية وحرمة التعرض لرموز المسلمين:

كنت قبل أيام قد ناشدتُ المرجعية أن لا تقف موقف المتفرج على ما يجري، لأن الأمور قد تصل إلى مرحلة لا نستطيع الإمساك بخيوطها، فما كان من البعض إلا أن امتعض من ذلك، بدعوى أن الكلام كان شديداً قاسياً، ولكننا عندما نطالب بما نراه حقاً لنا، ونحن بحاجة إليه، فهذا ليس أمراً مرفوضاً، ولا كلاماً قاسياً.

ونحمده تعالى أن المرجعية الدينية لم يفتها هذا الأمر، ولم تقف موقف المتفرج، ولا أقول إن ذلك كان صدىً للخطبة التي ألقيتها، إنما هو أمر تدركه المرجعية بشكل واضح.

ففي ذكرى شهادة الإمام الجواد (ع) خرج موكب في الأعظمية، وهي من أشد المناطق تشدداً، وردد شعارات سبِّ الخليفة الثاني وأم المؤمنين عائشة بالأسماء، فهل هذا من الدين؟

إننا لم نكن نطالب سابقاً بأكثر من فتوى تضع حداً للانحدار، كي لا تصل الأمور إلى هذا الحد، فهؤلاء يسبون في الأعظمية، وهناك العشرات ممن يقتل في الوقت نفسه رداً على ذلك. فمن هو المسؤول عن هذه الدماء؟ وإن كانت حجة البعض أن المرجعية لم تبدِ رأيها في الموضوع صراحة، فها هي اليوم تبدي نظرها بشكل واضح.

فقد استفتي سماحة السيد المرجع السيستاني (دام ظله) بما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد تردّد في مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لموكب في يوم استشهاد الإمام الجواد (ع) ويظهر فيه مجموعة من الناس في منطقة الأعظمية، يهتفون بسب عمر وعائشة وغيرهما، فهل هذا العمل مدان من قبل المرجعية الدينية العليا؟ وخصوصاً أنه يتعلق بسب الرموز الدينية لإخواننا السنة، وهذا بدوره يمكن أن يُشعل فتيل فتنة عمياء بين أبناء الشعب العراقي، والسلام.

وقبل الإجابة لديّ مؤاخذة على الاستفتاء أنه ذكر الشعب العراقي فقط، في حين أن الطاحونة تشمل الجميع، لا في العراق فحسب.

فأجاب سماحة السيد في الاستفتاء رقم 100644  في 2 / ذو الحجة / 1434 بما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا التصرف مُدان ومستنكر جداً، وعلى خلاف ما أمر به أئمة أهل البيت (ع) شيعتهم، والله الهادي.

هذا هو رأي المرجعية الدينية العليا، فلا مكان بعد لخطيبٍ يرتقي منبراً يقول من فوقه: علينا أن نعرض عقائدنا على ياسر الحبيب لتصحيحها! لنصبح في النهاية بين اثنين: أحدهما ينعتنا بالشرك، والآخر يطالبنا بتصحيح عقائدنا على ياسر الحبيب.

وفقنا الله وإياكم لكل، والحمد لله رب العالمين.