نص خطبة بعنوان: محطات وتحولات في تاريخ الرسالة (3)

نص خطبة بعنوان: محطات وتحولات في تاريخ الرسالة (3)

عدد الزوار: 425

2015-01-11

حاشا يقاس بأحمد إنسانُ        وكمثله لم يخلق الديانُ

فالله كمله بكل فضيلةٍ              لترى عجيب شؤونه الأذهانُ

حتى إذا ما قيل أحمد عندها     صلت عليه جوارحٌ ولسانُ

 

قال تعالى في الكتاب الحكيم، المنزل على قلب الحبيب المرسل محمد (ص): ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ([2]).

وقال جلت قدرته: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِليْكُمْ كِتَابَاً فِيْهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُوْنَ([3]).

وقال عز من قائل: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أوْلُو الألْبَابِ([4]).

ميلاد النور:

إن الحديث في شأن النبي (ص) له طرق متكثرة، منها ما هو نقلي، ومنها ما هو عقلي، ويأتي في الصدارة القرآن الكريم ناطقاً، ثم تليه السنة المطهرة المهذبة من الدخيل والموضوع، ثم كلمات العظماء التي تبين بعض الجوانب من معالم شخصيته، وإلا فإن التعرف على شخصية النبي الأعظم (ص) بكل خصائصها هي حالة مقفلة، إلا على من أُوكل إليه ذلك، وأعني من قال له النبي (ص): «وما عرفني إلا الله وأنت»([5])، وهو علي بن أبي طالب (ع).

موقع العقل في مسيرة الإنسان:

واستكمالاً لما تقدم الحديث فيه في الجمع السابقة حول العقل أقول: إن للعقل قيمة كبيرة، وإذا ما تعاطت الأمة المستنتجات العقلية ووضعتها في الميزان كما ينبغي، تفتحت أمامها الأبواب إلى الآفاق البعيدة، وإذا ما أرادت أن تتخلى عن هذا الدور، فعليها أن تجهز لنفسها نعشاً مبكراً، ومراسيم تشييع تتناسب مع ذلك.

والآيات القرآنية التي تصب في صالح العقل وترشد إليه وتبين وظائفه هي من الكثرة بمكان، وقد اكتفيت بتلكم الآيات الثلاث التي أوردتها في صدر الخطبة، ففيها كفاية وزيادة لمن يتعقل ويتدبر، بل لمن أراد لنفسه ـ على الأقل ـ أن يتعقل ويتدبر، حال أننا نعيش في فترة زمنية ومساحة لم تتأتَّ لمن تقدم علينا، إلا أننا ـ مع شديد الأسف ـ نبقى أسارى وضع معين، ورهينة وضعٍ أريد لنا أن لا نغادره.

فالقرآن الكريم يخاطبنا ليلاً ونهاراً قائلاً: ﴿قُلْ سِيْرُوْا فِي الأَرْضِ[6]، فالحث نحو السير حقيقة قرآنية رددها النبي الأعظم (ص) والمسلمون، ولكن شتان بين الأمرين، وإذا كان لنا في رسول الله الأسوة الحسنة فعلينا أن نتمثل دوره في التعامل مع النص القرآني، وأن نتعقل ـ إذا ما تعذر علينا ذلك ـ استنطاق النص القرآني من خلال السنة المطهرة، فهي خير معين ومرشد لنا لاستجلاء مكنون تلك الأسرار الرحمانية المودعة في النصوص القرآنية. وإذا ما تعذر علينا ذلك أيضاً، فعلينا أن نلوذ بمن أرشدتنا الشريعة لهم: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ([7]). وهم كثر بحمد الله تعالى، لا يخلو منهم موقع، ولا يفتقر زمان، وقد نذروا أنفسهم، أن يعطوا من أنفسهم ما يجب عليهم أن يعطوا، ولا زالت صفقتهم مبرمة موثقة مع الخلف الباقي من آل محمد (عج).

العقل والعبادة:

في الحديث عن النبي الأعظم (ص): «ما عُبد الله بمثل العقل»([8]). فالوجوه الساجدة لله، المستغرقة في العبادة حتى طلوع الفجر، إن لم يصاحبها عقل، فإنها لا تعدو الثواب الفردي الذي ينالها، ولكنَّ تفكُّر ساعة خيرٌ من عبادة سنة. فالعبادة في الكثير من الأحايين لا تتجاوز عمل الجوارح، وهي حالة تمرسنا عليها واعتدناها، فربما استوحشنا عند تركها، وقليل هم أولئك الذين يعيشون العبادة كما هي، وكما أريد لها أن تكون.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكنْ وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»([9]). فمن يصل مقامك يا علي؟ يا من قرأت القرآن بعقلك، وأبيت إلا أن تكون الأمة على نفس المسار، لكنها أبت ذلك، واختارت لنفسها الضد، فوقعت فيما وقعت فيه من المحاذير.

ويقول أمير المؤمنين (ع): «العقل رسول الحق»([10]). فالنبي (ص) رسول السماء إلى الأرض، والأولياء والأئمة الأطهار (ع) يُكملون مسيرته، وكذلك العلماء الأمناء في زمن الغيبة، إلا أننا لم نُترَك من هادٍ يسير معنا في جميع مواطننا، إلا وهو العقل.

فإذا كنا نلجأ إلى عقولنا في استكشاف الطريق من أجل حطام الدنيا وملذاتها، كما في امرأة نتزوجها، أو دار نسكنها، أو غير ذلك، فالحريُّ بنا أن نستخدم العقل فيما هو أهم، في البيت الخالد، والزوجة الدائمة، والذرية التي لا انقطاع لها، وهذا لا يتأتّى لنا إلا إذا استرشدنا الطريق من خلال عقولنا.

فالعقل رسول الحق، وعلينا أن نمنح هذه النعمة الكبيرة فرصتها لتؤدي دورها كما ينبغي.

أما صاحب المناسبة الإمام الصادق (ع) فيقول: «حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل»([11]). لذلك لم يخل زمان ولا مكان من نبي مرسل يقيم الحجة على العباد في هذه الأرض. ولكن العقل هو الحجة بين الله وبين العباد.

إننا نرى أن النبي الأعظم (ص) الذي عاشته الأمة لفترة من الزمن، خلف وراءه ميراثاً مقدساً من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكوكبة نيرة من الأوصياء، أولهم علي (ع) ثم السلالة الطاهرة التي تختم بالخلف الباقي من آل محمد (عج). أما النبي الآخر فهو العقل. فلا بد أن نحسن التعامل، ونهيئ الأسباب، ونحكّم العقل في جميع مفرداتنا في هذه الحياة، لا أن يتخلى أحدنا عن عقله ليسلمه للآخر ليفكر نيابة عنه.

إن الحال اليوم لم يعد كما كان عليه من قبل، فكما أن بمقدور زيد من الناس أن يفكر، كذلك بمقدور عمرو، والمفارقة تكمن في حيثية واحدة، هي أن هذا أراد لنفسه الانعتاق والآخر أبى إلا أن يوسم بالعبودية والرقّ في أسوأ حالاتهما.

أيها الأحبة: علينا أن نكون عتقاء من هذا الأسر والقيد الثقيل الذي أرهقنا وأتعبنا، وذهب بالكثير من مصالحنا أدراج الرياح.

وفي حديث آخر: «ما قسم اللهُ للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل»([12]).

فبعضنا يتباهى بأمواله، أو أبنائه المتفوقين، أو حضوره الاجتماعي، أو منصبه الرسمي أو الافتراضي، لكنه لا يفتخر بعقله، لا لشيء إلا لأنه يتحرك في أحد مسارين: إما أنه يملك عقلاً ليس له من الوعي نصيب، أو لأنه أسلم العقل لغيره، وهذه سالبة بانتفاء الموضوع، فلا عقل عنده ليتباهى به، صحيح أنه في ظاهره يحاول أن يلامس بعض المفردات، لكنه في حقيقته وجوهره لا يملك عقلاً، إنما هو (مجنون لم يعلن بصراحة عن جنونه) وهذا لا يستثنى فيه أحد، فحتى العالم في الظاهر ربما يكون مجنوناً هَوَسياً.

لذلك نقرأ في موروثنا، وفي بعض مستنتَجاتنا اليوم، بعض الفتاوى التي لا تصدر عن العقلاء مطلقاً، إنما عن المجانين. والشواهد على ذلك كثيرة، ومن الفريقين. فلم يكن شريح القاضي عاقلاً عندما أعطى المسوغ لقتلة الإمام الحسين (ع) وهو عالم وقاضٍ، والقضاء أعلى المناصب في الدولة الإسلامية.

ثم يقول الحديث الشريف: فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، لأن العاقل إذا نام وأخذ قسطاً من الراحة، وأصبح مبكراً، فإنه يجد حالة الإشراق تكتنفه من جميع جوانبه، فهو مرتاح، لكن الجاهل الذي يسهر ليله مع مقولة تافهة هنا، أو أخرى هناك، ربما يستوقفه المشهد، وتستهويه العبائر، لكنه يبقى يعيش تيهاً وضلالاً، لأنه أسلم عقله للآخر.

إن الكلام كثير، لكن الحقيقة يصعب الوصول إليها، كما يصعب التصريح بها في الكثير من الأحايين.

ثم يقول (ص): «ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل» فلا يبعث الأنبياء إلى أممهم حتى يستكملوا الأربعين من أعمارهم، فلنأخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار.

العقل عبر التاريخ:

إن مدرسة العقل بين الأمس واليوم مدرسة واسعة، تقدمت بالبشرية عندما انعتقت من جميع القيود، بما فيها قيد الحاكم الذي يأبى لنفسه إلا أن يسوق العقول حيث أراد، وفيما يحقق له المصلحة. أو قيد المجتمع الجاهل بحقائق الأمور وما وراء الجدُر. فكم دفع العلماء المتنورون، أصحاب العقول الناضجة حياتهم ثمناً لنظرية أو مقولة واحدة. وأحسب أن بعض الناس لو كان بمقدوره أن يصفي الحسابات، وإن بلغت ما بلغت، ولو إلى إزهاق الأرواح لأقدم عليه، لأن من يتفوه بالحرام يقع فيه، ومن يحدّث نفسه بالانتقام يسعى لتحقيق آلياته.

كان لمدرسة العقل في الماضي نتاج، عندما أراد الحاكم أن تتحرك وتنعتق، وعندما ترك المجتمع لها أيضاً مساحة أن تتحرك وتنعتق. ولما حصل العكس من ذلك دفعت الأثمان باهضةً، يقف في الطابور الأول منها الفلاسفة الإسلاميون الذين اتُّهموا بالإلحاد والردة، حتى قُدِّموا طعمة للسيف بعد أن نثرت أجسادهم السياط، والشواهد على ذلك كثيرة، ولو أردت أن أستعرض بعض الأسماء وأقف عندها، لاحتجت إلى الكثير من الوقت، وأسأل الله تعالى أن يعينني على وضع كتاب، أو حتى (كتيِّب) يلامس الحقائق في مثل هذه المفردات.

ومما يؤسف له أن الكثير من جوانب الحقيقة يُعمى علينا، ومن حقنا أن نسأل: لصالح من تعمى الحقائق؟ ومن الذي يقف وراء ذلك؟ ومن الذي تستدعيه المصالح؟ وإن كان معنوناً بعنوان الدين، فالضاغط ليس بالضرورة أن يكون سياسياً كما يتصور الكثير، بل ربما يكون العامل الديني، والأسوأ أن يكون عامل المجتمع الجاهل المستفرغ من جميع حيثياته، وهو غيركم أيها المخاطبون.

الاتجاه الاعتزالي:

كان الحديث في ما مضى حول جانب الاتجاه العقلي عموماً، وها نحن نحط الرحال في رحاب جماعة الاعتزال في المعتقد. فقد ترنح الإسلاميون بين مسارين عندما أداروا ظهورهم لمدرسة الحق، مدرسة النبي الأعظم محمد (ص) وآله (ع): مدرسة الاعتزال، ومدرسة الأشاعرة. وما يعنيني هنا هو مدرسة الاعتزال، لأنها أرسلت العقل في غربلة الكثير مما كان يتصور أنه من الثوابت في المعتقد، وحورب فيها من حورب، ولا زال مسلك الاعتزال إلى يومنا هذا يحارب.

إن ذلك النتاج العقلي الثرّ لا يمكن أن نصفه بالصحة مطلقاً، إلا أنه حرك المياه الراكدة، وأثرى الساحة العلمية، وطرق أبواب العقول المغلقة، لذلك لم تبق مدرسة ولا مذهب من المذاهب، إلا واقترب من بعض قواعد تلك المدرسة.

ورب سائل يسأل: هل أعطت هذه المدرسة للمعتقد ما أريد له؟ أو أنها أسهمت في الحد من بيان الحقيقة؟

أيها الأحبة: إن شأن الاعتزال شأن غيره من المدارس، فقد كان للسلطة السياسية آنذاك دورها في التوجيه، فكم من الدماء أريقت من أتباع هذه المدرسة وممن ناوأهم أيضاً!

إن البعض يتصور أن ما نعيشه اليوم من أفعال (الإسلام الإرهابي) هو أقصى ما وصل إليه المنتَج، لكن الحقيقة أن العناوين تتجدد، لكن الذوات هي نفسها. فكلما رأيت اليوم جلاداً فدونك الماضي، تجد فيه أمثاله من الجلادين. وكذا إن بحثت عن خارجي في الماضي، تجد الكثير من أبناء الخوارج اليوم.

إن جماعة الاعتزال أسهمت في تحريك المياه الراكدة. وكان لمدرسة أهل البيت (ع) موقف، ولا أدّعي أن ثمة مزجاً بين المسارين، إنما هنالك مجاراة، فالجميل في مدرسة أهل البيت (ع) أنها لا تتنكر للجميل من أي طرف صدر، والحكمة عندهم ضالة المؤمن كما يقول الإمام علي (ع). أما نحن فنأبى إلا أن تكون الحكمة منا وإلينا، فنحن نريد أن نستخرج المواد الأولية، ونصنعها بأيدينا ثم نرتديها. وليس بالضرورة أن يكون ذلك.

الاتجاه المنطقي:

ثم تأتي جماعة المنطق، الذين طوردوا بمقولة: من تمنطق فقد تزندق. فقد نقلت الترجمة في زمن العباسيين أصول المعرفة من اليونانيين إلى الإسلاميين، وكان في صدارتها المنطق الإرسطي. في نسبه وكلياته الخمس، وقضاياه المعروفة وعكوسها، وقد أثرت هذه في النتاج الفكري للإسلاميين. وقد حارب أصحاب المدرسة النقلية هذا المسار أشد المحاربة، فصار من يستظهر بعض القواعد المنطقية يخفي نفسه مخافة أن يُستأصل، لأنه (زنديق). ولو أننا أجرينا هذه القاعدة اليوم لما بقي من المسلمين إلا النزر اليسير ممن لا يحمل هوية الزندقة. فالجميع اليوم يفكر، ومن يفكر يستخدم المنطق بلا شك، سواء أخذه بالعلم والتعلم، أم بالطبع. فالإنسان منطقي بطبعه، وقد تعلمنا من أساتذتنا (رضوان الله على من مضى منهم وحفظ من بقي) أن أفضل التمارين التي تثبت القواعد المنطقية في ذهن طالب العلم، هي ممارسات الناس المنطقية في الخارج.

مدرسة العقل المعاصرة:

وهي النقلة الكبرى في هذا الزمان. وربما يقول البعض: علينا أن نغلق أبواب النقل، ونعطي العقل مساحته ليتحرك حيث يشاء، وهذا ليس صحيحاً بالطبع، فليست لدينا قضايا مرسلة، إنما هي مقننة، فللعقل مساحاته، ولكن ليس بالمطلق، كما أنه من غير الصحيح أن يلغى بالمطلق. فلا بد من موازنة ومراعاة الثوابت والقيم.

لقد تجمد الإسلاميون في مواقعهم لأكثر من أربعة أو خمسة قرون، وأسلموا الأمور للآخرين، لذلك تقدم غيرهم وتأخروا. وبتنا نتكل عليهم في أبسط الأمور، حتى في قرص (البانادول) الذي نتعاطاه لتخفيف آلامنا، إذ لم نقف بالكامل على حقيقتها دون مساعدة الآخرين.

قد يتصور البعض أن العطور المركبة كيميائياً اليوم، هي من مستحدثات الغرب، وكأن الفيلسوف الكندي لم يكن يوماً ما في أوساط المسلمين، ولم يكن منهم، فهو أول من وضع التركيب الكيميائي للعطور في القرن الثالث الهجري. أما اليوم فتجد أن أفضل العطور في العالم هي العطور الفرنسية، والحال أن السر الأول فيها هو الكندي. ولا تسأل كيف كانت عاقبة هذا الرجل، الذي كان إماماً في الفلك والكيمياء والفيزياء والطب وعلوم اللغة والمنطق والفلسفة!.

لقد حصل في الغرب حراك تنظيري واسع وقويّ، وكُبلت الكنيسة وعزلت وألغيت صلاحياتها، إلا من خلال ما تقوم به من ممارسات معروفة، كعقود الزواج، والتراتيل عند الجنائز، ومراسيم الفرح في الأعياد، والموقف عند حاجة السلطان، وليس أكثر من ذلك. فعلماء الكنسية ما عادوا كما كانوا يسيّرون الكثير. فأخذ الناس نصيبهم من التفكير، فتقدموا، وتقدمت الأمة من ورائهم، وصرنا نستجدي منهم أقل القليل، ونحن أصحاب الأصول في المعرفة.

وقد يقول قائل: ما هذه المبالغة في كوننا أصحاب الأصول والقواعد، والمؤسسين؟ أقول: والله لو كانت الأمور جرت كما أرادت السماء والنبي (ص) لها أن تكون، ووضعت الإمامة في يد علي (ع) لكان الحال مختلفاً جداً عما عليه الأمة اليوم، ولكنه سوء الاختيار والإكراه.

ولم يكتف الغرب بالحراك النظري، إنما نزل إلى الميدان وحرك مساحة التطبيق، وتجذرت النظريات، وأخذ العلم مساره، وراح العقل يسيس أموره في جميع الاتجاهات، حتى في اتجاه الحاكم.

فاليوم نرى في أمريكا ـ وهي أكبر دولة في العالم ـ أن الذي يسيِّسها هو منتج العقل، الذي ربما نقرأ القليل مما يرشد إليه، وما خفي أكثر من ذلك بكثير.

إن الكلام طويل ويحتاج إلى الكثير من البسط والوقفات، وما هذه إلا مقدمة في هذا المجال.

العقل أساس الدين:

إن العقل يهيئ لنا مساحة صافية للاقتراب من ديننا الحق الذي جاء به صاحب المناسبة النبي محمد (ص) ولم يبق لنا مما نرجع إليه سوى الدين، لأنه عصمة.

وأهمس هنا همسة من جديد فأقول: علينا أن لا نزايد على الآخرين في تدينهم، فإن كنت ولدت من أبوين مسلمين، فغيرك كذلك، فما هو امتيازك عنه؟ وإن كنت ولدت من أبوين علويين في المعتقد، فغيرك كذلك، ولا زيادة لك عليه. فلا تحسب أن ترداد الزيارة للمشاهد المقدسة يعطيك امتيازاً، ولا كثرة الصلاة والصيام والصدقة، فكثير من الأعمال نعملها في الدنيا، ونبحث عنها في الآخرة فلا نجد لها عينا ولا أثراً، حتى أن بعضهم يوم القيامة تدرج أعماله فلا يجد الصلاة فيها، فيسأل عنها، فيقال له: هي في ميزان فلان. لأننا نحطم صلاتنا بلقلقة ألسنتنا، وعدم التحري والدقة، وعدم الرغبة في الوقوف على الحقائق، فلماذا لا نواجه الحقيقة وأصحاب الحقيقة؟ فإن قيل لك: فلان قال: كذا، فإن السبل كثيرة في الوصول إليه.

إنني لم أنصب نفسي مدافعاً عن أحد، ولا أرغب أن أنسب لمثل هذه القضية، إنما أرى أنني للجميع، وعلينا أن نستوعب الجميع، وأن لا نصدر الأحكام العنيفة القاسية ونذهب بعيداً، بسبب الاختلاف على قضية أو استنتاج.

كثيراً ما يُنقل عني أنني كتبتُ كذا أو كذا، وأنا لا أكتب شيئاً، ولم أعوّد نفسي أن أكتب أو أرد على مثل تلك السفاسف، وأترفع عن الكثير مما يطرق سمعي بواسطة، وأتمنى على هؤلاء أن يحملوا كرامة لأنفسهم، وأن يستوضحوا، لا أن يتحركوا من وراء ستار الظلام كالخفافيش، فالجامع للجميع، والحسينيات للجميع، وقلوبنا للجميع، لن نغلقها على أحد، ومتى ما انحرف القائل في مقولته على منبرنا، قلنا له: قف. أما أن يقال: قال فلان أو فلان فهذا لا يعنينا، لأننا عندما نتحقق منها لا نجد له واقعاً.

تأتيني في بعض الأحيان رسائل ملفقة لنصوص لم أقلها، فلا يسعني إلا أن أضحك من ذلك، وأسأل نفسي متعجباً: هل صرت أكتب هذه الأيام وأرسل وأنا نائم مثلاً، ولا أدري ما كتبت وأرسلت؟!.

أيها الأحبة: إن مناسبة مولد النبي (ص) والإمام الصادق (ع) لا يكفي فيها أن نجتمع ونأكل الحلوى فقط، ثم نخرج من الحفل وليس في أذهاننا شيء من حقيقة المولد.

إنني أردد دائماً: أنتم يا أبناء المجتمع كبار، فلا تنساقوا وراء الإشاعات ومحاولات شقّ الصف.

أحد رجال الدين في هذا الصباح وصلتني رسالة منه، وليس عندي مشكلة أن أفصح عن اسمه. يقول: اجتمع كبار عائلة آل السلمان، (ليؤدِّبوا) السيد محمد رضا لأنه جاء بفلان إلا المسجد.  

ولا أدري أين اجتمعوا ؟ ومن هم؟ وهل أنا أصغر القوم في هذه العائلة؟

لهؤلاء أقول: إن عائلة السلمان أكبر من أن تقاد من خلال عقول معطلة، ففينا كبارنا وعلماؤنا ومقدسونا ومن نخضع لهم في كل صغيرة وكبيرة، ولن نسمح أن يتاجر أحد بأوراقنا أبداً. ففينا العم السيد طاهر، والعم السيد محمد علي، والعم السيد علي، والعم السيد حسين الياسين، وابن العم السيد عدنان الناصر. فنرجو من بعض الأصوات النشاز أن تعقل ألسنتها.

ومن تلك التقولات التي افترتها بعض الألسن، مقال تحت عنوان: في حفل النبي الأعظم (ص) السيد محمد رضا ينال من مقام المرجعية!. في حين أنني لم أتكلم ليلة أمس في الحفل أبداً، إنما قرأت بعض الأبيات الشعرية، والمزنية، وباركت للمؤمنين، ثم نزلت، فلم أتكلم لا عن المناسبة ولا عن غيرها.

ومن هنا ندرك حجم الكذب والافتراء، ولا تغرنكم العمامة مهما كبرت، فقد تُطوى طبقاتها أحياناً على المآثم، فكلما زيد في عدد طبقاتها زادت آثام لابسها.

ففي إحدى محاولات الاغتيال للسيد الإمام (قدس سره) كان أحد الأفراد المكلفين باغتياله يعتمر العمامة ويخفي فيها مسدساً!

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم الوفيق، والحمد لله رب العالمين.