نص خطبة بعنوان: محطات وتحولات في تاريخ الرسالة (1)

نص خطبة بعنوان: محطات وتحولات في تاريخ الرسالة (1)

عدد الزوار: 373

2014-12-28

محطات تاريخية:

هنالك محطات كثيرة توقف فيها المسلمون، وتنقلوا من جانب إلى جانب، واندرجوا تحت مجموعة من العناوين، قسم منها منتزع من واقع الحال، والآخر عناوين فرضت نفسها على المشهد، سواء من خلال مسار الخير والمحبة والسلام، أم من خلال مسار الظلم والجور والقمع والاستعباد، لكنها محطات لا يمكن لأحد أن يتجاوزها إذا ما أراد أن يرسم صورة كاملة عن واقع مرت به الأمة.

1 ـ فجر الدعوة:

فالمحطة الأولى: هي فجر الدعوة وما تلاها من خلافة النبي (ص) وفيها أيام كثيرة، منها الأيام الأولى التي عاشتها الأمة في ظل الرسول الأعظم محمد (ص)، وفيها كان الإسلام يشغل موقع الصدارة بكل معانيها، ولا غرابة في ذلك، حيث الوحي والعصمة والقبول الكبير. فهنالك رسالة من السماء تُختم بها جميع الرسالات، أي أن فيها الكمال المطلق.

وربما يقول قائل: إننا لا نجد ترشّحاً واضحاً على سائر المساحات من حولها. لكنّ عدم حصول ذلك لا يعني أن الرسالة لا تحمل في كينونتها الكمال، فهي كمال في كمال، لأنها صدرت من السماء، ولأنها تعني ـ فيما تعنيه ـ الوحي المؤمَّن من خلال الواسطة المعصومة، ألا وهو الأمين جبريل، ثم مستودع السر المؤطر بإطار العصمة حدوثاً وتكويناً، وهو النبي الأعظم محمد (ص).

كان النبي (ص) يتحرك في وسط الأمة من خلال المبادئ والقيم التي أراد أن يؤسس لها في ذوات المسلمين من حوله، ليتحول كل واحد منهم إلى محمد يتنقل في أكثر من مكان.

وكانت الاستجابة خجولةً، لكنها سرعان ما اتسعت رقعتها، حتى وصلت إلى مرحلة الدخول في دين الله أفواجاً، أي الانتقال من دائرة الآحادية، والتسلل تحت جنح الليل خوفاً، إلى حالة من الدخول خارج حدود الحصر للأفراد، وهذه النقلة النوعية ما كانت لتتم، لولا أن المسلمين وجدوا في سيدهم الأعظم (ص) الصدق والوضوح والعيش في وسط الأمة كما تريد أن يعيش الرمز فيها. لذلك كان كأحدهم، وعلى ذلك أطبقت كلمات جميع المؤرخين منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، سواء ممن شاركنا الدين، أم لم يشاركنا.

فهنالك قبول كبير ـ ولا غرابة في ذلك ـ حتى في حياتنا اليومية، ولكن عندما يمارس الإنسان الوعظ من خلال الكلمة المقولة بعيداً عن دائرة الفعل والتطبيق، فإن القبول يكون محدوداً ـ في أحسن التقادير ـ أما إذا حصلت المطابقة بين القول والفعل فسرعان ما يسري النهج كالنار في الهشيم سعة وانتشاراً.

ومرت الأيام بعد الأيام، وانتقل الرسول (ص) إلى مثواه الأخير، ووقف بين يدي الله تعالى وهو يحمل ملف رسالة طبقها بنفسه، ثم خلّف عليها أميناً، لكن الأمة أبت إلا أن تدير له ظهرها، وتخلع عباءتها، لترتدي عباءة أخرى لم يؤصَّل لها من الله، ولم تكن مرضية له. ولو كان الأمر قد تم كما أرادت له السماء، وكما دعا له النبي (ص) بقوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» لكان حال الأمة أحسن بكثير مما كانت عليه في ذلك الوقت وفي وقتنا هذا.

إنه انقلاب في الموازين، وتحول في الرؤى، وبوصلة تنحرف عن اتجاهها. هذا مختصر ما حصل بعد الرسول الأعظم (ص) بلغة أدبية بعيدة عن الاقتراب من المسميات والعناوين.

2 ـ مرحلة الحكم الأموي:

المحطة الثانية: هي مرحلة الأمويين التي جاءت بعد فصل من الزمن، كانت آخر مفرداته حكومة الحسن بن علي (ع) ولا أقول: خلافته أو إمامته، لأنها محسومة من السماء، وليس لنا أن نقدم أو نؤخر فيها، أو ندرجها تحت طائلة القبول أو اللاقبول، فهي فرض مقدس من السماء، لا بد أن نعتقده ونعتنقه. إنما أعني الحكومة التي امتدت لأشهر معدودة، ثم قلبت الطاولة رأساً على عقب، ووصل الأمويون إلى مبتغاهم. وفي هذه المحطة حقبتان مهمتان:

أ ـ الدولة السفيانية:

أيها الأحبة: لم يكن أبو سفيان، المؤسس الأول للدولة الأموية، رجلاً بسيطاً سهلاً، كما قد يتصور البعض، إنما كان على درجة عالية من التدبير.

واسمحوا لي أيها الإخوة أن أشير إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يحاكمنا على العبائر والمفردات، فأنا أقرأ الشخصية وأقدمها كما هي، أما ما يُسجَّل عليها من سيئات وسلبيات، فلا أظن أن أحداً يمكنه أن يزايد على ما أعرفه عن هؤلاء وما أعتقده، لا عن ابن تيمية ولا عن غيره، فأنا أعرف الذوات، وأعرف كيف أضع النقاط على الحروف.

أقول: إن أبا سفيان قرأ المحطة الأولى، وظن أن الحسم العسكري ربما يكون لقريش على حساب محمد (ص) وعندئذٍ يكون هو الرجل الأول في جزيرة العرب، ولكن لما قطف سيف علي (ع) رؤوس عتاة قريش ـ ولم يكن أبو سفيان بمنأىً عن ذلك، إنما كان قاب قوسين أو أدنى ـ دخل أبو سفيان في الإسلام، لا من بوابة الحب والرغبة، إنما هو الإذعان والتسليم للأمر الواقع.

لذا فإن مقولة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، عليها ما عليها من الملاحظات، ناهيك عن الطريق الذي وصلت إلينا من خلاله.

فالرجل خطط بدهاء، مع صبر وأناة، أن يقلب الأوضاع على علي (ع) في مظهر المحب له، والمريد لمصلحته، خارج دائرة الدين.

فعندما حيزت الأمور لفلان، جاء إلى باب علي (ع) ترتعد فرائصه، فسأله عما وراءه
ـ وهو العالم الواقف على دقائق خصائص الرجال ـ فقال: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟ والله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجالاً. فقال علي (ع): يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله، فلم تضره بذاك شيئاً([3]).

فأعطى ظهره إلى علي (ع) ثم ولى مدبراً وهو يردد الأبيات المعروفة:

ولن يقيم على خسف يراد به   إلا الأذلان عير الحي والوتدُ

هذا على الخسف معكوسٌ برمته   وذا يشجُّ فلا يبكي له أحدُ

 وهذا ما يكشف عن حقيقة الرجل، وما كانت تنطوي عليه سريرته، إذ أراد أن يضرب الرأس بالرأس، فإما أن يتمكن الطرف الأول من الانتصار على علي (ع) وحذفه من عالم الوجود، أو أن ينتصر علي على من قدمته الأمة على أساس الانقلاب على الثابت المؤصَّل من الله، فعلي (ع) منصَّب من الله تعالى، بتعيين وإبراز من النبي (ص) في الغدير.

وحاصل الأمر أن هنالك إسلاماً يؤصل له من جديد، خارج ما أصله النبي (ص) في المدينة المنورة، فتكون جُلّق الشام هي المركز الأساسي للدولة الإسلامية. وقد اختيرت على حساب مكة والمدينة، مهبط الوحي ومحلّ هجرة النبي (ص) ومثواه، وقراءة ذلك يحتاج المزيد من التأمل.

ثم لماذا ترك ملك الشام الكوفة، وهي عاصمة رابع الخلفاء على مسلك المدرسة العامة، والإمام الحق على مسلك المدرسة الخاصة؟ 

إنني لو أردت أن أبين بعض مداليل هذا الاختيار، لاحتجت إلى الكثير من الوقت. فالكلام طويل عريض في هذا الصدد.

وبالنتيجة أنه اختارها، وكان له ما كان، وحظي بما حظي، والتف حوله من التفّ، وتخلف من تخلّف، ودخل الناس في دائرة الإسلام الجديد أفواجاً من جديد! مع قلب الموازين، والتخلي عن الثوابت، والانحراف في البوصلة.

وجاءت معركة الطف لتكشف الأوراق، فكان هنالك إسلام أصيل، وإسلام أموي على حساب الإسلام الذي أصّلته السماء، وجسدته الذات المحمدية.

ثم نجد أن هنالك فئوية تولدت من خلال الإسلام الشخصي، فلا تكاد تقرأ نصاً إلا وتجد اسم الخليفة مدرجاً فيه، مما يعني (شخصنة الإسلام).

ثم تتسع الدائرة فئويةً وفقاً للمصالح العامة، لذلك قُرِّب من قُرِّب لا على أساس من التمايز النوعي، والتفرد ببعض الملكات الذاتية للأفراد، لا سيما الصحابة والقراء. بل الأكثر من ذلك أن من كان يحمل عنصر كمال من صحابة النبي (ص) تم استئصاله من قبل معاوية! ولمعاوية جنود منها العسل.

وعلى أساس تلك الفئوية تولّد مسارٌ جديد هو الانتهازية، المغطاة بغلافها الديني، فالخليفة آنذاك، الذي يمثل الواسطة بين الأرض والسماء هو معاوية! ثم يزيد بن معاوية! وكفى بهذين مثلاً على التغليف الديني.

وتحرك الفئويون وهم يرون لجميع تصرفاتهم غطاءً شرعياً يضفيه عليها (خليفة المسلمين).

ب ـ الدولة المروانية:

وما هي إلا أيام قلائل، وإذا بالانقلاب من الداخل على الداخل، متمثلاً بالمسار المرواني، ولم يكن المروانيون بسطاء، ولو كانوا كذلك لما اختصروا المسافة في الدولة السفيانية في معاوية ويزيد، إنما قرأوها قراءة دقيقة إلى أبعد الحدود.

وأنا أدعو بكل محبة وأخوّة فأقول: من يرغب أن يقرأ التاريخ عليه أن يقترب منه بحذر وعلم وتجرد، وأن يكون ناشداً للحقيقة التي لا يرسم معالمها قبل حدود البحث، إنما ينبغي أن يكون بعد انتهائه.

فالمروانيون قلبوا الصفحة على الأمويين (السفيانيين) قبل غيرهم، ثم بعد ذلك أطلقوا السلطة بما تحمل الكلمة من معنى، فباتت السجون مفتَّحة، وتحصيل لقمة العيش الكريم ممنوعاً، إلا لمن أعطى الولاء المطلق. فكانت (المرْوَنة) هي سيدة الموقف.

كما كانت هنالك فتوحات مغرية، أسس لها الأمويون السفيانيون بالدرجة الأولى، وأحسن استغلالها في المنفعة الخاصة المروانيون، فقد استطاعوا أن يستخلصوا النتائج ويستثمروها خارج دائرة التكلفة. فحطب الفتوحات ووقودها لم يكن من الشام، فهي لم تحرك جنوداً نحو الشرق للفتوحات، نعم، كان لهم تحرك في الغرب لهذا الغرض.

لقد كان الوقود من أبناء الجزيرة العربية، من مكة والمدينة واليمن، والسبب في ذلك أن هذه المناطق الثلاث كانت تحتضن بين جنباتها من رأى الرسول (ص) وعاش معه، وسمع منه، واستطاع أن يفقهه ويتعامل مع معطيات مدرسته. فكان ذلك سلاحاً ذا حدَّين، إذ استطاع الحاكم بالدرجة الأولى أن يتخلص من الخصوم في الداخل تحت شعار الجهاد في سبيل الله.

والأمر الثاني أن هذه الشريحة كانت أكثر حرصاً على العقيدة، لذلك عندما تقدموا في الثغور فتحوها وخضعت لهم الرقاب.

وقد طوي ملف المروانية بصورة مأساوية، لكنها كانت أقل بقليل مما يستحقون بسبب فعالهم، فللظالم يوم مهما امتدت به الأيام.

3 ـ العباسيون:

المحطة الثالثة: هي دولة بني العباس التي أُسست على أساس الانقلاب العسكري (في مصطلحنا اليوم) حيث أبو العباس السفاح، والمنصور الدوانيقي، ورجال من البصرة والكوفة، وحراك انتقامي، وحرب ضروس لم تدع الأخضر ولا اليابس. فكانت التصفيات بالجملة، وكان الانتقام ممنهجاً، إذ أمّروا الولاة الذين يصنفون الناس حسب انتماءاتهم، فلا العلوي نجا من مقصلتهم، ولا الأموي استطاع النجاة منهم.

لذا بقيت الدولة العباسية تعيش هاجساً مخيفاً مرعباً، تتوقع في كل لحظة أن تطوى صفحتها على يد أحد رجالات المدرستين. فوضعوا أسساً ومنهجاً لدولة جديدة.

وفي الوقت نفسه أعطت هذه الدولة الكثير، لكنها لم تعط من غير ثمن، وكان الثمن دماء المدرسة العلوية، والمنهج الفاطمي، فالمسار الأصيل هو الذي كان يدفع الضريبة بالدرجة الأولى. حتى كان العلوي يخرج من بيته مودعاً أهله، فإذا عاد استقبلوه كأنه قد أفرج عنه، حتى لقد شيدت المباني والمنائر على جثث العلويين.

أيها الأحبة: إننا لم ننهل من معين الولاء الصافي الطاهر عبر وسائط الآباء والأمهات وقد وصلنا بسلام، إنما وصلنا عابراً الكثير من نقاط التفتيش، ومحطات الاستئصال، لذلك نجد أن هذا المذهب يصفو ويترسخ يوماً بعد يوم، ولا خوف عليه أبداً، فلا يزيده الدم إلا رسوخاً، وهذه عقيدتنا التي لن نتخلى عنها، فللمهدي (عج) عينٌ تراقبنا وترعانا وتكلأنا تحت جميع الظروف، وفي جميع المساحات وفي كل الأزمنة.

لقد حصدت الدولة العباسية الكثير من الثمار، ووسعت الدولة، ووضعت حجر أساس طيب، وهو التأصيل للانفتاح العلمي والمعرفي والأدبي والفني، وتحركت في هذه المسارات الأربعة، وانخرط فيها من انخرط.

وأغلب من اندكّ في تلك المدارس هم من الذين يحسبون على رأس النظام العباسي، لذلك عندما تتصفح أوراق التراجم والتاريخ لمن عاشوا في تلك الفترة تجد أنهم يتحركون وفق مذهبية ممنهجة.

ولم تواجه بعض الفرق الإسلامية الشقيقة، من العنت والبؤس والحرج والاستئصال كما واجهت في الدولة العباسية، لأن تلك الدولة كانت أحادية المذهب.

ولما قضت على من أرادت أن تقضي عليه، وتصفية من أرادت تصفيته، عمدت إلى زعيم مذهبها فتخلصت منه بالطريقة المعلومة لديكم.

إن التاريخ مدرسة لمن يعي ويفقه ويريد أن يستفيد، فما من حركة أو فعل أو قول في التاريخ إلا وله قيمة كبرى. ونحن اليوم نصنع تاريخاً للمستقبل، وسوف تأتي أجيال تالية فتقرأ هذه الحقبة التي تعيشها الأمة، وهي حقبة تمثل أسوأ حال من حالات المسلمين، إذ لم يمرّ بالمسلمين وضع سيّئ كما هو عليه اليوم.

فالمظهر والمشهد واضح، والأرقام الفلكية حاضرة، لكن الجوهر والمعدن والأصالة والوعي يحتاج الكثير من الملاحظات.

الصراع الفكري في العصر العباسي:

إن المدارس التي تسبب في بروزها العباسيون دخلت في طاحونة نزاع شديد، بحيث صبغت مياه دجلة في أحد الأيام بدماء الناس. وبعد قرن من الزمان، كُتب لذلك النهر أن يغير لونه مرة أخرى، ولكن بما خطته محابر العلماء وأقلامهم، وذلك عند دخول التتر.

لذا فإن الأمة الإسلامية بمجملها وُلدت ولادة عسيرة، وليس الشيعة وحدهم، صحيح أنهم دفعوا القسم الأشد والأقسى والأصعب من الضريبة، ولا زالت الضريبة تدفع باستمرار دون انقطاع، لكن هذا لا يعني أن غيرنا لم يدفع ضريبة.

فبعضنا يتصور مثلاً أننا عندما نزور قبور الأئمة (ع) في البقيع، ويعترضنا من يصفنا بالشرك ـ ونحن في دولة الإسلام التي تعاملنا على أننا مسلمون، ولو لم تنظر إلينا بهذه النظرة لما جاز لها التعامل معنا بهذا الشكل ـ أنه يصفنا وحدنا بذلك، والحال أنه ينعت الجميع من أتباع المذاهب الأخرى بهذا الوصف، ولكن لأننا نعيش حالة المظلومية ونأبى أن نغادرها ونخرج من إطارها، نشعر أننا وحدنا المستهدفون. فمتى نخرج من دائرة الفئة المظلومة والمذهب المظلوم، إلى دائرة الفئة والمذهب الذي له قيمته وحضوره؟

فالمدارس الكبرى من العقلية والنقلية ومن تُزاوج بين العقل والنقل، والصوفية والجماعات الانتهازية، كلها كانت تتحرك وفق إطار معين من الدول القائمة.

فالمدرسة العقلية لها أنصارها، وكان المعتزلة يقفون على رأس القائمة، ثم الفلاسفة من المسلمين.

السيد عبد الله السلمان في ذمة الخلود:

قبل يومين انتقل إلى رحمة الله تعالى، وإلى رحاب آبائه وأجداده، سماحة السيد عبد الله السيد باقر العلي السلمان (رحمه الله).

وتحسب لهذا السيد العديد من الملفات التي نهض بها، وكللت جهوده بالنجاح في أكثرها، ومنها:

1 ـ الدروس الصيفية: وفي مقدمتها (بيت التقوى) الذي كانت تنتظره المبرز، وهي بمسيس الحاجة له، وله الآن العشرات من السنين، إذ كان السيد (رحمه الله) من المؤسسين والقائمين والداعمين له بلا حدود. وقد تخرج من هذا البيت أجيال عديدة، لهم اليوم اليد الطولى في تسيير الكثير من المظاهر الإيمانية في أوساطنا. وبطبيعة الحال أن حسناتهم لهم، وله أيضاً في ميزان حسناته الكثير.

فالذين تخرجوا من هذا البيت تباعاً، يصل عددهم إلى الآلاف، وليس المئات، ممن تعلموا فيه صلاتهم وعقائدهم وما إلى ذلك، كما تخرجت منهم فرق إنشادية وتمثيلية وحفاظ وغيرهم.

2 ـ الدراسة الليلية في الحوزة: فلم تكن الحوزة تفتح مساءً للمستفيدين، وكانت الرغبة شديدة لدى الذين تقاعدوا من أعمالهم، ولديهم فراغ وقدرات جسدية وعقلية تمكنّهم من مواصلة التحصيل العلمي. ففتح السيد هذا الملف وتبناه ورعاه بما كان لديه من قدرة واستطاعة.

وبعض الذين اندكّوا في هذا البرنامج الليلي هم اليوم ممن حضر بحوث الخارج لسنوات، وهم اليوم يعدُّون من الفضلاء، رغم أن البعض منهم لا يدعي المشيخة لنفسه، ويحفظ للعناوين قيمتها. وقسم كبير منهم اليوم من أهل الثقة وأئمة الجماعات وتسيير حلقات الإرشاد. ونسأل الله تعالى أن ينفع بهم.

3 ـ الحوزة النسائية: وكلكم يعلم أن ملف المرأة في المجتمع من أدق الملفات وأكثرها حساسية، ويزداد خطورة وحساسية عندما يقترب من المشهد رجل الدين، لأنها الحلقة الأضعف.

وقد نذر السيد المرحوم نفسه لهذا الملف، وقد تخرج من خلال هذا الملف كوكبة لا بأس بها من الأخوات، أصبحن من ذوات الفضل في التحصيل العلمي. مما يسدّ لنا ثغرة نحتاج إلى سدها، فإن المرأة كثيراً ما تحاول السؤال عن أحكامها فتقع موقع الحرج، لا سيما عندما كان السؤال بالمباشرة، لا كما هو عليه الحال اليوم من خلال وسائل الاتصال المتعددة.

فوجود المرأة في صفوف النساء وهي تحمل العلم الحوزوي، يجعلها تؤمّن مساحة مهمة في هذا المجال.

4 ـ الإدارة المالية والعملية في الحوزة: فهنالك إدارة تنظيرية في الحوزة، ترقب الوضع عن بعد أو قرب. ولكن المدير الفعلي الذي حمل على أكتافه أعباء تسيير شؤون الحوزة عملياً هو الفقيد السعيد.

نحن ـ مع شديد الأسف ـ تأخذنا العناوين بعيداً، في حين أننا الآن في فترة عمل.

وقد مرت الحوزة بمنعطفات، بعضها كان حادّاً جداً، فكان له الدور الكبير في نقل الحوزة من مربع إلى آخر، وفي كثير من الأحيان بقراءته الشخصية للواقع.

5 ـ رحلات الحج والعمرة: فقد تميزت الرحلات التي كان يسيرها ويسهم في تنظيمها بالنشاط في الجانب الفقهي، وكان له استحضار كبير ومذهل للمسائل الشرعية، بسبب الاحتكاك والتجربة، مع دقة واضحة. ويندر أن تجد في صفوف طلبة الحوزات العلمية من يستحضر المسائل بهذا الشكل. فربما تجد أن البعض يجيب في المجالس عن الأحكام الشرعية، ولكنه بعيد جداً عن قول الفقيه، أما السيد فكان دقيقاً في ذلك.

وقد أعجبني فيه أنه إن لم تحضره المسألة فلا يستعجل الجواب، إنما يبادر إلى دائرة التفتيش عنها ثم بيان الرأي.

ومن هنا فإنني أناشد رجال الدين الذين هم في دائرة الابتلاء، ومحل الامتحان والارتباط المباشر، أن يراعوا هذه الخصوصية. وليس في ذلك حرج، فقد كان الإمام الخوئي (رحمه الله) يفتح المنهاج ويجيب. وهكذا قسم من المراجع الذي نعيش في كنفهم اليوم، لا يجيبون عن المسألة في الفرع الفقهي، إنما يحيلون السائل إلى لجان الاختصاص، أو يفتح الرسالة العملية فيجيب.

ولكي نرتقي في إيماننا والتزامنا ينبغي أن لا نستغرب من رجل الدين عندما يقول: لا تحضرني المسألة، فهذا منتهى التدين والالتزام. والانحراف هو أن يجيب بما لا يعلم.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.