نص خطبة بعنوان :فاطمة بنت أسد قدوة المرأة المسلمة
عن سهل بن سعد قال: قدم رسول الله (ص) فإذا بأبي طلحة، فقام إليه فتلقاه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني لأرى السرور في وجهك، قال: «أتاني جبريل آنفاً، فقال: يا محمد، من صلى عليك واحدة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات»([2]).
ذكرى فاطمة بنت أسد:
ذُكرت فاطمة بنت أسد عند النبي الأعظم (ص) ذات يوم، وقد أخبره عليٌّ بوفاتها فقال: «أمي والله»، ثم بكى وقال: «وا أماه»([3]).
في مثل هذا اليوم، غابت عن الوجود شمس من شموس الحقيقة، هي أم النبوة والإمامة معاً. أما أم النبوة فصريح الكلام الآنف الذكر، الصادر من لسان سيد الأنبياء والرسل محمد (ص). وأما أم الإمامة، فكيف لا، وعلي وليدها؟
هذه السيدة الجليلة، على ما لها من مقام رفيع عند الله تعالى، وعند النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام، إلا أنها لم تحظَ بما يتناسب ومقامها الشامخ. ولا أدري لأي جهة تعزى الأسباب؟ هل لتاريخٍ تجنّى عليها، أم لتقصير من محب وليدها؟ أم ثمة شيء آخر يتموضع بين الفينة والأخرى هنا أو هناك، لكنها بالنتيجة على ما شرفت به، لم تأخذ نصيبها كما ينبغي.
أبرز مقومات شخصيتها:
إنها فاطمة بنت أسد الهاشمية، السيدة الجليلة التي امتازت بخصال، وحظيت بمقام خاص من قلب النبي محمد (ص) فهي تتحرك بشرف البيت الهاشمي الذي لا يجاريه شرفاً أي بيت على وجه الأرض. فهي سلالة نيرة يتقلبون فيها من رحم طاهر، وصلب شامخ، وصيٌّ عن نبي عن وليّ، حتى تستقر الأمور في آخر الشجرة وأصلها.
سلالة تم الاحتفاظ بها طاهرة نقية مصفاة ليخرج منها نبع الكوثر، حيث النبوة في محمد (ص) والإمامة في علي (ع).
والميزة الأخرى في هذه السيدة الجليلة أنها المرأة الثانية التي أعلنت إسلامها، وإلا فإنها لم تكفر بالله طرفة عين أبداً، وخير دليل على ذلك أنها المرأة المصطفاة لرجل هو الأكمل بعد شخص النبي محمد (ص). والدليل الثاني خطابها الذي لا ينصرف عن المعرفة الحقة عندما استقبلت البيت والكعبة في دعائها، حيث استعرضت من خلاله ثوابت العقيدة.
هذه الإنسانة العظيمة كانت الثانية التي أعلنت إسلامها في صفوف النساء، فما الذي تقدمه لنا؟
إنها تقدم الشيء الكثير، فالحق والباطل لا يمكن أن يجتمعا في ظرف واحد، فإما الحق، وهو أحق أن يتبع، وإما الباطل وللباطل مساحاته. لذلك بادرت في إعلان إسلامها، وهذه منقبة عظيمة.
فلنسأل أنفسنا: كم سمعنا بهذه الخاصية التي انفردت بها هذه السيدة الجليلة، بل الأكثر من ذلك أن بعض كتّاب التاريخ المشوه حاولوا أن يطمسوا هذه الخصيصة، لا لشيء سوى أنها تمثل الوعاء الطاهر لعلي (ع).
والأمر الثالث الذي ميز شخصيتها هو المعرفة المبكرة والحقيقية بحقيقة النبوة، وحقيقة الإمامة المتمثلة بشخصية وليدها علي (ع) فكانت تقول: إن الجنين الذي في بطني ما سمعت منه سوى التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد. وبطبيعة الحال يشدها هذا الأمر إلى عدة جوانب، ومآلها في النهاية إلى الأصل الذي بنت عليه ثم فرعت.
ومن ميزاتها وخصائصها أيضاً أنها تقدم لنا أوضح وأجلى وأنصع وأصدق دليل على إيمان زوجها أبي طالب، فلو لم يكن مسلماً، لوجب على النبي (ص) أن يفرق بينها وبين زوجها، كما حصل في الكثير من المواطن، فاحتفاظ أبي طالب بها إلى آخر لحظة من حياته دليل ساطع على أنه عين الإيمان وحقيقته وسره، وما حصل من تكفيره لم يكن إلا نكاية بولده علي. فهي تقدم لنا البرهان الواضح الجلي على إيمان زوجها.
وهناك خاصية أخرى لها وهي أنها مربية النبي محمد (ص) فنساء قريش كثر، ولكن لم تتلقف النبي (ص) إلا هذه الأيادي المباركة والحضن الطاهر، والصدر الأطهر. فقد اعتنت بالنبي (ص) حتى كان يقول: «ولقد كان لها من أبي طالب ولد كثير، ولقد كان خيرهم كثيراً، وكان خيرنا قليلاً، فكانت تشبعني وتجيعهم، وتكسوني وتعريهم وتدهنني وتشعثهم»([4]).
فكم كانت منزلتها عالية رفيعة سامية! حيث عنيت بالنبي (ص) كما تعتني كل أم بوليدها، حتى تحقق لها ما أرادت.
حضن الإمامة:
والميزة المهمة جداً فيها أنها الوعاء الطاهر للنور الأقدس الذي خُلق منه علي (ع). لأن علياً يعني الشيء الكثير، ولأنه صرف الحقيقة المطلقة، وهو من النبي كنفسه بصريح القرآن، فلا بد أن يشق له طريقاً في الامتياز منذ البدء وحتى النهاية. لذلك أبى علي إلا أن يضع قدمه الأولى في بيت من بيوت الله، ليختم آخر خطوة يخطوها على وجه الأرض في بيت من بيوت الله.
جاءت تلك السيدة الجليلة، وهي تحمل في جوفها علياً، ووقفت قبال الكعبة، والجنين يسبح في بطنها، ولا شك أنه يهديها الطريق، فأوصدت قريش الباب في وجهها وهي تحاول الدخول، فابتسمت لها الكعبة من الخلف ابتسامة لم يقرأ لها التاريخ مثيلاً إلى يومنا هذا، فدخلت في البيت لتحظى بالضيافة بين يدي الله تعالى، فكانت الضيف الخفيف لأيام ثلاثة، يأتيها طعامها وطعام وليدها من الجنة. يقول عبد الباقي العمري في ذلك:
أنت العلي الذي فوق العلا رُفعا ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
وأنت أنت الذي حطت له قدمٌ في موضع يده الرحمن قد وضعا
إنها حليفة الزهد والعبادة والصبر، فقد كان صبرها في شعب أبي طالب، وعبادتها وتبتلها، دلائل على عظمتها وأنها لم تعطِ للدنيا قيمةً وقدراً، حيث إن الحقيقة تتجسد أمامها حيثما رمت ببصرها. فتارةً تنظر إلى وليدٍ في حجرها، يُشرق النور السماوي في وجهه، ليضيء الكون من حوله. وإذا ما رمت بطرفها إلى أبعد من ذلك بقليل وجدت نوراً يتسلل إلى قلبها ويشرق من وجهها، ألا وهو نور النبي الأعظم محمد (ص).
ثم إنها قدوة المرأة المسلمة. فيا أيتها الأم الشريفة والأخت العفيفة والبنت التي تتطلع إلى مستقبل مشرق، دونك هذه المرأة في سيرتها وعلمها وصبرها وعبادتها وتضحيتها واقترابها وانصهارها وذوبانها في محمد وآل محمد (ص).
تجهيز النبي (ص) إياها:
وهنا يقف النبي (ص) ليرفع منها عَلَماً تهتدي به المرأة المؤمنة التي تريد لنفسها عيشة العزة والكرامة والشرف والسمو والرفعة. ويقدم منها نموذجاً رائعاً للمرأة المسلمة التي بنت نفسها من الداخل، واستطاعت أن تجعل من نفسها قدوة لمن أرادت أن تهتدي وتصل إلى منبع ذلك العسل المصفى. إنها أم النبوة والإمامة.
فعندما توفيت (ع) وقف (ص) ليجسد من خلال وقفته تلك ما كانت عليه هذه المرأة السيدة الجليلة.
فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنين (ع) وهو يبكي، فقال له رسول الله (ص): ما يبكيك؟ فقال: ماتت أمي فاطمة، فقال رسول الله: وأمي والله، وقام مسرعاً حتى دخل فنظر إليها وبكى، ثم أمر النساء أن يغسلنها، وقال (ص): إذا فرغتُنَّ فلا تُحدثن شيئاً حتى تعلمنني، فلما فرغن أعلمنه بذلك، فأعطاهن أحد قميصيه الذي يلي جسده، وأمرهن أن يكفِّنَّها فيه، وقال للمسلمين: إذا رأيتموني قد فعلت شيئاً لم أفعله قبل ذلك فسلوني: لم فعلته؟ فلما فرغن من غسلها وكفنها دخل (ص) فحمل جنازتها على عاتقه، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر، ثم انكبَّ عليها طويلاً يناجيها ويقول لها: ابنك ابنك، ثم خرج وسوّى عليها، ثم انكبّ على قبرها فسمعوه يقول: لا إله إلا الله، اللهم إني أستودعها إياك، ثم انصرف.
فقال له المسلمون: إنا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم، فقال: اليوم فقدت بِرَّ أبي طالب، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها. وإني ذكرت القيامة وأن الناس يحشرون عراة فقالت: واسوأتاه، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية. وذكرت ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك فكفنتها بقميصي، واضطجعت في قبرها لذلك، وانكببت عليها، فلقنتها ما تُسأل عنه، فإنها سئلت عن ربها فقالت، وسُئلت عن رسولها فأجابت، وسئلت عن وليها وإمامها فأرتج عليها، فقلت: ابنك ابنك([5]).
فلم بكى النبي عليها؟ هل لأنها المربية فحسب؟ أو أنها الإنسانة الكاملة التي امتن الله عليها بالكثير من الكرامات والمقامات، فسارت بها سيراً سجحاً وسط الأمة، ونصبت من خلالها أعلاماً هادية للأمة في أكثر من موطن وموطن؟ لا شك أنه العامل الثاني.
لقد أبرز النبي (ص) دفقاً من العاطفة مع هذه المرأة من خلال مجموعة من اللوحات الفنية:
1 ـ بكاؤه عند رأسها: كما مر في الحديث السابق، حيث نظر إليها قبل تجهيزها فبكى. وقال فيها كلمات التأبين، وصرح بوضوح أنها أمه، وهذه مرتبة سامية ورفيعة جداً، فليس من السهل أن يقول النبي (ص) لابنته فاطمة: إنها أمي، ويقول لفاطمة بنت أسد: إنها أمي.
2 ـ أمر النبي (ص) أن تُلف بقميصه، وقد بين السر في ذلك، وهو أنه كان ذات يوم يتحدث، فذكر القيامة، وأن الناس يحشرون عراة، فقالت: وا سوأستاه، فضمن لها أن تبعث كاسية مستورة. ولم تكن هذه الخصوصية إلا لها، بأن تحظى بهذا الشرف الرفيع من بين نساء المحشر، وأن تكون الوحيدة المستورة بالستار المادي.
وربما يقول قائل: إن في هذا تقليلاً من شأن فاطمة الزهراء (ع) إلا أن القائل لم يلتفت إلى أن الزهراء (ع) يُضرب بينها وبين أهل المحشر ستار وحجاب من نور، أصله في السماء، وينبسط على ما حوله في الجنة.
3 ـ كانت تتخوف من ضغطة القبر، فكفنها بقميصه، واضطجع في قبرها، وانكب عليها فلقنها. فضمن لها عدم المساءلة. فقد تمدد في قبرها، ولم يسمع له صوت، مما يعني أنه انصهر في عالم الملكوت الأعلى، ليفسح لها مساحة في الدنيا، هي ثابتة لها رغم من حاول أن يطمس معالمها.
ثم خرج من قبرها، وتولى أمر الصلاة عليها، فصلى بصلاة لم تكن معهودة من قبل، وهي أنه كبر عليها أربعين تكبيرة، وهذا ما لم يفعله مع أحد غيرها، حتى تقدم إليه عمار فقال: لم كبرت عليها أربعين تكبيرة يا رسول الله؟ قال: نعم يا عمار، التفتُّ عن يميني فنظرت إلى أربعين([6]). أي أربعين صفاً من الملائكة كانت تريد الصلاة على فاطمة بنت أسد، فكبر لكل صف تكبيرة.
ثم تأتي الزيارات المخصوصة للأئمة المعصومين، وهي معلومة معروفة، وتحظى بطرق سليمة من حيث السند، ويرددها المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار، ولكن الزيارات الواردة بطرق معتبرة في حق النساء تنحصر في ثلاث ليس غير: الأولى زيارتها، ثم زيارة الممتحنة المظلومة المقهورة فاطمة بنت محمد (ص)، والثالثة زيارة نرجس، أم الخلف الباقي من آل محمد (ص) نعم، وصل السلام الخاص، والصلاة الخاصة على بعض النسوة، إلا أنه ليس بزيارة بالمعنى الخاص.
أيتها الأخت المؤمنة: كفى ضياعاً وتضييعاً، وكفى شتاتاً وتشتيتاً، فإن من يحظى في معتقده بكوكبة من النورانية المتمثلة في محمد والآل، في جانب الرجال، وكوكبة نيرة من النساء في جانب النساء، كخديجة وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت محمد، وزينب الكبرى، وفاطمة المعصومة، ونرجس، وأم البنين. فمن يحظى في سيرته وتاريخه بهذه النماذج التي صيغت بكيف خاص، فلا شك أنه محظوظ، ولا ينبغي أن يتنكب طريقهم، ومن تنكبه فقد اختط عاقبته السيئة بيده.
ذكرى وفاة النبي (ص):
تمر بنا في الأيام القادمة ذكرى وفاة النبي الأعظم (ص) ويوم فقده هو أصعب وأقسى الأيام على المسلمين، وما ترتب على غيابه من الأثر لا زال إلى يومنا هذا تدفع الأمة ضرائبه. فعلينا أن لا نقصر حيث كنا بحق هذا النبي العظيم. فمن استطاع الوصول إلى قبته النورى فهو الفوز الأكبر، ومن لم يستطع فعليه أن يحث هذه النفس الأمارة، أن تساعده على الشخوص والمثول والحضور والتفاعل مع مجالسه في أي مكان كان، لأن لطف محمد (ص) يشمل الجميع.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.