نص خطبة بعنوان :عيد الفطر يوم الجزاء الأمثل
وداع الشهر الفضيل:
الحمد لله الذي جعل هذا اليوم للمسلمين عيداً، ولمحمد (ص) ذخراً وشرفاً وكرامةً ومزيداً. أعاد الله علينا وعليكم هذا العيد، وعلى عموم المسلمين، وخاصة شيعة أمير المؤمنين (ع).
وأخيراً ودَّعَنا الشهرُ الفضيل، ونحن ودعناه، والناس بعد خروجهم منه على مفترق طرق، فهل ودَّعَنا الشهرُ أم ودعناه؟ فهناك جمعٌ من الناس ودَّعَهُم الشهرُ بلا شك، وجمعٌ آخر هم الذين ودعوا الشهر، وبين الجمعين في الموقف فارقٌ كبير، فمنهم من يرى في فراقه العيد الأكبر الذي حمل عنه مشاقَّ هذا الشهر المادية، ومنهم من ودعه بحسرة منه عليه، لأنه فقد مساحةً كبرى يتقلب في جنباتها، تشمله الفيوضات الإلهية والشرف المحمدي.
لذا من حقنا أن نسأل: أي المحطات تلك التي توقفنا عندها كما ينبغي، والمحطات في هذا الشهر الفضيل كثيرة، كلٌّ منّا مرَّ بها، أو توقف عندها، أو وضع رحله فيها. والمواقف الثلاثة أيضاً تختلف فيما بينها في النتيجة.
فالمأدبة الأولى كانت مأدبة القرآن الكريم، وهي الضيافة من قبل الله سبحانه وتعالى لعموم عباده.
والمأدبة الثانية مأدبة أهل البيت (ع) في محطتين هامتين: ذكرى ميلاد السبط الأول (ع)، وشهادة أبي السبطين مولى المتقين علي (ع).
والمأدبة الثالثة كانت مأدبة الإنسان المؤمن لنفسه.
وفي هذه المآدب الثلاث كان الناس يتحركون فيما بينهم على أساس من السباق الروحي، فكل منا يطمح أن يحصل على أكبر ما يمكن أن يحصل عليه من رصيد، من خلال التقلب على تلك الموائد الثلاث. والنتيجة هي قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنَتَهَى﴾([2]). فاليوم سباق، والنتيجة تنتظرنا هناك.
يوم الجزاء والجوائز:
يقول المولى علي (ع) في مثل هذا اليوم في مسجد الكوفة، وهو الخليفة من قبل الله، كما أنه خليفة المسلمين فيما توافقوا عليه في مرحلة زمنية معينة: «أيُّهَا الناسُ، إنَّ يومَكُم هذا يَومٌ يُثاب به المحسنون، ويخسَر فيه المسيئون، وهو أشبه يومٍ بقيامتكم، فاذكروا بخروجكم عن منازلكم إلى مصلاكم، خروجكم من الأجداث إلى ربكم. واذكروا بوقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعكم إلى منازلكم في الجنة والنار. واعلموا عباد الله أنَّ أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عبادَ الله، فقد غُفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون»([3]).
فالعيد مساحة لأن يعيد الإنسان جدولة ما قدَّم، وأن ينظِّم الفواتير التي أشبعها أرقاماً، وفي أحسن الظروف أن تكون ملأى بالحسنات، لكن المولى علي (ع) لم يغفل الجانب السلبي، فقال: « ويخسَر فيه المسيئون»، وهم أولئك الذين تجاوزوا حرمة هذا الشهر، فلم يراقبوها ولم يقفوا عندها، ولم يحصِّنوا سياجاً، بل تسلقوا ما أمكنهم أن يتسلقوا، وهم في هذا الأزمنة في ظني أقل من أن يذكروا أو يتوقف الإنسان عندهم.
ثم يقول المولى علي (ع): « وهو أشبه يومٍ بقيامتكم» فقد خرجنا من عالم إلى عالم، ووجه الشبه أن الإنسان عندما يكدح في الدنيا فإنه سوف يلاقي ربه، ليوفيه أجر ما عمل. فهناك توضع الموازين القسط، حيث الحسنات في كفة والسيئات في أخرى، حتى إذا ما رجحت عند من خسر الصفقة كفةُ السيئات، وضعوا في الكفة الأخرى الولاية لمحمد وآل محمد (ع) فرجحت.
ثم يتدرج (ع) من خلال خطابه للأمة في يوم العيد رويداً رويداً فيقول: « فاذكروا بخروجِكم عن منازلِكم إلى مصلاكم، خروجَكم من الأجداث إلى ربكم»، فشهر رمضان مساحة عمل، وهو بمثابة الدنيا، وما بعد شهر رمضان العيد، وهو بمثابة الحساب وإعادة الجدولة، فإن ربح الإنسان فذلك نتاج ما قدَّم، وإن خسر فهو المسؤول عما قدَّم، واللطف الإلهي يشمل الإنسان ويساعده ويأخذ بيده، إلا أن عليه أن يستفيد كامل الاستفادة من ذلك اللطف المشمول به، وإلا فإنّه سوف يخسر الصفقة.
فهنالك إذن وجه مقاربة، وكم كان للإمام علي (ع) من ضرب من ضروب المقاربات التي كان يعرضها للأمة من أجل أن تستفيد منها، كما كان للنبي (ص) كذلك. فمن ذلك قوله (ص): «لتَموتُنَّ كما تنامون، ولتبعثُنَّ كما تستيقظون، وما بعد الموت دار إلا الجنة والنار»([4]).
فدخولنا في مشروع شهر رمضان، وهي الضيافة الكبرى مع الله سبحانه وتعالى، هو بمثابة هذا العمر الذي نقضيه ونقدم من خلاله ما استطعنا أن نقدم من الخير، وأن نبتعد ما أمكننا الابتعاد عنه من مواطن الزلل. أما يوم العيد فهو بمثابة ذلك اليوم، ففي اليوم الآخر حساب ولا عمل، واليوم عمل ولا حساب، وهكذا العيد، ففيه جزاء على عمل أديناه في شهر رمضان لا يمكن أن يعوَّض، اللهم إلا فيما يأتي من السنين القادمة في أشهر رمضان. فظرف شهر رمضان هذا العام طويت صفحته، ولا بد أن ننتظر ما يأتي من الشهور، وعندئذٍ ليتنافس المتنافسون.
فالإمام يدعونا أن نستحضر مشهد القيامة، وهو الخروج من الأجداث وعالم القبور، ومغادرة عالم البرزخ إلى عالم جديد.
ثم يقول (ع): « واذكروا بوقوفكم في مصلاكم، وقوفكم بين يدي ربكم».
فعندما يقف المرء في صلاة العيد، ثم ينشر كفيه ويقول: «اللهم أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل العفو والرحمة، وأهل التقوى والمغفرة، أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً ...إلخ». ثم يسترسل بالدعاء، ويدعو ويصلي ويسلم على محمد وآل محمد (ص)، فلا شك أنه يحظى بما يحظى به من الله سبحانه وتعالى، لا سيما إذا كان أدى ما عليه مما أراد الله سبحانه وتعالى. ففي هذا اليوم وجوه ناضرة، إلى ربها ناظرة([5])، كما أنها كذلك يوم القيامة، إذ تتطلع إلى رؤية ربها من خلال النظر إلى وجوه محمد وآل محمد (ص).
يقول (ع): «واذكروا برجوعكم إلى منازلكم رجوعَكم إلى منازلِكم في الجنة والنار». فبعد الجمع في المحشر هنالك حساب، ترجح فيه الكفة بقيمة الولاية وثقلها، فيساق الناس إلى الجنة زمراً، مجاميع مجاميع، كل يبحث عن موقعه. وما أعده الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، هو ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر مطلقاً. فعالم الآخرة لا يخضع لحسابات عالم الدنيا، لأنه عالم خاص. ولو لم يكن من الفوز في المحشر إلا النظر إلى وجه محمد وآل محمد (ص) لكفى.
يوم الغفران:
ثم يقول المولى علي (ع): « واعلموا عباد الله أنَّ أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عبادَ الله، فقد غُفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون».
فبالأمس كان هنالك ملك ينادي في الصائمين والصائمات الذين أحسنوا التعامل مع هذا الشهر، بحيث خرجوا منه وهم يحملون وسام الصائمين والصائمات. وهذا أدنى ما يعطى المؤمن في آخر هذا الشهر الفضيل، جراء تحمُّله الجوع والعطش، وعملية التقييد لهذه النفس الجموح الأمارة بالسوء، والمتطلعة إلى الفحشاء والمنكر، إذ استطاع أن يتسلط عليها، وأن يكبِّلها ويقيدها طيلة شهر بكامله، وهذا يعني فيما يعنيه أن الله سبحانه وتعالى قد أقام الحجة على العبد، لأنه أدخله في امتحان فتجاوزه.
فإذا كنت، أيها الإنسان الضعيف، قادراً على أن تكبح جماح هذه النفس طيلة شهر كامل، فما المانع أن تكون قادراً على كبح جماحها فيما تبقّى من أيام العمر؟ وهذه واحدة من الرياضات الروحية التي يدخلها الإنسان ويخرج منها بنتاج كبير.
فالملك الموكَّل بحمل البشارة للمؤمنين، بعد أن يُتوَّجوا بوسام الصائمين والصائمات ينادي هؤلاء قائلاً: «أبشروا عبادَ الله، فقد غُفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون». فالصحيفة الماضية طُويت وأُحرقت ومُزِّقت وأُتلفت، وأنت الآن مع صحيفة بيضاء، مبتدؤها هذ اليوم، فما عسى الإنسان أن يكتب فيها؟ كل ذلك موكَّل إلى الإنسان نفسه، ولا رقيب عليه إلا هذه النفس التي بين جنباته.
وقفة مع النفس:
فلنرجع إلى أنفسنا قليلاً ونتأمَّل الآتي: إننا على صحيفة بيضاء جديدة، فلكي نستعين على أن نملأها بالنور والعطاء، وبالحسنات والسمو والاقتراب من مساحة اللطف المطلق، علينا أن نقف قليلاً مع أنفسنا لنشكر المعبود ـ جلت قدرته ـ على طيِّ تلك الصفحات التي كانت سوداء بالمطلق، أو كان اللون الأسود غالباً عليها، وربما كانت على نحو المشاطرة والمناصفة، وربما كانت دون ذلك بكثير، فالناس يتفاوتون فيما قدموا. فالعبرة أن نأخذ درساً، بأنَّ ما طواه الله سبحانه وتعالى عنا من ذنوب فيما تقدم هو نعمة كبرى من الله سبحانه وتعالى، وذلك من باب ترك المساحة مفتوحة أمام هذا العبد كي يستعيد قواه، ويلتقط أنفاسه، ويندفع وراء مشروعٍ رَوَّض نفسه عليه من خلال شهر كامل لصالحه.
شهر الطاعة والغفران:
فشهر رمضان إذن هو شهر السباق الروحي إلى الله سبحانه وتعالى. فالميدان الأول وهو الطاعة لله سبحانه وتعالى، فيه الكثير من المفردات، أولها الاستجابة لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾([6]). فكانت الاستجابة أن دخلنا في شهر الله، وصمنا هذا الشهر، وودعناه على أن نستقبله في القادم من السنين إن شاء الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل الأعمال التي قدمناها في المربع الأول، ألا وهو الطاعة، وهي ما كانت طاعة لله سبحانه وتعالى، وطاعة لأهل البيت (ع) وهي امتداد لطاعة الله تعالى، وطاعة للعلماء الذين يجب علينا أن نسير على نهجهم ما دمنا نقول عن أنفسنا أننا من المقلدين لهم، فعلينا أن نلتزم برسائلهم العملية، لأنها الحجة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، فلا يكفي أن أقول: إنني أرجع للمرجع، وفي الوقت نفسه أعمل بخلاف ما نص عليه في رسالته العملية. فالتقليد يعني الانقياد والرجوع في العمل، فلكي يصدق علينا عنوان التقليد لا بد أن نعمل بفتوى من نقلده.
وهنالك ميدان آخر في الطاعة، وهي المتاجرة مع الله تعالى، وقد كانت على شقين: الأول هو العبادة وتلاوة القرآن وما إلى ذلك من أعمال. والثاني هو الجانب المادي. ولا أظن أحداً من المؤمنين لم يوقظ فيه برنامج الشهر الفضيل هذا الجانب، من خلال الجوع والعطش الذي مرَّ به الناس المؤمنون، وهم ـ بطبيعة الحال ـ تحسسوا حتماً وجزماً ما كان فيه من الأثر. فلا شك أن ذلك أيقظ فيهم أن يتحسسوا أخاً ضعيفاً، أو ابن عشيرة أو جاراً أو ابن مجتمع من الضعفاء، بل أياً كان من بني آدم.
وأخيراً أيها الأحبة: لدينا مأدبة الإنسان للإنسان، فكلنا دخلنا ونحن نطمح أن نخرج من هذا الشهر بأكبر رصيد، فعلينا أن نسأل: كم هي مساحات المحبة التي استطعنا أن نصطنعها فيما بيننا؟ وكم هي النقاط التي يمكن أن نلتقي عليها، وما كنا نلتقي عليها قبل اليوم؟ فإذا خرجنا من هذا الشهر بهذه الحصيلة، وانتهينا إلى هذه النتيجة، فمعنى ذلك أننا صمنا، وأن الصوم ترك أثره الذي شُرع من أجله، وهو التقوى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾([7]). ومبدأ التقوى محمد (ص) ومسيرها محمد (ص) وخاتمتها محمد (ص).
بارك الله لنا ولكم، وتقبَّل الله أعمالنا وأعمالكم، وأعمال المؤمنين، وشافى الله مرضانا ومرضاكم ومرضى المؤمنين، وسلم الله المسافرين وأعادهم إلى أوطانهم سالمين غانمين، ونسأل الله تعالى أن يفرِّج عن كل مكروب وسجين وأسير، وأن يشافي كل جريح، وأن يزرع الأمن والأمان في سائر بلاد المسلمين، خصوصاً في بلدنا هذا. كما نسأله عز وجل أن يجعل الحرمين الشريفين آمنين، وأن يقطع أيدي الظالمين والحاسدين والحاقدين والمريدين بالإسلام السوء، وأن يشتت شملهم، وأن يفرِّق فيما بينهم، وأن يعيد للمسلمين وحدتهم، وأن يحفظ دماءَهم، فكل قطرة تسيل من نحر مسلم ينطق الشهادتين هي خسارة كبرى، وجرح في صدر النبي (ص). فمتى ترعوي هذه الأمة التي باتت تستبيح دماءها بأيدي أبنائها؟
نسأل الله تعالى العفو والعافية، والصدق فيما نقول، ومطابقة القول والفعل، وأن يرحم من مات منا ومنكم من الأرحام والأعزاء.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.