نص خطبة بعنوان:علي عليه السلام أنموذج الكمال المطلق

نص خطبة بعنوان:علي عليه السلام أنموذج الكمال المطلق

عدد الزوار: 471

2013-11-01

علم الإمام علي (ع):

«من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه»([2]).

بارك الله لنا ولكم ذكرى عيد الغدير الأغر، أشرف الأعياد وأكبرها وسيدها، وجعلنا الله وإياكم من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين (ع)، الثابتين عليها إلى قيام يوم الدين.

الحديث عن علي (ع) حديثٌ عن الدنيا والآخرة، لأن علياً (ع) به وعليه مدار النجاة في الدارين. وهو الكمال المطلق في عالم البشرية، بعد الحبيب المصطفى محمد (ص). فهو العلَم الشاخص في علمه وأخلاقه الفاضلة وعصمته.

كنت قد قدمت في الأسبوع الماضي مقدمة طويلة عريضة حول العلم وأهميته وحدوده، وما يمكن أن يرتَّب على أساسه، وكانت الرغبة تحدوني أن أسقط ما تقدم على شخص المولى علي (ع) إلا أن الوقت لم يكن ليسعفني.

فعلي (ع) أعلم الناس بعد الرسول المصطفى (ص) بقول النبي (ع) نفسه، ومما لا شك فيه أن علم علي (ع) لم يكن علماً دنيوياً يكتسب حسب مسارات التحصيل بأن يحضر المتلقي عند أستاذٍ أو مربٍّ ليكتسب منه الملكات العلمية، إنما هو علم من نوع خاص مرتبط بعالم اللاهوت. وحيث إن علياً (ع) من النبي (ص) كنفسه بصريح القرآن الكريم، وحيث إن النبي (ص) يفرغ عن السماء بواسطة النبي (ص) والوحي معصوم والنبي (ص) معصوم، والسماء هي المبدأ، فينبغي أن يكون نظيره معصوماً أيضاً، وأن تكون الواسطة فيما بينه وبين المبدأ لا تقل عن تلك الواسطة فيما بين النبي (ص) والمبدأ، لذا كان الواسطة بين علي (ع) والسماء هو النبي محمد (ص).

يقول (ع): «وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله (ص) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلِيدٌ، يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَ لا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ‏ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِه»([3]).‏

فعلي (ع) بجميع الحسابات والاعتبارات، يبقى اسمه وذاته وعطاؤه هو المدد الطبيعي لما كان عليه النبي الأعظم محمد (ص). وربما يستكثر البعض هنا وهناك على علي (ع) مثل هذا المقام، ولكن لنسأل: ما هو المسوغ والمبرر الذي جعل المشكك يستكثر عليه ذلك، حال أن المربي، ومنذ اللحظات الأولى، كان النبي محمد (ص) فعندما خرجت فاطمة بنت أسد من الكعبة وهي تحمل بين يديها علياً (ع) قدمته هدية ووديعة في يد حبيب الله الأول والأخير المصطفى محمد (ص) ليلتقي نور الإمامة بنور النبوة، المتمثل برسول الله (ص).

فإذا عرفنا المعلم فلا غرابة، وإذا تعرفنا المتعلم فلا غرابة، وإذا ما تعرفنا المبدأ الأول فلا وجه للغرابة، فهذه أبعاد ثلاثة، بُعد المبدأ، وبُعد الواسطة، وبُعدٌ يعني فيما يعنيه مظهراً وتمظهراً وحقيقة للمبدأ والواسطة. إنه مقام الإمامة الذي تمناه سيد الأنبياء قبل النبي (ص) نبي الله إبراهيم (ع).

العلم الاكتسابي والعلم اللدني:

والرواية المعروفة في مشكاة الأنوار: «ليس العلم بالتعلم، إنما هو نورٌ يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يبديَه، فإن أردت العلمَ فاطلب أولاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك»([4])، فيها دفع لما قد يتطرق لأذهان البعض من أن ما تأتّى لعلي (ع) لم لا يتأتى لغيره؟ فالسر في ذلك أن قابلية علي (ع) وذاته تختلف عن غيرها من الذوات، فعلي جوهرة خلقها الرب في عالم الأنوار، وتقلبت في عالم الذر، وتجسدت في عالم المادة (الناسوت) وأجاد صياغتها على ما هي عليه من الكمال، سيدُ الكمال النبي محمد (ص).

فالعلم ليس بالتعلم، وكثير من أولئك الذين يشقون طريقهم من خلال الجامعات والحوزات، ويعودون بخفي حنين، وإن طالت بهم الإقامة، وقطعوا الأعمار في أروقة الحوزات والجامعات، وهذا منذ القديم وإلى يومنا هذا، وربما في الآتي من الأيام. فهنالك خصوصية تتدخل في إثراء ذلك المتعلم في أن يصل إلى ما يصل إليه.

والسؤال المهم هو: إن لم يكن العلم بالتعلم وبذل الجهد، فما هو الطريق لتحصيله؟ إن الجهد مطلوب بلا شك، بل لا يمكن أن نصل إلى شيء في عالم المادة ما لم ننتهج الطرق الطبيعية، ففي عالمنا الدنيوي حيث الملكات هي هي، إما أننا فطرنا عليها، أو اكتسبناها بالمقارنة، أو رشّدناها وطورناها، لكنها تبقى في حدود هذا الظرف، أما علي (ع) فله خصوصية أخرى، فليس علمه بالتعلم: « إنما هو نورٌ يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يُبديَه، فإن أردت العلمَ فاطلب أولاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك».

فالعبودية لله أولاً، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُوْنِ([5])، وحقيقة العبودية هي المعرفة، بأن نتعرف على الله تعالى.

فهنالك علم نظري يبقى في حدود النظر، وآخر له تجسيد في الواقع، والمفارقة بين علي (ع) وغيره، بعد الامتيازات التي قدَّمتْهُ، أنه أمَّن الخاصية الثانية وهي استعمال العلم.

فما هو المانع أن نستفيد من لازم هذا النص، بأن من تصفو روحه وتسمو نفسه، ويتعالى على الصغائر من الأمور، يمكن أن يكون ظرفاً قابلاً لانطباع النور.

لذا فإن الإمام الشافعي، إمام المذهب المعروف، على ما كان عليه من تضلع في العلم، وإبداع الأدب، يقول:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي   فأرشدني إلى ترك المعاصي

وحجته بأن العلم نورٌ    ونور الله لا يؤتاه عاصي

لقد كانت حافظته مميزة بشكل عجيب، فما إن تقع عينه على شيء حتى يحفظه وينطبع في ذاكرته، ورغم ذلك يرى أنه سيء الحفظ، فكيف بنا نحنُ؟ وفي ذلك لمسة تدلل على التواضع العلمي، وقد ورد عنهم (ع): «الحكمةُ ضالَّة المؤمن، فحيثما وجدَ أحدُكم ضالته فليأخذها»([6]). فلم نتعامل على أساس البعد المذهبي الضيق، فلا ننفتح ونتعامل مع الفكر بما هو فكر، بغض النظر عن الشخصيات والذوات، فلا يمكن أن يكون الإنسان عديم الفائدة بالمطلق؟ ألا يلزم من ذلك أن يكون وجوده عبثياً بالمطلق؟ وهل يمكن أن يضاف العبث لمن أفاض الوجود؟ لا بد إذن أن تكون هنالك جهة حسنة، بل قد يترشح من أفواه البعض ما لا يريد له أن يحسب عليه، فيكون إدانة له وحجة عليه، كما طرق أسماعكم في الخطبة التي تناولت فيها طرفاً من حياة الإمام زين العابدين (ع) واستشهدت بأحد رموز المذاهب الأخرى.

فالشافعي يشتكي لوكيع سوء الحفظ، فأرشده إلى ترك المعاصي، وتصفية الداخل، والابتعاد عن السيئات، والسعي وراء الحسنات، وحجته في ذلك أن العلم نور من الله تعالى، ولا يتناسب إلا مع ظرف مليء بالمعاصي والسيئات.

ولنفتش بعد النبي (ص) ما أسعفنا التاريخ، هل نجد أحداً غير علي (ع) بهذه الصفة؟ فلا شخص يعني الكمال ويتمثل فيه ويظهر بأجلى صوره بعد النبي (ص) إلا عليّ (ع). وعندما ننعته بأنه عالم، فذلك يعني أنه أعلم الناس في زمانه وما يأتي بعده، بل ما سبقه من الأزمنة، إلا من خرج بالدليل، وهو النبي الأعظم (ص). ولازم هذا أنه لا يمكن أن يؤمَّر على الأمة من لا يتصف بصفة العلم، وهذا التاريخ أمامنا يشهد أن جميع من تقدم علياً (ع) أقرّ بأعلميته، وكان بعضهم يقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

إن الغاية من الرسالة هداية الأمة وإرشادها نحو الهدف، وقد أخذ علي (ع) بالأمة نحو المطلق، وهو الله تعالى، سواء بأقواله أم أفعاله.

قطرات من فيض علي (ع):

وأما الأخلاق والخلاقيات في ذات علي (ع) فهي مستعصية على العدّ والحصر، بل هي مشرعة الأبواب حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يتولد من كل منها في كل زمان، ويتفرع عنها، مجموعة من الفضائل، كالشجاعة، فهل يمكن لنا أن نقول عن علي (ع) إنه شجاع، كما نقول عن فلان إنه شجاع؟ فهو قطب الرحى في المعارك، التي كان بعض أصحاب النبي (ص) يحدث فيها الإخفاقات فيسدها علي (ع) إذ فرّ من فرّ وتخلى من تخلى وولى الدبر في ساعة العسرة، وما ثبت إلا علي (ع) يجلو الكرب عن وجه الحبيب المصطفى محمد (ص).

ثم إن الشجاعة ليست في سوح الوغى فحسب، وعند اصطكاك الأسنة وقراع السيوف، إنما الشجاعة أن تقول كلمة الحق أمام أيٍّ كان، لا تأخذك في الله لومة لائم. وهذه إحدى الكمالات المتفرعة عن شجاعة علي (ع).

أما العفة، في علي (ع) فقد ألزمت أرباب التاريخ أن يبصموا ببصمة واحدة، وإن أُريد لها أن تُغيَّب عن المشهد في الفترات الأخيرة من الزمن، بغضاً لعلي (ع), وهي عبارة (كرم الله وجهه) فهذه العبارة تكشف عن حالة العفة فيه، ودونكم ما كُتب عن المستوجب في أن يكرم وجهه.

وأما العدالة، فقد تجلت فيه بأجلى صورها، فقد أعطى من تقدمه للعربي ما لم يعطه لغيره، وجاء علي (ع) ليصحح المعادلة، وكانت ضريبة ذلك أن يُضرب على هامته في محراب صلاته وتهجده، فلو لم يرفع شعار العدالة، ولم يسع لتطبيقها، ربما لم يرتكب في حقه ما ارتكب، لكنها العدالة بعد الظلم، والعلم بعد الجهل، والقيمة بعد المصادرة، والحق بعد الباطل.

وأما حسن الإدارة عند علي (ع)، فدونك الفترة التي عاشها خليفة ظاهرياً في وسط الأمة في الكوفة، وهي المدينة العلوية المقدمة المقدرة عند أهل البيت (ع) وعاصمة الخلف الباقي من آل محمد (ص) حيث عاش الجميع عدالة علي (ع) فأخذ النصراني نصيبه بعد أن ضُيِّع، ونال الأعجمي حظه بعد أن صودر، ووقف الرومي على ما أراد بعد قطيعة.

إنه علي (ع) الذي أراد أن يوجد في الأمة القدوة، وكم هو حريّ بمن هم على رؤوس شعوبهم الإسلامية من الشرق إلى الغرب أن يجعلوا من علي (ع) القدوة في جميع أبعاد شخصيته وإن كان هو الذي يقول: «إنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد»([7]).

فمن صفات الكمال في علي (ع) العصمة، ومن مهازل الدهر وانقلابات الواقع، وتخلي الإنسان عن مبدئه، أن تسمع أصوات نشازٍ هنا أو هناك، تغمز في هذه الحيثية، رغم أن العصمة تعني فيما تعنيه وبكل بساطة: الامتناع بالله عن محارم الله. فماذا ترتجي من علي (ع) وهو جوهرة صيغت بيد النبي (ص)؟ وقد صب النبي (ص) جهوده لتربية اثنين، وربما فرغته السماء لتربيتهما، فكان علي (ع) عنصر الكمال في الرجال، وكانت الزهراء (ع) بنت النبي محمد (ع) عنصر الكمال في النساء، ولو لم ينجز النبي (ص) إلا هذا المشروع لكفى. فعندما تقتدي الأمة بأثرهما، وتجعل منهما القدوة في الحياة، وتمزج بين المشربين، وتسير على هداهما، فلا شك أنها تفلح.

فلماذا العصمة؟ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ومن يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ([8])، فالسر في العصمة أن لا يتطرق النقص إلى الدين، مما يستوجب نقض الغرض الذي بُعث من أجله الأنبياء والرسل واستُكملوا بالأولياء، وهذا هو الهدف.

شهادة من مخالف: 

وقد أحببت أن أقرأ مقطعاً، ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي، أحد أقطاب مدرسة العامة، ومما لا شك فيه أنه قلعة من قلاع الأدب، ومؤرخ بامتياز، ولديه باع طويل في علم الحديث، والأهم من هذا كله أنه أحد أئمة الاعتقاد، فهناك مدرسة المعتزلة، وإلى جانبها مدرسة الأشاعرة، ومدرسة الكمال المتمثلة بمدرسة جعفر بن محمد (ع). وقد اقترب هذا الرجل من دائرة علي (ع) من خلال نهج البلاغة. 

ومما يؤسف له أن يعتني هذا الرجل بنهج البلاغة، في الوقت الذي يقف الكثير من الأعلام متفرجين على النهج، إلا ومضات خجولة هنا وهناك عبر التاريخ، حتى بتنا نعالج إشكالية كونه صادراً عن علي (ع) أو لا؟ فالموازنة غير موجودة في التعاطي مع مشارب العلم والمعرفة، وهذا هو الواقع.

لقد كتب ابن أبي الحديد شرح النهج، ولكن الكتاب لا يخلو من دسّ للسم في العسل في الكثير من مقاطعه، لأنه ينهج نهجاً معيناً، ولا ينبغي أن لا نتعامل مع مؤلف أي من الكتب على أنه يكتب ما كان مقرراً في داخلنا، إنما يجب أن نقرأه بما هو صادر عن ذلك المؤلف، وما هي حقيقته ومطامحه وواقعه.

إنني أستنيب هذا الرجل في أن يتحدث عن علي (ع) حيث يقول في علم علي: «وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى.

وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم ومن كلامه (ع) اقتُبس، وعنه نُقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ... ومن العلوم علم الفقه، وهو أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيالٌ عليه، ومستفيد من فقهه... ومن العلوم علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرِّع... ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون. ومن العلوم علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله. وأما الفصاحة فهو إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة»([9]).

ثم يقول: «ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يُبارى في البَلاغة... وأما الزهد في الدنيا، فهو سيد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعند تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً... وأما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، ومنه تعلم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته... وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عبادتها»([10]).

فمن حقك أيها الشيعي الموالي المحب أن ترفع رأسك عالياً، وتفخر أن يتحدث الرموز من المدارس الأخرى، ممن يلامسون مساحة الإنصاف عن عظمة علي (ع) وهذا منتهى العظمة.  

فكل فضيلة تنسب إلى علي أولاً، فإن قيل: الشجاعة، فإنها تضاف إليه، أو قيل: العلم، أو العفة أو العدالة، نسبت كلها إليه. وكل فرقة تدعي الانتماء إليه، ولكن مع تقديم وتأخير، فهناك من يجعلة الأول، وهناك من يجعله الرابع، ولكن بالنتيجة ينتمي الجميع إليه، فكل فرقة أخذت جانباً، وكل طائفة تجره نحوها، فالشيعي والسني وغيرهما يجعلونه إلى جانبهم. 

والفضائل كلها تعود إليه، وهو منبعها، والمبتكر لها والمؤسس، فالشجاعة أصلها منه، وقد كان البعض من جند النبي (ص) يحثون الخطى في الفرار، ويحجمون عند الإقدام، وكان علي على العكس من ذلك. فكان في تقدمه إلى عمرو بن ود أسرع من وصول الصوت إلى أذنيه ليقابله فيقتله.

فكل من جاء بعد علي (ع) وسطع نجمه في فضيلة ما فمن علي المنطلق، فلو وجدت مع يتحلى بالصديق فالصديق الأول علي (ع) ومن تسمّى بكونه سيف الله المسلول، فسيف الله علي (ع)، وهكذا.    

هذا هو كلام ابن أبي الحديد وليس كلام أحد مراجعنا، كالسيد السيستاني (حفظه الله) أو السيد الإمام (قدس سره) أو غيرهما ممن تربى في هذه الأحضان، وليس صاحب البحار أو شيخ الطائفة أو الشيخ الأعظم أو غيرهم، إنما هو من المدرسة الأخرى. ولكن العتب على ابن أبي الحديد أن كلامه في واد وفعله في واد.

وأما عن فصاحته وبلاغته فحدث ولا حرج، ودعك مما قاله من كان قبله:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل    بسقط اللوى بين الدخول فحومل

أو قول الآخر:

لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ   تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

ودونك ما قاله علي (ع) في النهج، حتى مع خصومه. يقول (ع): «أما والله لقد تقمصها فلان، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير»([11]).       

فمن المؤسف أن لا نجد نهج البلاغة في بعض بيوتنا، نكحل به أنظارنا كل صبح ومساء، ومن المعيب أن نستعيض عنه بالجوال الجديد في يد الولد.

وفي نهاية المطاف أود أن أختم بكلمات معدودة لأمير المؤمينن (ع) فأقول:

 

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.

باسم   رب   iiالعالمين
خالق   النور   المبين


قد  كتبت الشعر مدحاً
في   أمير   iiالمؤمنين


فهو   نور   الله   حقاً
وهو   خير  الصادقين


سورة   الإخلاص  فيه
رغم    كيد   الحاقدين


فهو   نورٌ   قد  تجلى
في   قلوب   المؤمنين


وهو   سيف  الله  حقاً
فو   وجوه   المشركين


وعليه    المجد    تاجٌ
فوق   تاج   المرسلين


لا    تقل   طه   فطه
كعلي    في    iiاليقين


قالها    القرآن    نصا
رحمة         للعالمين


وهو     زوجٌ    لبتولٍ
سرها     دنيا    ودين


وبه   الأسباط   جاؤوا
لنبي         المسلمين


كل ما في الكون فيضٌ
من   أمير   المؤمنين


فارفعوا  الأصوات  هيا
لصلاة       iالزائرين