نص خطبة بعنوان: الخطاب الديني بين التواصل والقطيعة

نص خطبة بعنوان: الخطاب الديني بين التواصل والقطيعة

عدد الزوار: 574

2014-02-21

النتائج مرهونة بالأسباب:

في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «ما من عبدٍ إلا وفي وجهه عينان يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد بعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما ما وعده بالغيب، فآمن بالغيب على الغيب»([2]).

ما من أحد يتعقل وجود أشياء أو حادثة من الحوادث، دون أن يكون هناك ما يوجب وجود علة أو سبب، ومن أجل هذا اندفع الإنسان ومنذ أيامه الأولى وراء استكشافاته لعوالم غيبية من حوله، أصاب في البعض منها وأخفق في الكثير، وما زال الإنسان يتخبط بين هذا وذاك، لا لشيء إلا لأنه لم يهيئ الأرضية كي يفتح الله ما في قلبه.

إن غريزة البحث عن العلل الكامنة وراء الأحداث والأشياء في عالمنا المنظور، أوجبت علينا وعلى من تقدم ومن سيأتي أن يُجدّ البحث والتحري بدءاً من الذرة حتى المجرة، والأمم تتسابق فيما بينها رغبة في استكشاف الكثير من الأسرار لتحرز سبقاً وتقدماً على سائر الأمم من حولها، وبقدر ما تُعَدّ الأجندة بقدر ما يصل الإنسان في فرده أو أمته إلى ما هو المراد والمترجَّى، وبقدر ما يفقد من تلك الأجندة بقدر ما يكبو به جواده، وعندئذٍ لا يصل إلى ما هو المأمول، ويقع في الصفوف المتأخرة ترتيباً بين الأمم، ولا أظن أن فرداً أو أمةً تعيش قيمتها الواقعية إلا وهي تنشد الأفضل. وعلى العكس من ذلك الأمم والأفراد الذين يتحركون ضمن حدود دائرة ضيقة رسموها من حولهم، وأقفلوها إقفالاً محكماً بحيث لم يسمحوا لأنفسهم أن يستشرفوا ما وراء تلك الحدود، ولا يقبلوا ممن هو خارج الحدود أن يطل على ما هو داخل الدائرة، لذلك تبقى الأفكار ضيقة متحجرة تعيش سباتاً عند الكثير ممن رسم لنفسه هذا الخط، واختار لموكبه هذا المنهج، والحياة مبسوطة بين أيدينا، يمكن أن نضعها ذات اليمين وذات الشمال، بعد ذلك نُؤرجِح بين هذا وذاك لنخلص إلى نتيجة من تَقدم أو تأخر.

الإيمان بالغيب:

فالغيب يعني الأمور الغائبة عن حواسنا الظاهرة، وقد ورد ذلك في القرآن في أكثر من موطن وموطن، قال تعالى: ﴿الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالغَيْبِ([3])، فالغيب ما غاب عن مدركاتنا الحسية، فلا ندركه بحاسة لامسة أو باصرة أو شامة أو سامعة أو ذائقة، إنما هنالك حالة من الوجدان المستقر في داخل الإنسان، إذا ما سلم من المؤثرات يمكن له على أساسه أن يقترب من تلك الأمور الغيبية بما يدلل عليها من المظاهر الثابتة في الخارج.

ومن المعلوم أن من أهم الأهداف في الثقافة الإسلامية، تأصيل العلاقة بين الإنسان وعوالم الغيب، فالكثير من آيات القرآن الكريم ترشد لذلك، وتهيِّئ الأسباب للمسلم، كي يطرق بابها ويدنو من دائرتها، لكن انشغال المسلمين بأمورهم اليومية التي تتقضّى عند كل غروب شمس، ألهاهم عما هو الأهم والأجدر بالعناية والرعاية والبحث والتدقيق والمتابعة ومداورة الأفكار فيما بين الجميع.

ومن أجلى المصاديق التي تعني الغيب بكل مقدماته ونتائجه، ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى، وبقوة القدرة الإيمانية عند الإنسان يقترب من الله سبحانه وتعالى، وبقدر ما يتنزل من ذلك بقدر ما يحدث فجوة، وبعد تلك الفجوة ربما يصحو من غفلة، وربما ينحدر إلى ما هو الأسوأ من ذلك.

وإذا ما تحققت قوة القدرة الإيمانية داخل الإنسان، فإنها تكسب القلب حالة من الشفافية، لذا نلاحظ أن أرباب مدارس العرفان يطرقون هذا الباب ويلتزمون بلوازمه، ويذهبون معه إلى المسافات البعيدة، أما أصحاب النظر القاصر الذين لا يؤمنون إلا بما طالته أيديهم بالواسطة أو بالمباشرة، فقد أحدثوا حاجزاً بينهم وبين تلك العوالم الخاصة التي حاول أن يقترب منها من هيأ الله ظرفه لذلك. وفي مثل هذه الحالة يكون المرء ظلوماً لنفسه، ولا أظن أن أحداً ينفي ظلم الإنسان نفسه، ولا أقل من تصريف الأعمار ـ وهي أكبر رصيد لدينا ـ فيما يعني وما لا يعني.

وعندما تتحقق حالة الشفافية في قلب الإنسان، والسمو في روحه، فإنه يستكشف عوالم الغيب من حوله، ومصاديقها كثيرة، ولعل من أقربها وأجلاها وأكثرها لازمية للاهتمام، غيبة الإمام المهدي المنتظر من آل محمد (ص). فحقيقة الحضور والوجود المبارك لصاحب الأمر، وهو الحضور الأقدس في عالم الملكوت، يلغي عامل الزمان والمكان ليثبت حقيقة الغيب. فإذا ما أراد المرء أن يقترب من هذه المسافة ويرنو ذلك الهدف، فعليه أن يُعدّ الأجندة التي تضمن له شرف الوصول وسلامة النهاية.

ضرورة التثبت في التقييم:

وأشير هنا إلى أمر مهم، يتعلق بمقطع نُشر على اليو تيوب، وتم تداوله، وهو لسماحة السيد كمال الحيدري (حفظه الله تعالى) وفيه من الجناية والتجني والقطع واللصق الشيء الكثير، بحيث حاول من قام بهذا العمل ـ وحسابه على الله تعالى ـ أن يصور لمن يستمع للمقطع أن السيد الحيدري (حفظه الله تعالى) ينفي ولادة الإمام المهدي (عج)، حال أن أصل البحث كان يدور حول (إثبات ولادته). فليت شعري! كيف يستدل الباحث على خلاف مراده؟ وهل يقوم بذلك عاقل؟ ومن هنا نقول أيضاً: هل يمكن أن نسلِّم بكل ما بين أيدينا؟ وإذا ما سلَّمنا بذلك، فهل نحنُ في دائرة العقل أو في خارج مساحته؟

إن السيد الحيدري كان بصدد إسقاط ما ادعاه الكاتب من الطريق الأوحد الوحيد في الوصول لإثبات ولادة الإمام المهدي (عج) ومشى مع الكاتب وجاراه حيث يتطلب البحث، وعندما وصل إلى الطرق التي يمكن من خلالها إثبات ولادة المهدي (عج) بعد رفع اليد عن الطريق الذي تم الإشكال عليه، بُتر المقطع، حال أن السيد (حفظه الله) انتهى إلى إثبات ميلاد الخلف الباقي من آل محمد (ص).

إنني لا أدافع عن رجل بقدر ما أدافع عن مجتمع ينبغي أن يُحصَّن أمام قراصنة يقطعون ويبترون الكثير من الخطب والدروس، وكأن أيادي أقوى منهم، هي التي تأخذ بهم إلى حيث لا يعلمون. فإذا ما وقع بين أيدينا شيء فينبغي أن نرده بالدليل والبحث والبرهان، فلا نقول: إن كلام فلان قطعي، في جميع المسائل المثارة، فقهيةً كانت أم تفسيرية أم تاريخية أم فلسفية أم غيرها، فما دامت تلك الأمور غير صادرة عن المعصوم فهي محل نظر. لذا يقع الاختلاف بين الفقهاء، ولكن لأن الفقهاء يعرفون حجم أنفسهم وقيمتها، وقيمة الأمانة التي على عواتقهم، تجد أن الأمور تسير فيما بينهم على أفضل ما يكون، ولكن عندما يتدخل الدغل بين هذا وذاك ندخل فيما نحن فيه من الضياع والشتات.

الخطاب الديني:

إن هذا المطلب المهم يترتب على ما تقدم الحديث عنه، لأن البعض يريد أن يتعامل مع النشء اليوم على ما هو الآتي، قاطعاً النظر تماماً عن الواقع الذي يعيشه، فنحن ما لم نؤمّن ما نحن فيه فلا نستطيع أن نشتسرف ما هو الآتي، لأن الآتي منحلٌّ عما نحن فيه، فما هي الأجندة التي أعددناها في بيوتنا كي نستشرف ذلك، بعد أن نهيئ حياةً كريمةً طيبة تليق بالفرد والمجتمع والأمة، وعندئذٍ نستطيع أن نستشرف تلك العوالم الغيبية. فما ينتظرنا إنما هو عالم الغيب، ولا يستطيع أحد أن يحجر علينا استطلاع ذلك الغيب ومحاولة قراءته والإعداد له، غاية ما في الأمر أنه ليس الهمَّ الأهم، إنما المهم أن نعدّ قاعدة في أوساطنا، تستشرف ذلك العالم، لأن عالم المهدي (عج) عالم له خصائصه، فربما يكون المجتمع هذا اليوم، لأنه لا يملك القدرة والقابلية في التعاطي مع تلك الحالة المهدوية المنتظرة، فإن المهدي (عج) يتأخر، أما إذا أعدت الأمة نفسها كما ينبغي، فربما تساعد على قرب ذلك الموعد المضروب وهو موعد حق.

إن الخطاب الديني يحتاج إلى بحث طويل عريض، لأنه يدخل ضمن الأجندة المؤمِّنة لنقل المجتمع من واقع بؤس ثقافي إلى واقع أفضل وأفضل، صحيح أننا في نقلة وئيدة الحركة، لكن يمكن لهذه النقلة أن تُسرَّع، فلماذا نثبط من العزائم ونحدّ من حركة الهمم في داخلنا، فنحن ننتظر الكثير، وينتظرنا الكثير.

وحيث إن الإسلام هو دين الفرد والجماعة فلا بد أن يبني أسسه على التواصل، وليس القطيعة، لذا نجد أن النبي الأعظم محمداً (ص) تواصل مع من كانوا حوله ممن لم يكونوا يدينون بدينه، ولم ينازلهم قتالاً ما داموا ملتزمين بحدود ما هم عليه، وما كان عليه النبي (ص) من البلاغ للرسالة.

من هنا فإن ادعاء أن الإسلام بسط نفوذه على الأرض من خلال السيف، إنما هو من الثقافة التي زرّقها المستشرقون في ذهنية العلماء من المسلمين، وليس العامة، لذا تجد أن هذا الموضوع يتم تناوله حتى في نصوصنا الأدبية مع شديد الأسف، ويتغنون به، إما عن غفلة أو غير غفلة. فالإسلام لم يبسط نفوذه على وجه الأرض، ولم يتربع في نفوس البشر إلا من خلال الواقع الذي قدمه النبي (ص) ألا وهو الرحمة وإشاعة الأمان والسلام، وهذا من نتائج العهد الإلهي والكتاب السماوي القرآن الكريم، وحركة النبي (ص) بين ظهراني الأمة، فقد كان رحيماً بالقريب والبعيد، والقوي والضعيف، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، ومن ينتمي ومن لا ينتمي، سواء كان من الأفراد أم الجماعات.

فللأفراد خصائصهم، لأن هذا الشاب يختلف عن ذاك، في ميوله أو في الأصل الذي انطلق منه وتولَّد وانتقل إلى مساحة أوسع فضاءً، فربما كان هذا الشاب في المدينة، لكنه لا يتفق مع شاب آخر في المدينة نفسها في جميع خصائص التكوين، وكذلك الشاب في القرية قد لا يتفق مع أخيه الشاب في القرية نفسها، وكذا الحال مع ابن القرية وابن المدينة، وهذا أمر طبيعي، فالمقدرات المادية في المدينة أكثر بسطاً، وتفتح مجالاً أوسع، وإن كانت القرى اليوم أصبحت مدناً، وأصبح الاشتراك في الأمر الواحد يفرض نفسه، ولكن لا زالت بعض الأعراف الحاكمة في القرى مسلطة في تقليص بعض الخصائص التي يفترض أن ينفرد بها الإنسان ويزاحم بها الآخرين، وهذا حق طبيعي متاح ومباح ومشروع للجميع.

لذا تجد أن الحركة في المدن تكون في مجال الترقي على نحو الجماعة أكثر منها على نحو الفرد، بينما في القرى تكون في الأفراد على حساب الجماعات، فالمعادلة عكسية، والسر يكمن في أن القرية لا زال يحكمها في الكثير من الحالات التقليد ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُوْنَ﴾، أو ﴿مُهْتَدُوْنَ([4])، على العكس مما عليه الأمر في المدينة.

فتجد مثلاً أن من قرية (فريمان) يخرج الشهيد المطهري، وهي قرية صغيرة، نحتاج للكثير من الموارد كي نقف ونتعرف خصائصها، أما المدينة التي تعيش حراكاً علمياً وثقافياً وأدبياً وفنياً، فلا يعوزك أن تضع يدك فيها على الكثير من الأسماء التي لها أثرها وقيمتها، وتجد التزاحم الكبير فيما بينها، أما الأول فهو شخص واحد. لذا ينبغي أن نكسر جميع الموانع التي باتت تقيِّد الكثير من الذهنيات في الكثير من المواقع.

أما المجتمعات فبكل ألوان طيفهم، فيمكن أن يكون الإنسان معي على المشرب الفكري ذاته، وقد لا يكون، لكن ذلك لا يستوجب أن نعيش خلافاً وصراعاً واقتتالاً على شيء لا وجود ولا تشخص له في الخارج. فإذا ما أراد الإنسان العزة فإنها محصورة بالله تعالى، فهو رب العزة والجلال، فإذا ما بحث عن العزة في غير هذا المورد فستكون عزة مضافة مقيدة بالمصلحة المادية الصرفة، لأن مبنى الحياة في الأعم الأغلب، هي أن تُقدم غيرك في المربع الأول ليقدمك في المربع الثاني، وهذه معادلة واضحة وبينة، حتى في صفوف من لا ينبغي أن يكون حسابهم على أساسها، وإلا فماذا يعني ما يجري اليوم؟ هل يعني إلا هذا؟

الشباب في عين الخطاب الديني:

من أهم القواعد في الأمة طبقة الشباب، فالنبي (ص) بنى حركته الأولى الرسالية على أساس من قيمة الشباب وسط الأمة، لذا تجد عناية النبي (ص) بالغرس والنشء الجديد منذ الأيام الأولى، فكان الكفيل للإمام أمير المؤمنين (ع) فقد صنعه على عينه، كما صنع الله النبي (ص) على عينه، فهو القائل: «أدبني ربي فأحسن تأديبي». فتربية علي (ع) وتأديبه هو تربية وتأديب السماء. لذا نجد حتى الذين يختلفون على علي (ع) أو فيه، لا يستطيعون أن يتجاوزوا حدود ما يمليه عليهم الواقع، لكنهم لا يخرجون عن المألوف، فلو خرجوا عنه لدخلوا في دائرة علي (ع)، وهذا هو مقتضى قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾.

وأعود لما نحن فيه فأقول: لماذا هذه القطيعة بين رجال الدين، التي يدعيها البعض من رجال الدين والشباب؟

إن الشباب يؤنسهم كثيراً أن يجدوا رجل الدين بين أوساطهم، في كل ما يعنيهم، وما على رجل الدين إلا أن يضع مرآةً ويقرأ واقع الشباب من حوله، ليفسح لنفسه مجال الاقتراب منهم. فهموم الشباب كثيرة، وهم يريدون من رجل الدين أن يشاطرهم ذلك الهم، فلنسأل أنفسنا: هل شاطرناهم همومهم كي نعيش التواصل كما ينبغي، والمحبة في ما بيننا كما ينبغي، ونتقدم كما يراد؟ أم أننا نعيش خبط عشواء، بين من ينحي باللائمة على هذا الطرف أو ذاك؟

فالشباب يهمهم التحصيل العلمي، وهو همٌّ كبير، فكم نلتقي معهم لتذليل الصعوبات التي تعترض طريقهم في الارتقاء في مساحات العلم والمعرفة، لنقارع من خلالهم الواقع من حولنا.

فآفاق العمل الناجح الذي تبنى على أساسه الحياة الكريمة كثيرة جداً، فكم حاولنا أن نقدم لهم من المشاريع، ولا أقل من المشورة التي تُمنح للشباب الطيب المبارك ليصل إلى نتيجة مرضية.

مسؤوليتنا تجاه الشباب:

هنالك العديد من الخيرات التي تفرض نفسها، والتي نستطيع أن نتعاطاها، ومنها الإحساس بالمسؤولية من الطرفين، فالمسؤولية الملقاة على رجل الدين واضحة وبينة، ولا يستطيع أن يرفع يده عنها إذا كان يعتقد أنه بنفس الطريق والمسار الذي اختطه محمد وآل محمد (ص) ومعنى ذلك أن يعيش المجتمع من حوله كما يرغب أن يقرأ المجتمع في رجل الدين، فالنبي (ص) كان يتبسّط في شؤون حياته، ويتواضع، حتى أنه إذا دخل عليه الأعرابي كان يتعاطى الموقف بما تفرضه ثقافة ذلك الأعرابي، لا من خلال السقف العالي ولا الهرم الرفيع.

لقد كان (ص) يخترق الأزقَّة في المدينة المنورة، فلم يكن يسبح في الفضاء، إنما عاش الناس بهمهم وفقرهم وضعفهم وتعبهم ومأساتهم.

فنحن إما أن نتحمل المسؤولية تجاه الشباب، وإما أن نلغيهم، وليعلم من يعنيه الأمر أن من يلغي الشباب فإنه يلغي نفسه أولاً، فلا حياة إلا بالشباب، ولا تطور ولا وعي ولا إدراك إلا بالشباب، ولا قيمة لهذا الوجود إلا من خلال حركة الشباب. فلا يوجد لدينا شباب فُطروا على الظلم والفساد والضياع والقتل والإرهاب، إنما للحضن أثر وللتعليم والتربية والتوجيه أثر كذلك.

من هنا كان التبليغ أساسياً ومهماً في مسيرة الأنبياء، قال تعالى: ﴿الَّذِيْنَ يُبَلِّغُوْنَ رِسَالاتِ اللهِ([5])، وقال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ([6])، والتبليغ فبقدر ما تسقي يكون الثمر، فإن سقيت عذباً فراتاً كان الثمر عذباً، وإن سقيت ملحاً أجاجاً فربما لا تصل النوبة إلى قطف الثمر، لأن الشجر يموت قبل أن يعطي ثمره.

وفي جميع الأحوال هنالك ثمر، فإما أن يكون غرس روح التمرد في وسط طبقة الشباب، وهذا ما لا يريده أحد، فالرسالة جاءت من أجل الهدي والكمال والفناء في المطلق في كل شيء. وإما أن يكون الثمر غير ذلك.

فإن حصلت حالة التمرد نتجت عنها غياب الهدفية في ذهن الشاب، فتراه يقطِّع الليل فيما لا يسمن ولا يغني من جوع، فالزمان ينطوي، والليل والنهار يعملان في عمره، وهو في مكانه.

والأدهى والأخطر والأنكى والأمرّ هو الوقوع في أيدي الآخرين الذين يأخذونه ذات اليمين وذات الشمال، من حيث يشعر أو لا يشعر، لأنه لم يلتفت إلى الحالة والكينونة التي بات فيها، بينما تجد أن غيره عيونهم فاغرة وأقلامهم متابعة وراصدة، يبحثون عن أصغر ثغرة في الشاب لينفذوا من خلالها، ثم تتسع الدائرة أكثر فأكثر. لذا فإن المسؤولية أولاً وبالذات تقع على من بيده البرعم في أول أيامه، ألا وهو الأب والأم، والخال والعم، والجار والصديق الصالح.

فعلى رجل الدين أن يقوم بدوره مع تجديد آلياته، التي يستطيع من خلالها أن يقترب منهم ويكسب ثقتهم.

منزلقات خطرة:  

هنالك هموم قاتلة لشبابنا علينا أن ندفعهم عن غلوائها، منها:

1 ـ القلق المصاحب للنشء: فشبابنا اليوم يعيش قلقاً قاتلاً، وربما حتى الأب في داخل البيت لا يشعر بتلك الحالة التي يعيشها الابن من القلق، ومن صراع دائم يجري بينه وبين نفسه، وقد سمعتم وقرأتم وربما رأيتم مجموعة من المشاهد التي انتهت ببعض الشباب إلى الانتحار، فلو حُلَّت معضلة القلق لما وصلت الحال إلى حد التخلص من الحياة. فهنالك إذن إشكالية يجب على الأب أن يتحرك لتصحيحها.

2 ـ الرغبة في الحرية المطلقة: فالشاب لا يبحث عن حرية نسبية مقيدة بقيد الدين أو الأسرة أو المجتمع أو النظام الرسمي، لذا تجد أنه يعتدي على جميع المحرمات، وينتهك جميع المقدسات، وربما تؤول به الأمور إلى أسوأ الحالات ـ والعياذ بالله ـ وهنالك قضايا وأرقام وشواهد لو أردت أن أستعرضها لأدخلت الهم والقلق على كل من سمع بها. لذا فإنني أغلق الباب على تلك الشواهد، حفاظاً على مشاعر من يستمع. وإلا فإنها مشاهد مخيفة ومرعبة ومربكة.

إن تلك القيود التي تكبل الشاب ويحاول أن يتجاوزها قد تكون في الأسرة، مع وجود أب لا يعي ما يريد الابن، وقد تكون في العرف من حوله، فلا يتفهم ما يحيط بذلك الشاب من أمور، وقد تكون قيوداً رسمية، متمثلة برزمة من القرارات التي لا تتماشى وحالة العصر الذي نعيشه، مما يضطر ذلك الشاب لدفع ضريبتها، وهذه موجودة في الكثير من النظم.

3 ـ الجري وراء المحرمات: ولعل من أبرز مصاديقها الانحرافية بؤرة الجنس
ـ والعياذ بالله ـ وهي بؤرة مخيفة ومُهلكة ومردية، وعواقبها صعبة جداً، وقد كنا نقرأ عن تلك الآثار في بعض الكتب التي تقدم بعض الصور والنماذج من حياة الأمم في الغرب، وكنا نستغرب من ذلك، لككنا اليوم بتنا نرى أن تلك الأمور لها حضورها في مجتمعات يفترض أن تكون محافظة ملتزمة، وتغبط على أن كماً كبيراً من رجال العلم والدين في أوساطها، وأن الكتاب متوفر، والمنابر من الكثرة بمكان.

خطوات في طريق العلاج:

ولعلاج ما مضى أذكر ستةً من الأمور الواجب توفرها للعلاج:

1 ـ زرع روح الثقة بين الأطراف: فالثقة ضرورية جداً في هذا المجال وفي غيره، وإن كان البعض يرى أن الثقة معدومة بين رجال الدين والمجتمع، فنقول له: كلا وألف كلا، فالعلاقة قائمة، وإذا كان البعض يعيشها من خلال واقعه فليس من الصحيح أن يوسع دائرتها ويبسطها على الآخرين، وإن كان يعيش حالة من المنبوذية من خيرة أبناء المجتمع والأمة، فعليه أن لا يتصور أن الآخرين من رجال الدين يعيشون في حدود تلك الدائرة.

2 ـ محاولة انتزاع المعلومة من صاحب الشأن: وهو الشاب، ولكن لا بالقسر والقوة، فالقوة لم ولن توصل إلى نتيجة أبداً، ولم ولن تكسب معلومة مثرية أو مفيدة.

3 ـ تحليل القضايا الواصلة إلى بعض المعنيين بشأن الإصلاح في الأمة، من رجال دين وغيرهم، تحليلاً علمياً، سواء بالمباشَرة ـ إذا أَعدّ المعنيُّ نفسه كرجل دين ومثقف ومتصدٍّ ـ أم بالواسطة من خلال الاستعداد بمن هيأوا تلك الأسباب وأعدوا تلك الأجندة لإصلاح ذلك الخلل.

4 ـ المتابعة في دائرة المحبة والرفق والأخوة والصداقة، بعيداً عن دائرة الوصاية والتهميش والإلغاء والتسطيح، فلم يعد شبابنا يقبل منا أن تعامل معه على هذا الأساس.

أكتفي بهذا القدر من البحث، على أن أكمله في القادم من الأيام إن شاء الله تعالى.

في الختام أذكِّر بقول رسول الله (ص) في الحسن والحسين (ع) أنها «سيدا شباب أهل الجنة»([7])، فهذا يعني أنهما قدوة في الدنيا والآخرة، وهم سادة السادات، ومدرسة في هذا المجال وفي غيره، فعلى شبابنا ـ إذا أرادوا أن ينضووا تحت سيادتهما ـ أن يصطفوا هذا النهج، ليجعلوا منه نبراساً وهدياً.  

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق والصلاح والسداد، وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم، والحمد لله رب العالمين.