نص خطبة بعنوان: الحكمة الإلهية من النهي عن ارتكاب الذنوب (1)
الترغيب والترهيب:
في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص) كما يرويه ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله (ص) خطاً ثم قال: «هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيْمَاً فَاتَّبِعُوْهُ وَلا تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ﴾([2])»([3]).
أرسل الله تعالى الأنبياء من أجل الأخذ بأيدي بني البشر إلى سبيل النجاة، وهناك مساران لكل واحد منهما أهميته، الأول هو القيام بالواجبات، والثاني هو الابتعاد عن المحرمات.
عندما نلاحظ اللبنة الأولى في مسار الأنبياء (ع) نجد أنها تتجه إلى المسار الأول، وهو الترغيب والتشجيع والتشويق، فأبواب الجنان تعرض بين أيدي بني البشر على لسان الأنبياء المعصومين بعصمة السماء.
وثمة مسار آخر لا يغفل، ألا وهو مسار التحذير، وقد كان التحذير منه على أشده، وهو المسار المنتهي بالسائر عبر تقاطعاته إلى جهنم، والعياذ بالله.
وقد أنفق الأنبياء والرسل (ع) والأولياء والصالحون جهوداً كبيرة في سبيل إبعاد الناس عن هذا المسار، والمحافظة على مسارهم الأول، لأن الهدف والغاية أن يدخل الناس الجنان، لا أن يُلقى بهم في النيران. لكن تقدير الإنسان وحساباته ومعادلاته ليس بالضرورة أن تأخذه إلى ما هو الصائب أو الأصوب، إنما في الكثير من الأحايين يقدم الإنسان المصالح الآنية على المصالح المرجأة، حال أن المصالح المرجَأة هي في الكثير من الحالات والأحايين تصب في صالح الإنسان: «ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور»([4]).
إن الإنسان يستعجل اللذة، فيجد مساراً يفضي إليها عن طريق الحرام، والعياذ بالله. بينما اللذة الطبيعية المؤمَّنة بالثوابت الشرعية ربما لا تتطلب منه أكثر من الانتظار، ثم يحصل على ما أراد من أفضل الطرق وأيسرها.
آثار الذنوب:
ومن حق الإنسان أن يسأل: لماذا لا يُسمح بارتكاب الذنوب، حال أن بعضها فيه شيء من اللذة والأنس ولو في حده الأدنى؟.
إن المنطق القرآني يرينا وبكل وضوح، الأسباب التي حدت بالسماء أن تحذِّر الإنسان من الانسياق وراء هذا التساؤل المخيف المرعب. فالإنسان يرتكب الذنب، ويتعاطاه في شكله الظاهري، لكن واقع الأمر يخفى عليه، فما أحلّه الله تعالى، وما أوجبه، وما حرمه، وما نهى عن الاقتراب منه، ولو لم يكن على نحو الأمر المولوي كالمكروهات، إنما هي أمور صنعت بعين الحقيقة، ولم تُصنع بعين الرغبة في الحصول على أمر شخصي.
يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُوْنِ﴾([5])، فظاهر الأمر أنه يريد عبادتهم، لكن ما يترتب على العبادة إنما يكون من صالح البشر. فلو لم يخضع الإنسان لله تعالى في ركوع وسجود، لاستكبر وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾([6])، وخير مصداق على ذلك فرعون في زمنه، وكم هي الفراعنة التي تدرج على الأرض هذه الأيام. صحيح أنهم لم يقولوا كما قال فرعون، لكن تصرفاتهم وأقوالهم تصب في هذا الاتجاه والمنحى.
هنالك أسباب كثيرة تستعرضها لنا السماء، تشكل جانباً مما أكده الشرع من الحرمة ولزوم الاجتناب عن المواطن المتصفة بتلك الصفة (الحرمة).
فقد تكون الرغبة الجامحة غير المقننة أو الموجهة التي تستولي على كيان الإنسان ـ لا سيما الشاب ـ تسوقه نحو لذة تتقضّى في دقائق، وفي أحسن الحالات في ساعات، لكن ما يعقب ذلك هو الجانب الأهم، وهو الجانب الخفي. وأحياناً تزداد الأمور تعقيداً ويخرج الإنسان من دائرة نفسه ويتجاوز على ما هو أكثر من ذلك بكثير.
والله سبحانه وتعالى من خلال القرآن الكريم على لسان النبي الأمين محمد (ص) يقدم لنا نماذج وشواهد ترتبت على ارتكاب الذنب، سواء من الفرد أم الجماعة، الصغير أم الكبير، الرجل أم المرأة، فالذنب بما هو ذنب له أثر فاعل ونافذ وقوي ومربك لجميع الأمور التكوينية كما سنقف على حقيقة ذلك من خلال النصوص التي نتلوها.
1 ـ ضَنْك المعيشة:
فارتكاب الذنب يستوجب ضيق الحياة على الإنسان، حيث تصبح الحياة في حالة من الضيق والحرج بحيث تمتزج الأوراق فيما بينها، فلا يستطيع أن يمسك بورقة منها. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى﴾([7]). لذا ترى البعض يقول: السماء فتحت أبوابها، إلا أنني لم أصل إلى نتيجة. فالمقتضي للغنى والعلم موجود، لكن المانع موجود أيضاً. فلطف الله متاح لجميع البشر، ونعمه مفاضة على الجميع، ولكن ثمة ما يمنع من وصول ذلك اللطف والفيض، وهذا المانع هو الذي نصنعه نحن، فالسماء مشرعة الأبواب، بدليل أن الأنبياء والرسل والأولياء دعوا إلى رحمة واسعة، وهي الرحمانية، التي تشمل كل إنسان على وجه الأرض، حتى لو لم يكن معتقداً بمعتقد الحق.
فالآية صريحة وواضحة في أن من يرتكب الذنوب سوف يواجه ذلك المصير السيِّئ، ألا وهو الحياة الضيقة، والمعيشة الضنك، فأينما ذهب يميناً أو شمالاً، لا يجد سوى الضيق. فالأبواب مفتحة، لكنه لا يصل إلى نتيجة، فكأنها أغلقت في عينيه، فيلقي باللائمة على مسؤول الدائرة، أو الجهة المسؤولة عن المؤسسة الفلانية، لكنه لا يلتفت إلى ما اجترحه هو من الذنب.
يتصور البعض مثلاً، أن الشهادة هي المفتاح الأول والأخير القادر على فتح كل الأبواب المغلقة، ويغفل المفاتيح المرتبطة صنعتها بالسماء، وهي بأيدي الجميع على نحو التأسيس، لكن الإنسان هو الذي يضيعها من يده أو يفرط فيها، أو يستعملها في غير مواضعها، فلا تنتهي به إلى نتيجة كان يتوخاها.
2 ـ ذلة المذنب:
ومن آثار الذنوب، أنها تستوجب الذلة لمرتكبها، فترى المرء عزيزاً في قومه، يتحرك فيما بينهم لا يهاب ولا يخشى، لأنه لم يرتكب ذنباً ليوقع نفسه في دائرة الملامة، أما إذا ارتكب الذنب، انعكس ذلك على علاقته بالآخرين، فيقصي نفسه، ويضيق على حاله، ويتحرك ضمن جماعة محدودة وضيقة.
وتسوء الأحوال أحياناً بسبب ارتكاب الذنب، فتجد المذنب محرجاً حتى مع خاصة الخاصة وأقرب القرابة إذا ما حضر مجالسهم، أو وقف إلى جانب أحد منهم. يقول تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾([8])، فقبل ارتكابهم المعصية كانوا في عزة وكرامة، فلما عصوا الله سبحانه وتعالى وصلت بهم الأمور إلى هذه الحالة من الذلة والمسكنة.
فالإنسان لا يرضى لنفسه أن يكون ذليلاً مقصياً، أو أن يمارس دور الإقصاء لنفسه بنفسه، فهو بطبعه اجتماعي يحب الآخر، ويقبل عليه، حتى وإن وقع اختلاف في قضية أو أخرى. فحالة المحبة التي فُطر عليها، وعدم استغنائه عن أخيه الإنسان، يدفعه في هذا الاتجاه، لكنه إذا ارتكب الذنب أسقط تلك القيمة كلها، ويبقى مطارداً لنفسه في داخل نفسه، وهذه واحدة من أمهات المشاكل، وهي من الأمراض المستشرية اليوم مع شديد الأسف، بأن يجد المرء حرجاً في دخوله لهذا المجلس، أو ذهابه إلى تلك الجماعة، والسبب هو الشعور المؤلم بالذنب، وإلا لو لم يكن يعيش تلك الحالة من الشعور، لوجد أن المجالس جميعاً مجالسه، لأنها مجالس المؤمنين.
3 ـ الغفلة وتضييق الإدراك:
ومن آثار الذنوب أنها تسبب الغفلة، وغياب أو إلغاء حالة الوعي عند مرتكب الذنب، وتضييق مسارات الإدراك، وإذا ما توفرت تلك العناصر الثلاثة في الشخصية فلا شك أن السبب في الخسران هو الذنب، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم. وهي خسارة كبيرة جداً.
ومن المؤسف أن بعضنا لا يرى الخسارة إلا في المال مثلاً، كأن يخسر في تجارة، أو يفقد مالاً معيناً، أو أن يراها في فقدان قريب عزيز عليه، ولكن هنالك خسارة أكبر، كما لو أنه لم يحظَ برضا الوالدين، فهذه خسارة ما بعدها خسارة، فكيف إذا وقع في عدم رضوان الله تعالى، وعدم القبول من محمد وآل محمد (ص).
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُون﴾([9]).
4 ـ جلب المصائب والمحن:
ومما يذكره القرآن الكريم في آثار الذنب، أنه يكون سبباً لجلب المصائب والمحن والآلام على الإنسان نفسه.
وقد يقول البعض: إنني لم أرتكب ذنباً، فها أنا ذا أصلي وأصوم وأقوم بالواجبات. ولكن بعض الذنوب، هي من الخفاء على الإنسان بحيث إنه لو أراد أن يتأمل احتاج أولاً إلى أن يهيئ النفس للتأمل، وإلى الفترة الطويلة كي يلتفت، وإلى المنبّه الدائم.
لذا فإن الثمرة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترديد الموعظة، هو إيجاد هذه الحالة من اليقظة عند الإنسان حتى لا يقع في ارتكاب الذنب، وتبقى المشاكل والمصائب والمحن تطارده حيث اتجه، فإن طرق باب التجارة وجد المشاكل أمامه، وإن رغب في مواصلة العلم وجد الموانع والابتلاءات أمامه، وإن أراد الانفتاح على الناس من حوله وجد العوائق تقف في طريقه، ذلك لأن الذنب يطارده، ويعمل عمله فيه.
يقول تعالى: ﴿وَما أَصَابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ﴾([10]). فلم تكن المصائب هي الهدف من خلق الإنسان، بل كان الهدف إعمار الأرض، أي إعطاؤه مفاتيح تبنى على أساسها الأرض وتعمر، وليس من المعقول أن يطلب منه إعمار الأرض ثم توصد الأبواب في وجهه، وتوضع عليها الأقفال، لأن لازم ذلك نقض الغرض. فالغرض من خلق البشر أن تكون الأرض عامرة، بالعدل والمحبة والصدق والأمان والأخوة والتعاون وما إلى ذلك.
5 ـ الفساد العام:
ومن آثار الذنب أنه يوجب حصول الفساد العام، فالبعض يتصور أنه عندما يرتكب ذنباً فإن الذنب يبقى في حدود دائرته ولا يتعداها إلى دوائر أخر، وهذا مخالف تماماً لواقع الأمر.
يقول تعالى: ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْ النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوْا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ﴾([11]). فالذنب يجر الذنب، ويمكن أن يؤثر المذنب بمن حوله، قال الشاعر:
لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفي على تلك الصحيحة تجرب
فالخوف أن تسري حالة التساهل في تعاطي الذنب عند زيد من الناس، فيتأثر بها ذلك المؤمن الذي لم يعتد على تلك الساحة.
وبمثال بسيط: التدخين، فنحن نجد أن جميع العقلاء، حتى من يمارس هذه العادة، يقطع ويجزم أن التدخين ليس فيه إلا الخسارة المادية والجسدية، وفي البداية يشمئز منه كل أحد، لكنه يكفي أن يجلس للاستراحة يوماً أو يومين، ليتأثر شيئاً فشيئاً، حتى يصبح من رواد المجلس، وممن يتعاطاها مثلهم بلا فرق.
هكذا الحال في الذنب، إذ ترى أن المرء في أول أمره يشمئز، وربما ينهى عن الذنب، لكنه بمرور الأيام وتكرار الذنب من الآخرين، وقربه منهم، ربما اعتاده وأصبح يأنس به.
فالذنب لا يبقى في دائرة صاحب الذنب، إنما يسري إلى دوائر أخرى أوسع وأوسع، حتى يسبب الفساد العام.
6 ـ تغيير النعم الإلهية:
ومن آثار الذنوب أنها تغير النعم الإلهية التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وكلنا يقرأ في دعاء كميل: اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم. فهنالك ذنوب تقلب الأمور رأساً على عقب، بحيث يحصل ما يعبر عنه في المفاهيم الإسلامية بالآفات السماوية أو الأرضية، وما يعبر عنه بلغة الصحافة والإعلام بالكوارث غير المترقبة، وهي حوادث مرعبة مفاجئة، لا يمكن للإنسان أن يتصدى لها بالصواريخ أو الطائرات أو غير ذلك، كما هو الحال في الزلازل والبراكين والريح السوداء وما إلى ذلك.
فالكثير من هذه الحوادث إنما هي بسبب الذنوب، فلا يرتقي للسماء ما يستوجب منع ذلك، إنما يرتقي ما يؤمّن سبل وقوع العذاب العام.
فغياب النعم الإلهية عن الإنسان سببها الإنسان، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾([12]). فهذه حقيقة قرآنية، ولو أن أحداً وقف قليلاً مع نفسه بصراحة لرأى تلك الحقيقة قد حصلت معه، وكيف أن النعمة تبدلت إلى نقمة، فقد كان الخير واسعاً بين يديه، وإذا به يعيش حالة من الجزر.
فالكثير من الأمور بمقدور الإنسان أن يضع لها حلاً، قبل أن تتدخل فيها السماء، لأن السماء إذا تدخلت إما أن تترك المساحة للإنسان، إمهالاً منها له، من أجل الازدياد في دائرة امتحانه، وإما أن تغير نعمته.
7 ـ نزول العذاب:
فارتكاب الذنب يستوجب نزول العذاب، وفي الأمم السابقة كانت الأمثلة واضحة، فمنهم من أهلكهم بالريح الصرصر العاتية، ومنهم من خسف بهم الأرض، فجعل عاليها سافلها.
لكن هذه الأمة لا تشملها الكوارث العامة، كرامةً للنبي الأعظم محمد (ص) وآله، ولكن هنالك الكثير من الرسائل السماوية التي ترسل للبشر. فزلزال هنا، وبركان هناك، وريح عاتية هنالك، وفيضان هنا أو هناك، ولكن العذاب الشامل بالشكل العام الذي يشمل الأمة كلها غير موجود، وهو مدفوع عن الأمة كرامة للنبي (ص).
بالرغم من ذلك هنالك العديد من الرسائل التحذيرية التي تصلنا من السماء، ونسأل الله تعالى أن يدفع عن عموم المسلمين كل سوء ومكروه وبلاء، وأن يحفظ للبشرية جمعاء استقرارها، لأن مساحة الهداية إذا ما ظهر الإمام المهدي (ع) مساحة كبيرة، فكما دخل الناس في دين الله أفواجاً بفتح مكة، فإن الخلف الهادي من آل محمد (عج) عندما يخرج سيكون الفتح على يديه أوسع أبواباً.
لذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا رِجْزَاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوْا يَفْسُقُوْنَ﴾([13]). فقد ذكرت الآية الشريفة الذين ظلموا، ولم تذكر غيرهم، لا من الكفار ولا من المشركين.
ومساحة الظلم واسعة، منها ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لمجتمعه، وظلمه لأهل البيت (ع). فظلم أهل البيت (ع) من أبرز المرديات في هذه الأمة، وما تدفعه اليوم من ضرائب، وما ينتابها من مصائب في أكثر من مكان، وفي أبشع الصور، إنما هو بسبب ظلم أهل البيت (ع) فما تعرض أحد لظلمٍ، كما تعرض له أهل بيت النبوة. فمهما تصورنا من البشاعة في ظلم أحد من الناس، فإنه دون ما حصل في كربلاء، سواء مع الطفل الرضيع الذي حُفر قبره وأُخرج ليحتز رأسه ويهدى إلى الطاغية، أم مع غيره. فكم هي ظالمة لنفسها هذه الأمة!
رغم أن الإمام الحسين (ع) وقف في اليوم العاشر يذرف دموعه أسفاً وحسرة على هذه الأمة، وهو القائل لأخته زينب (ع): والله ما على نفسي بكيت، إنما أبكي على هؤلاء الذين يدخلون النار بسببي. فلا زال عطوفاً عليهم، بعد أن قتل ولده وإخوته ولم يبق معه أحد.
مشهد من ظلم العترة:
من مشاهد الظلم التي أستعرضها هنا ما حدث مع العقيلة زينب (ع) فقد أخذت من كربلاء إلى الكوفة، وفي الكوفة حصلت أمور صعبة جداً، لكن الأصعب ما جرى عليها في الشام.
فما جرى عليها في كربلاء كانت فيه مطلقة اليد، تتحرك في ظل الإمام الحسين (ع) وتحت كفالة العباس (ع) إلى آخر اللحظات، والأنصار من حولها، ولما فقدتهم ولم يبق معها إلا الإمام السجاد (ع) كانت تتحرك في ظله، وأخذت منه التكليف الشرعي. فلم تتخلَّ عن عموم المسؤوليات، لأنها كان بمقدورها أن تتحرك، بحيث تخرج في سواد الليل إلى جسد الإمام الحسين (ع) وترفع عنه تلك الطفلة التي وضعت فمها على نحر الحسين (ع).
وهكذا في الكوفة، فقد مارست دورها مع ما بها من الجراحات، وألجمت الطاغية اللقيط بن اللقيط حجراً. وكان في مجلسه كمٌّ هائل من الناس، إلا أنهم لم يحركوا ساكناً أبداً. وكان انكسار الطاغية عبيد الله بن زياد في الكوفة بفعل وقفة زينب (ع). وبهذا تكون قد خرجت من الكوفة منتصرة، وهكذا الإمام زين العابدين (ع) خرج منها منتصراً رافع الرأس، لأن الطاغية تعرى وافتضح.
أما في الشام فكانت المأساة الحقيقية، فقد جيء بالسبايا والإمام السجاد معهم، حتى صاروا على مقربة من المسجد الأموي، وقيل من باب توما، وهي منطقة المسيحيين واليهود، فأنزلوهم هناك، وجمعوا الركب.
وفي تلك الساعة كان يزيد في المسجد الأموي، فسأل عن الركب الحسيني، ثم قال: أدخلوهن موثقات بالحبال. فلما جاء الغلام ليضع الحبال في رقاب بنات الرسالة، قال له الإمام زين العابدين: دعهن، أنا أضع الحبال في أعناقهن. فراح يضع الحبل في رقبته، ثم يمر به على بنات الرسالة المسبيات الواحدة تلو الأخرى، ثم يضعه في رقبة عمته زينب (ع).
وإلى اليوم يعمل أعداؤهم ما يعملون من المنكرات، ووالله لو وُجدت واحدة من حرائر علي وفاطمة (ع) لصنعوا معها ما صنعوا مع عمتها.
وها نحن اليوم نسمع عن هدم ضريح أويس القرني، وهو من يحمل أسرار الإمام علي (ع) وهذه العصابة التي قامت بهذا العمل، إنما هي عصابة ظالمة صنعتها الماسونية العالمية، لتنفذ مشاريعها من خلالها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدفع عنا وعنكم البلاء، عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يجعلهم في رفعة وعظمة، وأن يقطع أيادي الظالمين أينما كانوا، وأن يحفظ أضرحة المعصومين (ع) وأنصار المعصومين، إنه ولي ذلك.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.